أزلو محمد يكتب” وجوه الغياب: حين يزهر الفقد”

في زحمة الحياة، حيث تتراكم الأوقات كأوراقٍ في دفترٍ مهمل، يطل الغياب كظلٍ طويلٍ لا يبارحنا. الغياب ليس فراغًا يبتلعنا، بل هو حضورٌ يتقن التخفي، ووجوهٌ لا تغيب حقًا بل تتجلى في كل زاوية من زوايا أعمارنا. إنه لقاءٌ مؤجلٌ بين القلب وظله، بين الأمل وارتجاف المسافات.
حين يغيب الأحبة، لا يختفون كأنهم ذرة انطفأت في أفق الكون. إنهم يتوزعون في تفاصيلنا، يقطنون في زوايا الذاكرة، ويطرقون أبواب الحنين كلما مر نسيمٌ يشبه صوتهم، أو أطلّ لحنٌ يحمل ملامحهم. الغياب ليس موتًا، بل هو حياةٌ أخرى، حياةٌ تتسلل إلى أعماقنا، فتزرع بذور الحزن، لكنها أيضًا تروي أشجار الذكرى.
أحيانًا، يبدو الغياب كالرياح التي تعبر الحقول: لا نراها، لكننا نلمس أثرها في تمايل السنابل. هو القصة التي لا تكتب، لكنه الحرف الذي يضيء صفحاتنا. من قال إن الفقد ينهي الحكايات؟ بل هو البداية، بدايةٌ لإدراك ما لم ندركه ونحن نملكهم. في الغياب، نعيد تشكيل ملامحهم، نعيد ترتيب حكاياتهم، ونتعلم أن نستمع إلى صمتهم الذي يخبرنا أكثر مما فعلت كلماتهم يومًا.
في لحظات الفقد الأولى، يبدو الغياب كجرحٍ لا يندمل، كليلٍ بلا نجوم. لكن مع مرور الوقت، يبدأ الغياب في التشكل كزهرةٍ صامتة، تنبت في قلب الحزن. تلك الزهرة ليست مجرد ذكرى، بل هي امتدادٌ للحياة التي عاشوها معنا. هي الملامح التي نستعيدها في أحلامنا، والضحكات التي نسمعها في صمت الليالي.
الفقد يعلمنا لغةً جديدة، لغةً نتحدثها بقلوبنا حين تعجز ألسنتنا عن الإفصاح. هو درسٌ في الحب، لكنه حبٌ مشوبٌ بالحنين، حبٌ لا يكتمل لكنه لا ينتهي. كل زهرةٍ تزهر في حديقة الغياب، تحمل بين بتلاتها جزءًا من أرواحهم، جزءًا من أرواحنا التي تركناها معهم.
حين يغيب من نحبهم، نكتشف أننا لا نفتقدهم فقط، بل نفتقد أنفسنا كما كنا معهم. هم المرايا التي كنا نرى أنفسنا من خلالها، والضوء الذي كان ينير زوايا أرواحنا. في الغياب، نرى أنفسنا عراةً أمام الحقيقة، بلا أقنعة، بلا زينة. نعود إلى جوهرنا الأول، إلى ذلك الطفل الذي يخشى الوحدة لكنه يتعلم منها.
الغياب يجعلنا نعيد النظر في كل شيء: في الكلمات التي لم نقلها، في اللحظات التي لم نعشها كما ينبغي، في الأحضان التي بخلنا بها، وفي الأوقات التي ضاعت بين أيدينا كالرمل. لكنه أيضًا يمنحنا فرصةً لنكون أكثر صدقًا مع أنفسنا، وأكثر وعيًا بقيمة ما نملك قبل أن نفقده.
لا يكون الغياب دائمًا فقدًا مؤلمًا، بل قد يكون هديةً خفية. هو الفرصة لإعادة بناء علاقتنا مع الحياة، مع الحب، ومع الوقت. هو دعوةٌ لنحب أكثر، لنعيش أكثر، ولنتذكر أن كل لحظة هي هديةٌ لا تعاد.
في وجوه الغياب، نجد انعكاسًا لأرواحنا، نجد الدروس التي لم نتعلمها إلا بعد أن رحلوا، ونجد الزهور التي أزهرت في قلوبنا رغم كل شيء. الغياب ليس نهاية، بل هو فصلٌ جديدٌ من الحكاية، حيث نكتب بأسلوبٍ مختلف، بلغةٍ أشد عمقًا، وبقلبٍ أكثر اتساعًا.
وجوه الغياب ليست مجرد أشباحٍ تسكن حاضرنا، بل هي نورٌ خفي يضيء دروبنا. حين نملك الشجاعة لنرى الجمال في الفقد، حين نسمح للغياب أن يزهر في قلوبنا، نصبح أكثر إنسانية. لأن الحياة ليست فقط بما نملك، بل بما نفقد، وبما نحتفظ به من ذكريات تسكننا إلى الأبد.
حين يزهر الفقد، يصبح الغياب وردةً لا تذبل، وعطرًا لا يتلاشى، وقصيدةً لا تنتهي.





