الواجهةثقافة وفنون ومؤلفاتمجرد رأي

السفر والمسافر في احتفالية ( يا مسافر وحدك) ــ

بقلم: عبد الكريم برشيد

فاتحة الكلام

لقد توقفت مؤقتا عن فعل الكتابة طيلة شهر رمضان، ولكنني ابدا لم أتوقف لحظة واحدة عن فعل التأمل ولا عن فعل التفكير ولا عن فعل السؤال ولا عن فعل الرؤية و الرؤيا، ولقد كانت جميلة ومفيدة تلك الوقفة التي اخترتها و اختارتني، والتي كان لابد منها، والتي كسرت ما ينبغي تكسيره، والتي رتبت ما كان ينبغي ترتيبه، والتي جددت ما كان ينبغي تجديده، والتي أحيت ما كان ينبغي إحياؤه، ولهذا يكون من واجبنا جميعا ان اقول شكرا لشهر مختلف في كل شيء، شهر رمضان الذي وهبنا و يهبنا دائما مثل هذه اللحظات الجديدة، و يمنحنا مثل تلك الساعات المختلفة، ولقد كان ضروريا ان نعيش في هذا الزمن زمنا جديدا مختلفا، حتى يتجدد وعينا لذاتها وما حولنا، وان تتجدد نفوسنا واروحنا و عقولنا و حالاتنا، وحتى نعيد اكتشاف هذا العالم الغامض، وحتى نعيد ترتيب افكارنا في فضاء هذا الوجود، وحتى يمكن ان نرى هذا العالم القديم بالعين الجوانية الجديدة، ولقد سبق وقلت يوما بان (ما تعودنا ان نراه لا يمكن ان نراه) وان العين الواقعية لا ترى في الواقع إلا القديم، واننا نحتاج دائما الى عين اخرى سوريالية واستثنائية، وذلك حتى نعيد اكتشاف انفسنا، وحتى نعيد اكتشاف جماليات الوجود و جماليات الحياة وجماليات الأيام و جماليات الساعات و جماليات اللحظات
في هذا الشهر عشت اذن، وبشكل مختلف، ولقد رايت وسمعت و قرات وذوقت، ولقد تعددت امام مرايا نفسي وعقلي، كما امتلأت وتجددت، وتضاعفت، ولقد اغتنيت وجدانيا وفكريا و روحيا لحد الفيض، حتى انني لم اعد أعرف انا من انا، ولا اين أنا، ولا من اين ابدا الكلام ولا اين يمكن ان انهي فعل الكتابة، ولا عن اي موضوع اكتب، ولا كيف اكتب عن حالاتي الجديدة، وذلك بلغات اخرى جديدة
لماذا يسافر المسافر؟
وعن.هذا الزمن الرمضاني اقول دائما بانه زمني احتفالي وعيدي بامتياز ، وهو زمن يجعلنا نراجع انفسنا، من غير ان نتراجع عن افكارنا وعن قيمنا، وهو (يلزمنا) باشياء كثيرة من غير ان نشعر بها، ونحن في هذا الشهر نسافر و نرحل، من القريب إلى البعيد وإلى الأبعد، و ننتقل من الجميل إلى الأجمل، ونرى انفسنا في مرايا الذات، و نرى هذه الذات في كل أبعادها ومستوياتها، فنقوم بالنقد الذاتي قبل ان ينتقدنا الآخرون، وفي النقد الذاتي كثير من الحب، وفي بعض نقد الآخرين شيء قليل او كثير من العدوانية، ولقد سبق وقلت ( وأصدق كل النقد ما كان نقدا ذاتيا، وكان محاسبة و مكاشفة ومراجعة، وفي المقابل، فإن اسهل كل النقد هو ما كان اتهامات للآخرين، وكان تبرئة للذات، وكان قفزا على أعطابها وامراضها الظاهرة والخفية) وهذا كلام لم الله انا، ولكن قاله ذلك الاحتفالي الآخر، والذي عاش في ذلك الزمن الآخر، والذي بشبهني واشبههه في كل شيء، إلا في في الصورة التي غيرها الزمن، وكان هذا في حوار معي الناقد السوداني عصام ابو القاسم، وذلك حسال مجلة (المسرح) الإماراتية
وعادة في هذا الشهر لا (أسافر ) في المكان الجغرافي، ولكنني اسافر سفرا وجدانيا و روحيا وعقليا، وفي هذا السفر لا ابتعد ولا اغيب، وبدل ان استبدل مكانا بمكان، فإنني انتقل من فكرة إلى فكرة، وأنتقل من حالة إلى حالة، وأنتقل من مقام وجداني إلى مقام اخر، اعلى منه وأصدق منه واصفى منه وأبلغ منه بكل تاكيد، وعن هذا السفر، في شقه المادي والرمزي تسالني نفسي في لحظة صحو وتقول لي:
( لماذا تسافر و ترحل؟ و بحثا عن اي شيء؟ و هروبا ممن، او من اي شيء؟
واقول لنفسي إنني ابحث عن مدينة بحجم مسرح، وابحث عن مسرح بحجم مدينة، و أبحث عن مدينة بحجم الدنيا، وابحث عن دنيا اخرى، غير هذه، تكون ارحب و اوسع، وتكون انبل واجمل، وتكون اروع و أبدع، وان تكون أيضا ـ بجمالها وكمالها ـ اهلا لهذا الحب الذي نهديه لها )
هذه المقدمة، كان لابد منها، وهي برزخ بين عالمين وبين كتابتين، وبها ومن خلالها اعود لذلك الكاتب الاحتفالي المتامل و المفكر في المسرح بالعقل المسرحي

السفر الوجودي هو الأصل وكل الباقي تفاصيل

يقول مولانا جلال الدين الرومي ما معناه
كلنا سنذوق الموت وليس كلنا نذوق الحياة
فنحن متساوون امام حتمية الموت و لسنا متساوين في الحياة و أمام الحياة
السفر هو الأصل، وكلنا عابرون في الأزمان العابرة، ناتي من اين لا نعرفه، و نمضي باتجاه اين أخر لم نختره، والمهم في الوجود هو مسرحية الوجود، والتي هي مسرحية في فصلين اثنين لا ثالث لهما، فصل عنوانه الوصول وفصل عنوانه الرحيل، هي مسرحبة يتعدد فيها الممثلون، ويتغيرون ويتجددون، ولكن النص المسرحي يظل نصا مسرحيا واحدا، له كاتب واحد، وله قانون واحد، وله مسرح واحد، وله مناخ واحد، وهذا ما يمكن ان نلمسه في احتفالية مسرحية عنوانها السفر و موضوعها السفر و مضمونها السفر و فلسفتها السفر، والتي هي مسرحية (يا مسافر وحدك) والتي كتبها الاحتفالي الكاتب في زمن الخوف وفي زمن الموت وفي زمن الغياب، والذي جاء مع جأئحة كوفيد، هذه المسرحية قدمها مسرح الأوركيد بمدينة بني ملال، واخرجها المخرج المسرحي الاحتفالي عبد المجيد فنيش، وهذه المسرحية هي قال عنها كاتبها في التقديم ما يلي:
(هو رجل وهي امرأة، و ثالثهما السفر الوجودي، و رابعهما العشق الصوفي، في كون متحرك باتجاه نفسه، لقد جاء بهما سفر ما من جهة ما، و سيذهب بهما سفر آخر نحو عوالم أخرى، قريبة أو بعيدة، هما روحان و جسدان يختزلان كل البشرية، موجودان في لحظة مسرحية حية ومتحركة، لحظة عيدية تفيض جمالا و خيالا و بهاء و سحرا و شعرا وحياة وحيوية، هذه اللحظة المسرحية قد تكون هي كل تاريخ الإنسان، من ألفها إلى ما بعد يائها، من آدمها المؤسس للإنسانية، إلى إنسانها الحديث والمعاصر، وهي فعلا كذلك، وهما موجودان في فضاء محطة غريبة وسوريالية لقطار ليس كالقطارات، وذلك في انتظار السفر نحو مدينة ما، مدينة هي مدينة الأحلام أو هي مدينة الأوهام، إنهما يبحثان عن بداية أخرى جديدة و متجددة، وذلك لقضاء شهر يسمى عند كل الناس في عالم الناس بشهر العسل)
ولأن المسرح هو فن الاختزال، فقد تم اختزال كل البشرية في شخص رجل وشخص امراة، وتم اختزال كل جغرافيا الأرض في فضاء مسرحي محدود، وتم اختزال كل التاريخ في زمن احتفالي محدد و محدود لا يتعدى الساعة إلا بقليل
وهذا الرجل في المسرحية (اختار) له مؤلفه اسم يحي، والمرأة اختارت لها أسرتها أن يكون اسمها حياة، و الصدفة العاقلة و الحكيمة او المجنونة اختارت لهما معا مصيرا واحدا مشتركا، ولقد تقاربت الأسماء بينهما، وتقاربت الأرواح، وجمع بينهما حب الحياة وعشق الجمال و الكمال والمتعلق بالسفر، والتقى الجسدان في حفل تنكري، وذلك في ليلة احتفالية و عيدية استثنائية، وقد حدث كل هذا في ثلاثة ليال فقط، هي ليلة التلاقي في حفل تنكري، وليلة الزواج، وليلة السفر، أو هي ليلة ذلك السفر المجهول باتجاه المجهول
وهل هو فعلا اتجاه مجهول؟ وهو مجهول بالنسبة لمن؟ بالنسبة لمن يحيا قدره وهو مغمض العينين، او بالنسبة لمن يتفرج عليه من بعيد؟
ونعرف ان ما تجهله الشخصية المسرحية، هو بالتاكيد معروف عند كاتب المسرحية، وهل كان عطيل يعرف الى أين يمضي؟ ولكن شكسبير كان يعرف، و الجمهور كان يعرف، ولا احد كان بإمكانه أن يتدخل لغير مسار ومسيرة الشخصية
وعن هذا الثنائي العاشق للحياة، يقول التقديم الذي كتبه الكاتب الاحتفالي
(هو رجل ( شرقي السمات) و شرقي الهوى، جاء من أقصى الشرق، وهي امرأة غربية القسمات وغربية الروح جاءت من أقصى الغرب، وما السر في هذا التلاقي، وفي هذا التوحدن، وما معنى أن يتم هذا التلاقي في محطة للقطار؟
في هذه الاحتفالية المسرحية يختبئ المعنى التالي، وهو أن ما هو بعيد هو الذي يظهر دائما للعين أحسن، وأن هذا الواقع ـ بكل وقائعه المألوفة والمعروفة ـ لا يمكن أن يدرك جوهره الحقيقي، إلا عندما تصل فيه المظاهر والظواهر والحالات والمشاهدات، أقصى درجاتها الممكنة، وأن يكون من حقنا أن نقول عنها ( هي أغرب من الخيال) و مشاهد كثيرة جدا، في هذه الاحتفالية المسرحية الغريبة و العجيبة، هي فعلا ( أغرب من الخيال)
والحياة في الإبداع المسرحي الاحتفالي يظهر عادة في شكل احتفال، وأصدق او اكذب كل الاحتفالات هو الاحتفال التنكري، حيث يكون الإنسان مجرد زي من الأزياء، ويكون بذلك مجرد دور مسرحي في زمن كرنفالي محدود، ويظهر هذا المعنى في احتفالية مسرحية عنوانها ( فاوست والأميرة الصلعاء) والتي هي لعبة احتفالية يقودها خياط ماكر او ساحر، كل أدواته خيط و إبرة، و بهما فقط صنع ادوار، وصنع أقدارا لكل الشخصيات، وفي احتفالية ( يا مسافر وحدك) يحضر حفل تنكري اخر، لا علاقة له بحفل الخياط مظلوم بن ظالم الخياط في مسرحية ( فاوست والأميرة الصلعاء)
وفي هذا الحفل التنكري الجديد ( والذي هو مسرحية داخل مسرحية، وهو زمن مضى يتم استرجاعه، تكون هي الأنثى متنكرة في زي جنية من جنيات الحكايات، ويكون هو الرجل متنكرا في زي درويش صوفي شرقي جوال اسمه شمس الدين التبريزي
هي وحدها ترقص لنفسها رقصا غربيا، وهو وحده يرقص لربه رقصا صوفيا شرقيا، فهي تدور حول نفسها في رقصها، وهو يدور حول نفسه في رقصه الصوفي، ويتم الاصطدام بين الراقصين، وكأنه اصطدام بين نجمين أو بين كوكبين، ورغم أنهما متنكران خلف قناعين، فإن روحيهما تتعارف، وتتآلف، وتتحد، وتنشأ بينهما ألفة و محبة ومودة من أول نظرة، و يقرران أن يصبحا روحا واحدا يقتسم جسدين، وأن يعيشا نفس الحياة، وأن يسيرا في نفس الطريق، و ألا يفرق بينهما أي شيء، أو أي أحد، وأن يركبا نفس القطار)
وفي محطة القطار الغريبة، يوجد رجل غريب؛ في زيه وفي تصرفاته وفي كلامه، يظهر للجميع وكأنه مجنون المحطة، وهو لا يفعل شيئا سوى أن يقرأ، والكتاب الموجود أمامه وبين يديه في اللحظة المسرحية يحمل عنوان
(يا مسافر وحدك)
وفي المحطة يلقاهما المغني محمد عبد الوهاب، صاحب اغنية ( يا مسافر وحدك،) ويغني لهما ولحبهما الصادق أجمل الأغاني، هذا الرجل الغريب يظل مصدر قلق بالنسبة للمرأة حياة، والتي لا ترتاح له، و تراه شخصا إرهابيا، و تتعزز شكوكها عندما توزع على المسافرين مجلة تتحدث عن وجود مجرم خطير في المحطة، مجرم يقتل بدم بارد، ولا يعرف أحد وجهه الحقيقي، ولا يعرف اسمه ولا لحساب من يقتل، وعندما يحضر القطار، يتحرك الرجل من مكانه، ليخبر المرأة حياة، أن عريسها سيسافر وحده، وأنه ليس بإمكانها أن تسافر معه، وعندما تخبره أنهما تعاهدا على أن لا يفرق بينهما إلا الموت، و يعتذر لها الرجل الغريب وويقول :
( أنا الموت ..)
وهكذا يسافر المسافر يحي وحده، يسافر بغير حقيبته، ومن دون محبوبته ومعشوقته الحياة)
هي احتفالية مسرحية تخاطب في القارئ المحتفل، او المحتفل القارئ، كل مستويات وعيه المختلفة و المتنوعة، والظاهرة والخفية، و القريبة و البعيدة، و الحسية والرمزية، والكائنة و.الممكنة، و باعتبارها خطابا فكريا وجماليا، مركبا وغنيا، فهي تخاطب وعي هذا القارئ البصري، وتخاطب وعيه العقلي، وتخاطب وعيه النفسي، و تخاطب ذاكرته الفردية و الجماعية، و تخاطب وعيه الوجداني والروحي المقدس، و تخاطب خلفيته الأسطورية، و تخاطب غرفة أحلامه، و تخاطب المناطق المظلمة و المرعبة في لاوعيه الباطني.
في هذه الكتابة الاحتفالية، و بلسان كل الشخصيات فيها، فإن الاحتفالي هو من يقول لكل الناس ما يلي:
(إنني ما أوتيت من العلم إلا قليلا، وبأنني لا أعرف شيئا كثيرا، وجميعنا نقول لا نعرف، وجميعنا يخيفنا ويرعبنا ذلك الشيء الغامض والملتبس الذي لا نعرف، وكلنا في مسرح هذه الكتابة نسعى من اجل أن نعرف، ومن أجل أن نبصر، حتى يمكن أن ندرك ـ على الأقل ـ ما معنى أن نسافر؟ وإلى أين يمكن أن نسافر؟ ولماذا يسافر كل مسافر في قطار الحياة وحده؟ ولماذا يسافر هو ويبقى المكان وحده؟ ولماذا يسافر ويبقى من يحب ويهوى وحده؟
وانني، أنا الكاتب الاحتفالي، مقترف هذه الكتابة الاحتفالية، ملزم بان أقول ما يلي
( إن ما قدرت على تفسيره وتبيانه ـ في هذه الاحتفالية المسرحية ـ قد فسرته وبينته، أو أنني حاولت ذلك فقط، ولقد قلت هذا هو ( جهدي) وإن كل ما عجزت عن معرفته، بشكل حقيقي، فقد شاغبته وشاكسته معرفيا مع ذلك، ولقد اقتنعت دائما بأن شرف سيزيف يكمن في شرف المحاولة، وفي الإصرار على تكرار نفس الفعل المتجدد إلى ما لا نهاية)
ونقول مع يونسكو، قد تكون هذه الحياة مسرحية سيئة، ولكن هل لنا غيرها؟
نحن وقراءة العناوين وقراءة المضامين
وما قلته و ما كتبته دائما، اعود اليوم لأقوله من جديد بشكل جديد، مؤكدا على الحقيقة القديمة الجديدة التالبة، وهي أنني، في هذه المسرحية وفي كل مسرحباتي ( لست كاتبا طبيعيا، ولست كاتبا واقعيا، وعليه، فإنني في مجال تفسير الظواهر وتفسير الأفعال وتفسير الحالات وتفسير العلاقات وتفسير المقامات، وتفسير البنيات، لا أقف عند عناوينها البرانية والسطحية، وعليه، وبحكم أنني لست صحفيا ولست مؤرخا، فإنني لا أفسر الماء بالماء، ولا أفسر الواقع والوقائع الطبيعية والواقعية تفسيرا طبيعيا وواقعيا، وفي هذه الكتابة يحضر التوقع بكل تأكيد، ويحضر التنبؤ، ويحضر الاحتراق والاختراق، ويحضر الغائب والغيبي والمغيب، ويحضر الممكن والمحال، ويحضر المادي الحسي التاريخي، ويحضر الماورائي اللامحدود واللانهائي، وكل اسم في هذه الاحتفالية هو اسم آخر، وكل (حقيقة) هي حقيقة أخرى، وكل (حياة) هي حياة أخرى، وكل (يحي) هو يحيا آخر
هي إذن مسرحية أخرى، تنتمي إلى شجرة المسرح الاحتفالي، وهي مسرحية يؤثث فضاءها العجائبي والغرائبي، وذلك في بعده الديني وفي حكيه المشوق والممتع وفي تصويره الأسطوري
وفي معنى اكتمال الكتابة العالمة بالڨراءة الفاهمة يقول الاحتفالي ( إنه لا يكفي أن يكتب الكاتب مسرحيته بشكل جيد، إذا لم يجد في القراء من يقرأها بشكل جيد أيضا) وتنطبق هذه الكلمة على هذه المسرحية، تماما كما تنطبق على كل المسرحيات والقصص والروايات وكل الإبداعات الفكرية والجمالية في العالم)
(يا مسافر وحدك ) الكتاب والكتابة
هذه الاحتفالية المسرحية قراها في بداية الأمر قارئان اثنان هما د محمد الوادي وعبد المجيد فنيش، والأول قراها قراءة نقدية والثاني قراها قراءة إخراجية، وفي تقديم الدكتور محمد الوادي لهذه الاحتفالية المسرحية نجد أنفسنا امام العنوان التالي:
” يا مسافر وحدك” الكتابة الحالمة والقراءة العاشقة ـ الكتابة.. و مرأة الروح)
وفي متن هذا التقديم نقرا ما يلي:
(هذه القارة/ النص المسرحي مفتوحة و؛منفتحة، كما الاحتفالية، على جزر و أرخبيلات، و عوالم يخلقها حوار شفاف تطبعه ازدواجية الخوف والأمان.. العمق و البساطة.. الأسئلة الفلسفية و الأسئلة الإستكشافية. حوار يدور بين رجل وامرأة (يحيى – حياة) كبطلين لهذا المنجز/التحفة الأدبية والفنية يعبران، من خلاله، على أحلامهما وتوجساتهما ووتخيلاتهما ولغتهما و صمتهما)
وبخصوص مسرحية ( يا مسافر وحدك) دائما يمكن ان نقول ما يلي، هي مرحلة اخرى، او هي درجة اخرى، في سلم الكتابة المسرحية الاحتفالية، وهي المرحلة الجديدة التي اعطاها د.محمد الوادي اسم ( المرحلة الصوفية الروحية) وما قد لا يعرفه كثير من نقاد المسرح، مغربيا و عربيا، هو حركية هذه الكتابة وهو حيويتها، وهو كليتها وشموليتها، وهي بهذا كتابة حية بكتابتها الحيوية، وغنية بلغتها الفردوسية، وهي كتابة تتحدى الواقع والوقائع، بما هو فوق الواقع، وهي تتحدى الجغرافيا، وكل قوانين الجغرافيا، وذلك بشخصيات استثائية عابرة للقارات وعابرة للتاريخ وعابرة الثقافات واللغات، وهذا ما يفسر ان نجد أمرا القيس في باريس وان نجد سقراط اليوناني في اثينا الجديدة، وان نجد ابن الرومي في مدن الصفيح بمدينة الدار البيضاء، وفي مسرحية ( يا مسافر وحدك) تصبح أغنية عربية عاطفية (عادية) بحجم اكبر وأخطر قضية في الوجود، والتي هي مسألة الموت
وبحسب د. محمد الوادي فإن هذا التوجه، في مسار الكتابة الاحتفالية (هو درجة اعلى و اسمى في سلم مراتب الكتابة، يفرض، بالضرورة، ان تواكبه قراءة خاصة وانتهى مع ما يقترحه من فتوحات فنية و فكرية، هذه القراءة الخاصة لا يمكن ان تكون غير القراءة العاشقة، التي تنطلق من الإحساس بالجميل والجمال، وتتغيا المعرفة الصوفية، وألا يتكون قراءة ظالمة وجائرة، و بعيدة عن جوهر الإبداع، ولا ترقى إلى مستوياته الجمالية والبلاغية والروحية، التي تغوص في اعماق النفس الإنسانية وتمظهراتها)
وهذا النص/ المسرحية، كما يقول د، محمد الوادي ( يعيدنا إلى زمن السؤال الفلسفي، والقلق الهايدجيري.. زمن الأسئلة و القضايا والأفكار الكبرى.. هو نص مفرد ولكن صيغته متعددة .. إنه النص/النصوص. نص مطرز بعناية تحكمه الصنعة والخبرة، وهو نتاج موهبة ربانية. وحينما تجتمع الصنعة و الموهبة تعطينا الحكمة.. حكمة كاتب جرب وخبر فعل الكتابة، وفعل التفكير، وفعل التعييد وحكمة مكتوب. يحيى في هذا النص، وهو رجل من رجال الله كما يقول عن نفسه في حوار من حياة، كذلك أراده الكاتب أن يكون، وهو في نظري لسان الكاتب نفسه و الناطق الرسمي باسمه
في هذا العمل المسرحي قدرة هائلة على توليد المعاني، و الاستعارات، والصور، والحوارات ذات الطابع الفلسفي و الصوفي و الروحي. إنه عمل فكري بامتياز.. عمل لا يراعي الشرط الدرامي وحسب، ولكن يتجاوزه إلى الأبعاد الدلالية والمفاهيمية. إنه المسرح الهادف الذي يراعي شرط الكلمة/ الفعل. إنها كتابة جديدة في معناها ومبناها.. جديدة في طريقة إدارة الحوار و تناسله، و توليد الأفكار و السياقات، والانتقال السلس من معنى إلى آخر.. والانتقال من معمار إلى آخر. إنها بإيجاز مدرسة عبد الكريم برشيد في الكتابة. إنها المدرسة الاحتفالية التي تنير الشموع في كل الأضرحة المعرفية. الموت الماتمي والموت الاحتفالي
وبخصوص هذا الموت الاحتفالي، وكما يتردد وجوده و حضوره في الكتابات الإبداعية، يقول الكاتب الاحتفالي في كتابه ( انا الذي رايت)
(واعترف بانني امام موت شخصياتي المسرحية، وفي احيان كثيرة جدا ينتابني الإحساس بالذنب، و يقلقني الإحساس بشيء من المسؤولية، واجد نفسي اسال نفسي الأسئلة التالية:
من اعطاني الحق في ان أحكم بالموت او بالجنون او بالغربة او بالنفي او بالسجن في حق هذه الشخصيات المسرحية؟
ولقد حاولت مرات عديدة ان اعيد كتابة مسرحية ( عنترة في المرايا المكسرة) وان استبعد في كتابتها الجديدة شيئا من سوادها، وان ارفع عنها موت الراضي، ولكنني، ولحد الآن، لم أوفق في ذلك،
واتابع مسار أسئلتي واقول:
ــ ومن اكون انا حتى اتخيل نفسي مسؤولا عن عذاب البشرية؟
ــ وهل انا هو من صنع هذا الموت الذي يسري حكمه على كل الأحياء؟
ــ ثم لماذا نصر على ان ننظر إلى الموت بهذه الرؤية اللاواقعية؟
اليس هذا الموت جزءا طبيعيا واساسيا و حيويا من هذا الواقع الذي لا يرتفع؟
ــ وماذا يمكن آن يكون هذا الموت سوى انه الجانب الآخر من الحياة، او انه درجة من درجات هذه الحياة؟
ــ وماذا كان علي ان افعل لهذه الشخصيات، اذا كانت تحمل حلمها و جنونها، وتحمل مرضها وموتها فيها؟
ــ إن الراضي المريض، لم يأته الموت إلا من داخله، فهو قد رضي بالموت وماذا افعل انا؟
ــ وبالسحر الأسود، و بمساعدة الشيطان، استطاع فاوست ان يؤجل موته، ولكنه لم يستطع ان يلغيه؟ ومن بإمكانه أن يلغي حتمية هذا الموت، والذي هو هو درجة من درجات الحياة؟
ــ ثم ايضا، الست في مسرحية الوجود، وفي وجود المسرح، مجرد شاهد فقط؟)
ومع اقتراب وصول القطار إلى المحطة، ومع وجود ذلك الشخص الغريب في المحطة، يزداد قلق الزوجة حياة، و يزداد رعبها من المجهول.. ولهذا تقول لرفيقها في رحلة الوجود والحياة
(ــ صدقني سنموت الليلة يا يحيى..
ــ تأكدي بأنه لن نموت يامولاتي حياة، لأنه لا موت حقيقي في حياة المسرح الحقيقي، وهذا ما أكده لي كاتب هذه المسرحية..
ــ أتقصد الكاتب المسرحي عبد الكريم برشيد؟
ــ نعم، أقصده هو..
ــ عجبا.. وهذا الكاتب نفسه لا يعرف مصيره يا يحيى، وكيف يمكن أن يعرف مصيرك، وأن يطمئنك على حياتك؟..
ــ هو ولد الناس، وما رأينا منه إلا الخير..
ــ نعم، ولكن حياته، مثل حياتنا، موجودة في كف عفريت)
آخر الكلام
هذه الاحتفالية المسرحية، أهديتها لروح فنان مسرحي لم يكن اسمه يحي، ولكنه كان كان عاشقا لحبيبته حياة، والذي سافر وحده، وبقيت الحياة من بعده، ولقد كان في ذلك الزمن الثمانيني، من ذلك وفي ذلك الإهداء يقول الاحتفالي ما يلي:
(إلى روح حوري الحسين
إلى الكاتب الذي كتبت الصدفة المجنونة بداية حياته العبثية
وكتب هو نهايتها المأساوية
إلى المخرج الذي أطفأ أضواء المسرح قبل نهاية المسرحية
إلى الممثل الذي لم يمثل في حياته المأساوية إلا دوره الملهاوي والعبثي
إلى الإنسان المبدع
الذي لم ترض عنه الحياة
وانتقاما منها رضي هو بالموت)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى