الاحتفالية: الماضي الذي لا يمضي و الآتي الذي سوف يأتي

بقلم: عبد الكريم برشيد
فاتحة الكلام
بين الماضي الذي لا يمضي و الآتي الذي سوف ياتي، تحيا الاحتفالية، ومعها وفيها يحيا الاحتفالي، بحثا عن احتفاليات اخرى ممكنة الوجود
وهذا الاحتفالي؛ المفكر والفنان والصانع والساحر، هو الذي عاش في واقعه اليومي مسرحيات كثيرة جدا، بعضها ضاحك، وبعضها الآخر باك، ثم إنه كتبها، وأبدعها، واقتسمها مع الناس، لأن كل تلك المسرحيات لم تكن مسرحياته وحده، ولكنها كانت مسرحيات زمنها الذي أوحى بها، وكانت مسرحيات إنسانها الذي عاشها وأملاها، ومع هذه المسرحيات حاول هذا الاحتفالي أن يوجد مسرحا آخر، وأن يكون هذا المسرح الآخر حقيقيا وصادقا وحيا وجديدا ومشاغبا ومختلفا ومخالفا وممتعا ومدهشا ومستفزا، تماما كما هي هذه الحياة، في عنفها وعنفوانها، وفي جديدها وتجددها، وفي غرائبيتها وعجائبيتها. ولقد أكدت هذه الاحتفالية، موضوع هذا المسرح الجديد والمجدد، على الخلق و الإبداع أولا، وعلى أن يكون ذلك في مقابل الاتباع، وماذا يمكن أن تكون الاحتفالية ـ في معناها الحقيقي ـ سوى أنها إبداع الأيام والأعوام، وإبداع الحياة والحيوية، وإبداع العقل الخلاق فيها؟
هذا الكاتب الاحتفالي، الشاهد والمشاهد، هو الذي قال في كتاب ( انا الذي رايت)
( إن أجمل كل الأيام هي التي تأتي ولاتمضي..) ثم إنه يستدرك بعد ذلك، ويتساءل:
(ولكن.. أين هي الأيام التي تأتي ولا تمضي؟
أين هي؟
إنني أدعوكم جميعا لتبحثوا معي عنها..)
الكائن و الممكن في العقل الاحتفالي:
ولقد أوصلتني الأيام إلى القناعة التالية، وهي ان يوم العيد هو وحده الذي يذهب ويعود، والذي لا يذهب إلا من اجل ان يعود غدا وبعد غد وبعد بعد غد، وان ياتي مع دورة الأيام بدماء جديدة، وأن يعود إلى الحياة بوجه جديد و وبوعي جديد وبزي احتفالي وعيدي جديد ومتجدد، أما كل الأيام الاخرى العادية، وما اكثرها، فإنها تذهب ولا تعود، وقد نعتبر أن هذا نسميه العيد هو الماضي الغائب، أو هو الماضي المغيب، مع أنه مع أنه حاضر دائما وأبدا، ولكن فقط، هو حاضر في الأوراح الشفافة وفي النفوس الحية وفي الأيام الاستثناىية السعيدة
وبخصوص هذه الكتابة الاحتفالية، في طبيعتها المغربية والعربية الجديدة، والتي تحتفي اليوم بالحياة وبجماليات الحياة، وتحتفي بجماليات الوجود الموجودات، وتحتفي بالعبقربة لدى بعض الأحياء من الناس الاستثنائيبن، فإنني اتساءل:
ــ ماذا يمكن أن تكون هذه الكتابة التي تعيد اليوم كتابة فلسفة التعييد الاحتفالي، سوى أنها محاولة للقبض على الزمن الذي كان، وأنها بذلك فهي فعل سيزيفي عاقل، وذلك لاستعادة الزمن العيدي في تاريخ هذه الاحتفالية، والذي هو تاريخ مفتوح من جميع الجهات؛ مفتوح من جهة الماضي الذي لا يمضي، ومن جهة المستقبل الذي سوف يأتي، ومفتوح من جهة الكائن ومن جهة الممكن ومن جهة المحال أيضا، و مفتوح كذلك من جهة الداخل ومن جهة الخارج ومن جهة الأسفل ومن جهة الأعلى
وماذا يمكن أن أقول اليوم عن هذه الكتابة، سوى انها طموح مشروع من اجل أن نحيا الاحتفالية اولا، ومن اجل ان نقبض على روحها وعلى جوهرها وعلى فلسفتها؟
وهل هذا شيء ممكن؟
واقول هو ممكن، ولولا هذا الإيمان بوجود الممكن ما كتب الاحتفالي كتابا في بداية المسار الاحتفالي، وأعطاه عنوان (:حدود الكائن والممكن في المسرح الاحتفالي)
وهذه الاحتفالية هي فعلا روح، قبل أن تكون أي شيء آخر، وهي روح اللحظة الحية وروح التاريخ، وهي روح الزمن وروح الجمال وروح الحقيقة، وكيف يمكن القبض على هذه الروح؟
وفي هذا المعنى يقول الاحتفالي في نفس كتاب ( انا الذي رايت)(القبض على الاحتفالية والقبض على الريح سواء، إنهما معا فعلان اثنان لحقيقة واحدة تسمى المحال، وفي أحيان كثيرة، قد يصبح هذا القبض على الريح قبضا على الجمر، ولأننا نتحرك بسرعة كبيرة، ونمشي في اتجاه ما، فإننا من نافذتنا داخل القطار المتحرك أو داخل العربة، لا يمكن أن نقبض على ما نرى، وتخدعنا الأشجار والأزهار وأعمدة الكهرباء، ولا نقدر أن نلمس أي شيء، وأقصى ما يمكن أن نصل إليه ونحققه، هو أن نتفرج، وأن نحتفل، وأن نحيا اللحظة، وأن نعيشها، وأن نتذوق ألوانها وأشكالها وأحجامها وأضواءها، وأن نستمتع بأصواتها وإيقاعاتها وبحالاتها المتدفقة، وهذا فقط، جوهر ما تهدف الاحتفالية إلى تحقيقه والوصول إليه)
إن القبض على الاحتفالية، مثله مثل القبض على الاحتفال، هو بالتأكيد فعل صعب وشاق، وقد يكون القبض على هذا الاحتفال هو المحال، لأن الاحتفال هو أساسا لحظة وجودية زئبقية، وهو حالة شعورية منفلتة، وهو ساعة متحركة، وهو فيض خيال، وهو ظلال أفكار، وهو عبقرية مكان، وهو عبقرية زمان، وهو عبقرية سياق تاريخي، ولعل أقصى ما يمكن أن نقبض عليه، في هذا الاحتفال الوجودي، هو المتعة الجمالية والفكرية في اللحظة المتحركة الآن هنا، ومن ضيعها فقد ضيع كل شيء في حياته، وخسر وجوده ونفسه، وخسر كل شيء
وفعل الاحتفال، مثله مثل الشمس المشرقة والحارقة، فنحن ( ندرك ضوءها وحرها، ولا يمكن أن نقبض عليها، وهي متجددة دائما مثل أمها الطبيعة، وبأنها جادة وهازلة، وعاقلة ومجنونة، وحكيمة ومغفلة، تماما كما هي المسرحيات .. مسرحيات الحياة قبل مسرحيات المسرح ) هكذا تحدث الاحتفالي في مقالة تحت عنوان ( القبض على الاحتفالية) مقالة نشرها الاحتفالي في ركنه الأسبوعي في جريدة (مغرب اليوم) 1996
حكاية رؤية جديدة اسست فكرا جديدا:
ولأن هذا الاحتفالي، المفكر والمبدع، لا يؤمن بالمحال، ولا يؤمن بحدوده الوهمية والرمزية، فهو يخوض اليوم هذه المخاطرة الفكرية الجديدة، وذلك من أجل أن يؤسس لهذه الاحتفالية علمها وفقهها، و يؤسس لها ادابها وفنونها وشعريتها وبلاغتها الممكنة الوجود.
وإلى جانب هذا الإصرار الوجودي والفكري والأخلاقي، فقد أكدت هذه الاحتفالية، من خلال عشاقها، على الصدق والمصداقية دائما، كما أكدت على الحياة وعلى الحيوية وعلى التلقائية وعلى الشفافية وعلى الصدق والمصداقية، وعلى الحرية وعلى الاستقلالية، وعلى أنه لا قيمة لأي إبداع بلا حرية، ولا قيمة لأي فنان لا يكون حرا ومستقلا، ولا قيمة لأي مجتمع لا يكون حرا ومستقلا أيضا..
وما يبدعه هذا الاحتفالي ليس واضحا كله، وليس غامضا كله، وليس قابلا للفهم كله، لأنه مكتوب بروح سحرية، وبلغة شعرية، وبأساليب غير تقريرية، وفي هذا المعنى يقول الاحتفالي الكاتب:
(ففي مسرحياتي فراغات وبياضات كثيرة، وبين السطور والسطور حروف لا تراها كل العيون، وهذه الحروف تحتاج لمن يضع لها نقاطها، سواء فوقها أو تحتها، وعلاماتي وإشاراتي تحتاج لمن يفهمها، وشفرتي تحتاج لمن يفكها، وغمزاتي تحتاج لمن يتلقفها وهي طائرة ) وهكذا نطق الكاتب الاحتفالي في رحلته الافتراصية، والتي دونها في كتاب ( الرحلة البرشيدية)
فالأصل في هذه الاحتفالية هو أنها رؤية جديدة ومتجددة للعالم، فهي رؤية إنسانية وكونية تحتاج إلى قراءة جديدة وعالمة ومتأنية، وفي هذا المعنى يقول الشاعر د. مولود قنبي في مقالة (الحساسية الجديدة وحداثة الفكر الاحتفالي ) ( غير أن انفتاح الاحتفالية على العالم والإنسان و رهانها على الكونية أعطاها لا محدودية المشروع، ووسمها بسعة في الرؤية خاصة وأنها سلكت مسالك للتجديد، ونوعت في طروحاتها، واقتربت من نبض الإنسان، وعانقت همومه ورصدت تطلعاته )
وهذه الاحتفالية، سواء في شقها الإبداعي أو التنظيري، هي أساسا تجربة وجود، وهي يهذا حياة وحيوية، وهي خطوات عقول، وهي خطوات نفوس، وهي خطوات أرواح في دروب الحياة، وهذه الخطوات، في مجموعها، هي ما يشكل المسيرة الاحتفالية، في كليتها وشموليتها، والتي لها ما لها، وعليها ما عليها، وعن هذه الاحتفالية، وعن معناها، يقول الاحتفالي في كتاب الأستاذ عبد السلام لحيابي ( عبد الكريم برشيد وخطاب البوح) ما يلي:
( شيء مؤكد أن هذه الاحتفالية ليست وصفة طبية حتى يمكن أن نرفقها بمنشور يشرح ويفسر محتواها، ويشرح كيفية الاستعمال والمقادير، ويحرص على أن تذيل هذا المنشور بتحذير يقول( يمنع تناول الاحتفالية على ضعاف النفوس وعلى ضعاف القلوب، كما يمنع على الصبيان، وعلى القاصرين عقليا، وعلى المعوقين ذهنيا، وعلى المعطوبين فكريا، وعلى الأميين، وعلى الجاهلين، وعلى المصابين بعمى الألوان و بالعمى الإرادي)
ونجد من الضروري أن نتساءل اليوم، تماما كما تساءلنا بالأمس، وهذه الاحتفالية ـ الاحتفاليات، ماذا تكون؟ حقيقة هي ام وهم؟ واقع ام حلم؟
وفي الجواب نقول ما يلي، هي بالتأكيد شيء آخر غير ما توهم المتوهمون، فهي ( تيار فكري قبل أي شيء آخر) هكذا يعرفها الاحتفالي، وهي ( تيار حار مثل حرارة الإنسان في الأرض، ومثل حرارة عطيل المغربي الذي احترق بعاطفته الملتهبة، وأحرق بها من أحب، ومثل حرارة طارق بن زياد، والذي جعلته نزعته النارية أو الانتحارية يحرق سفن العودة. هي تيار إذن، له اتجاه واحد، يذهب ولا يعود، ولا يمشي في نفس الطريق مرتين، ولا يمكن أن يرجع من حيث أتى، أو أن يتراجع إلى الخلف ) هكذا تحدث الاحتفالي في كتاب ( الاحتفالية وهزات العصر) والتي أكد فيه صدق و مصداقية الحركة الاحتفالية، والتي هي هزة فكرية ومعرفة وجمالية وأخلاقية من هزات هذا العصر.






