الإبداع الاحتفالي من يحدد قيمته و قامته؟

بقلم: عبد الكريم برشيد
فاتحة الكلام
يقول ابو الطيب المتنبي، الشاعر الذي اعز عصره و امته، والذي خذله كثير من اهل عصره وكثير من بني امته:
(انا الذي نظر الأعمى الى ادبي
واسمعت كلماتي من به صمم)
وما معنى ان تكون انت هو انت، وان يكون اسمك هو أبو الطيب المتنبي، وان يكون اغلب من يقرا شعرك لا يرقى إلى درجة شعريتك الراقية؟
وما معنى ان تكون حكيما و خطيبا و ناطقا بالحق، اذا كنت في وطن الصم والبكم و العميان؟
وما معنى ان تكون احتفاليا، في رؤيتك وفي فكرك و فنك، وان تبشر بالفرح وبالحق في الفرح، وان تنشر فلسفة الفرح، اذا كنت محاصرا باجساد و أرواح بشرية غير عادية وغير سوية، يسكنها الفراغ و الخواء و الياس والبوس و اللامعنى و اللاجدوى و اللاشيء و اللا احد..
وفي كتاب ( كتابات على هامش البيانات) 1999 يقول الاحتفالي في مدخل الكتاب ما يلي:
(وعند حد البلاغ المبين تنتهي المسؤولية الاحتفالية لتبدا مسؤولية القراءة، ومن غير تواطؤ حقيقي ـ واضح او خفي ـ بين الكتابة والقراءة، وبين الأنا والآخر وبين الذات والموضوع، فإنه لا يمكن الوصول إلى اية نتيجة، وإذا كان اهل القانون يقولون ( لا يعذر احد اجهزه بالقانون) فإن الاحتفالية ـ بدورها ـ ترفع في المرحلة الراهنة الشعار التالي:
( لا احد يعذر لجعله بالاحتفالية) ان البيانات هي جزء اساسي من ثقافة هذا العصر، وهي لقطات حية ومعبرة في المشهد الثقافي الإنساني، وهي وجهة نظرنا ـ نحن / الآن/ هنا، وذلك في سوق عالمية تتعدد فيها الاجتهادات والنظريات ووجهات النظر)
الاحتفالية جوهر غني .. :
وما يهم الاحتفالي أولا، هو ان يعرف نفسه، وان يؤمن بالمعرفة وبالحق في المعرفة، وان يعرف حدوده، في كل امتداداتها وتجليلتها، الكائنة والممكنة والمستحيلة، وان يعمل على توسعة هذه الحدود بشكل متجدد، وان يطلب الحكمة من المهد الى اللحد، وان يكون في إنسانيته انسانا كاملا، وان يكون في وطنه الكوني الكبير مواطنا كونيا حقيقيا، وميزة هذا المواطن الاحتفالي هو انه لا يسعى سوى لأن يكون انسانا صادقا، وان يكون هو وليس غيره، وان يكون ثابتا على ثوابته، وان يكون مجددا للمتغيرات، وان يكون هو، بكل ما هو فيه، وبكل ما هو عليه، وليس بما اضيف اليه، وهو اساسا جوهره الخفي، قبل مظاهره البرانية، وليس اي شيء اخر، اي هو ذاته وكينونته، وهو روحه وجوهره، وهو ذاكرته و تاريخه، وهو فكره، وهو علمه، وهو فنونه، وهذا الاحتفالي هو اساسا قيمة و قامة، وهو قيمة لا تقدر بثمن، وهناك بالتاكيد فرق كبير بين القيمة والثمن، وثمن الناس وثمن القيم وثمن الأفكار وثمن المبادئ الرمزية، قيمتها اغلى واعلى من كل القيم المادية، ونعرف ان الثمن يحدده السوق، وفي سوق النخاسة يمكن ان تجد النخاسين ونجد العبيد، ولكنه ابدا لا يمكن ان نجد المبدعين والمفكرين الأحرار ، والثمن في السوق يتحدد اعتمادا على حكم خارجي، و اعتمادا على قانون العرض و الطلب، اما القيمة الرمزية الحقيقية فيحددها جوهر الأشياء و جوهر المعاني وتحددها حقيقتها الداخلية ايضا، والمثل الذي كنت اسمعه في طفولتي يقول ( قد ما عندك قد ما تسوى) بمعنى انه اذا كان لديك الكثير من المال، فانت مهم، ولكن، هذا الذي هو عندك اليوم، قد لا يكون عندك غدا، وما هو عندك يمكن ان يكون عند غيرك، مما يعني ان ما هو لك ليس هو انت، وهو قيمة مضافة، قد يكون اليوم عندك وغدا يكون عند غيرك، فكيف يمكن ان نحدد قيمتك اعتمادا فقط على ما هو ليس انت؟
سلطة الاحتفال من سلطة الجمال:
و الاحتفالية قيمتها في ذاتها، وليس في ما قد يكون لها، وهي بهذا ليست سلطة مال، وليست سلطة جاه، وليست سلطة إعلام، وليست سلطة نفوذ، ولكنها مع ذلك فهي سلطة رمزية قوية، تتمثل في جماليات افكارها وفي قوة اختياراتها وفي سحر معانيها، وفي نبل مقاصدها، وفي شرف مشروعها الفكري والجمالي والأخلاقي
وبالنسبة لهذه الاحتفالية، فكرا وعلما و فنا، فإن القيمة الحقيقة، لأي شخص من الأشخاص، فإن ما يحددها هو ما يفعله، وهو ما يقوله، وهو ما يكتبه، وهو ما يبدعه، وهو ما يقدمه الناس من اشياء جميلة ونبيلة، ولهذا يكون من حقنا ان نجعل ذلك المثل المغربي القديم ( قد ما عندك قد ما تسوى ) يصبح على الشكل التالي
( بقدر ما تعمل، ويقدر ما تفعل و بقدر ما تعطي، تتحدد قيمتك و قامتك)
وإن كل من يعمل اي شيء، له وزنه وڨيمته، فإن قيمته لابد ان تكون هي نفس قيمة ذلك الشي، وان تكون من نفس جنس ذلك الفعل، وبالمقابل، فإن من لا يفعل اي شيء، فهو بالتاكيد لا شيء.. او هو لا احد..
وهذا العالم هو اليوم سوق كبير، وكلنا فيه بضائع، ( إلا من رحم ربك) وانجح كل البضائع واغلاها وأعلاها هي البضائع التافهة، وهو عالم تافه يبحث عن التفاهة والتافهين، وهو عالم فارغ يبحث عن الفراغ والفارغين، وهو عالم ضيع المعنى ولا يبحث إلا عن اللامعنى
وما يهم هذا العالم اليوم اكثر، ليس هو النوع، ولكنه الكم، انتج كثيرا تربح كثيرا.. وكن آلة إنتاج عمياء و صماء وبكماء، ولا تكن انسانا مفكرا و حكيما و مبدعا وخلاقا
الاحتفال باعتباره فعل مقاومة:
وهذه الاحتفالية البوم، هي حركة في تيار فكري و جمالي واحد، جاء بها سياقها التاريخي في اواسط السبعينات من القرن الماضي، وهي تيار واحد نعم، ولكن بأعمار متعددة، و بانفاس متجددة وبرؤى متنوعة ومركبة ومتداخلة ومتقاطعة.ومتكاملة ومتنناغمة، وبهذا فقد كانت لهذه الاحتفالية ـ الاحتفاليات مظاهر متعددة، وكانت لها تجليات كثيرة، وكانت لها درجات مختلفة ومتفاوتة في سلم الوجود وفي خرائط الحياة والتطور، وكانت لها حالات و مقامات ومواقف بعدد لا بعد ولا يحصى.
وقراءة هذه الاحتفالية، من داخل فكرها وعلمها وفنها، لا يمكن أن تكتمل إلا بمعرفة ذلك الاحتفالي الذي اختارها واختارته، أي ذلك الإنسان ( الذي تغير عالمه الداخلي، أكثر مما تغير عالمه الخارجي، والذي اغتنت روحه أكثر مما اغتنت جيوبه) هكذا كتب الاحتفالي المؤسس والمجدد في كتابه ( انا الذي رايت)
وهذه الاحتفالية هي أساسا خط واحد، يتجه إلى الأعلى وإلى الأبعد دائما، وهي في هذا الخط الواحد فعل واحد ايضا، ما يميزه هو انه فعل متعدد و متمدد ومتجدد، في النفوس والأرواح، قبل الأمكنة وقبل الأزمنة، ولعل اهم ما يميز هذا الفعل ـ الأفعال هو المواجهة دائما، وهو المقاومة، وهو التحدي، وهو التصدي، وهو الثبات، وهو التعييد، وهو التجديد، وفي هذا المعنى يقول الاحتفالي، الباحث عن جغرافيا نفسيةوذهنية وروحية جديدة، يقول نحن ( نقاوم المأتم بالاحتفال، ونقاوم الفوضى بالنظام، ونقاوم الحمق بالعقل، ونقاوم الآلية بالحيوية، لأننا كائنات بشرية حية، ولسنا ألآت ميكانيكية، ونقاوم العبودية بالحرية، ونقاوم الموت بالإصرار على الحياة، ونقاوم الظلام بإيقاد الشموع والقناديل والمصابيح) وهذا البوح من (بيان اربيل للاحتفالية المتجددة) الذي صدر من مدينة اربيل الكردية العراقية.






