أزلو محمد يكتب: المسافات بيني وبين ذاتي

في زحمة الحياة، حيث تتشابك الأحداث وتمتزج الأصوات، تصبح المسافات بيني وبين ذاتي أشبه بمتاهة تمتد بلا نهاية. أحيانًا أجد نفسي غريبًا عني، كأنني أراقب شخصًا آخر من بعيد. أسمع حديثي الداخلي، لكنني لا أفهمه دائمًا. أرى انعكاسي في المرآة، لكنه يبدو غريبًا، كأنه وجه لم أعتد رؤيته من قبل.
تبدو المسافات بيني وبين ذاتي كأنها بحر واسع، أمواجه هي مشاعري المتلاطمة، ورياحه هي الأفكار التي لا تهدأ. أحيانًا أجد نفسي أبحر في هذا البحر، أبحث عن ميناء أرسو فيه، عن لحظة أستعيد فيها ذاتي التي ضاعت بين زوايا الأيام. لكن كلما اقتربت من الشاطئ، شعرت أنني أبتعد أكثر، كأن الذات التي أبحث عنها تتلاشى في الأفق كسراب.
في ليالٍ هادئة، عندما يخفت ضجيج العالم، أحاول أن أقترب من ذاتي. أفتح نافذة قلبي وأدع أفكاري تنساب. أُصغي لصوت داخلي غاب طويلًا بين صخب الحياة. أحيانًا أجد في هذه اللحظات بقايا من ذاتي الأولى، تلك التي كانت مليئة بالأحلام والنقاء. لكنني أدرك أن الزمن قد نقش عليها خطوطه، وأنها لم تعد كما كانت.
تسألني ذاتي: “أين كنت؟” وأجيبها بصمت، لأنني لا أملك إجابة. أحيانًا أشعر أنني خذلتها، أنني انشغلت عنها في البحث عن أشياء أقل أهمية. أحيانًا أشعر أنها خذلتني، أنها تركتني في منتصف الطريق ولم تنتظرني. لكن في النهاية، أدرك أنني وهي لسنا سوى وجهين لعملة واحدة، وأن المسافات بيننا ليست إلا أوهامًا صنعتها الأيام.
ربما تكون هذه المسافات ضرورية. فالبعد أحيانًا يجعلنا نرى الأشياء بوضوح أكبر. يجعلنا نُدرك قيمة ما فقدناه، ويمنحنا فرصة للبحث عن أنفسنا من جديد. ربما تكون هذه المسافات هي ما يدفعنا للنمو والتغيير، هي ما يجعلنا نُعيد اكتشاف ذاتنا في أشكال وصور مختلفة.
لكنني أعلم أنني لن أستطيع البقاء بعيدًا عن ذاتي طويلاً. فكلما طالت المسافة، زاد الحنين. وكلما زاد الحنين، أصبحت العودة أمرًا لا مفر منه. سأعود يومًا إليها، إلى ذاتي التي انتظرتني بصبر، إلى تلك الزاوية الهادئة في داخلي التي لم تغادرها أبدًا.
المسافات بيني وبين ذاتي ليست إلا رحلة، رحلة أتعلم فيها كيف أكون أنا، بكل تناقضاتي وضعفي وقوتي. هي رحلة نحو فهم أعمق لذاتي، نحو سلام داخلي لا تهزه رياح الحياة.
وفي نهاية الرحلة، سأدرك أن ذاتي لم تكن يومًا بعيدة عني. لقد كانت دائمًا هناك، تنتظر أن ألتفت إليها، أن أُصغي لصوتها، أن أُعيد اكتشافها من جديد.





