24 ساعةالواجهةثقافة وفنون ومؤلفاتفضاء الصحافة

السينما والهوية الثقافية… كيف تصوغ الصورة ذاكرتنا الجماعية؟

في عصرٍ تتسارع فيه التحوّلات وتختلط فيه المرجعيات، تبرز السينما كأحد أقوى الوسائط التي لا تكتفي بعكس الواقع، بل تشارك في تشكيله وإعادة تفسيره. إنها ليست مجرد فن ترفيهي، بل أداة لصياغة الوعي الفردي والجماعي، ومختبر حيّ لتجسيد الهوية الثقافية في زمن العولمة.

الهوية الثقافية… ما الذي يجعلنا نحن؟:

الهوية الثقافية لا تختصر في اللباس أو اللغة، بل هي مجموع المعاني التي تُشكّل انتماءنا: الذاكرة المشتركة، الطقوس اليومية، سرديات التاريخ، وحتى طريقة النظر إلى العالم. إنها كيان حيّ، يتغير ويتفاعل باستمرار، ويحتاج إلى التعبير عنه كي لا يتحول إلى أثر في متحف.

 السينما… أكثر من مجرد مرآة:

من بين كل الفنون، تبقى السينما الوسيلة الأكثر تأثيراً في تشكيل المخيال الجمعي. إنها لا تكتفي بعرض الواقع، بل تعيد إنتاجه وفق رؤية معينة، تنفذ إلى أعماق اللاوعي الثقافي.

المخرج الأمريكي مارتن سكورسيزي يلخص الأمر بقوله:

«كل فيلم هو سيرة ذاتية، حتى عندما لا يبدو كذلك»

فيلم مثل “علي زاوا”، للمخرج نبيل عيوش، لا يُصنَّف فقط ضمن أفلام الواقع الاجتماعي، بل هو شهادة فنية على وجود مغرب الهامش، مغرب غير المُدرَّس في المناهج ولا المُؤطَّر في الإعلام الرسمي. لقد منح الفيلم صوتاً وصورةً لشرائح ظلّت لعقود خارج عدسة الثقافة المؤسسية.

السينما تحت ضغط العولمة:

اليوم، ومع تغوّل المنصات الرقمية، أصبح المحتوى السينمائي العالمي – وخاصة الهوليوودي – يفرض نماذج جاهزة عن “الحلم”، “الحب”، “الأسرة”، “النجاح”، وحتى “العدو”. وفي غياب إنتاج سينمائي محلي قوي، تصبح هذه النماذج البديلة هي المرجع الأساسي لشباب لا يجدون أنفسهم في أفلام بلدهم، لأن هذه الأفلام قد لا تكون موجودة أصلاً، أو لا تعبّر عنهم بصدق.

هنا، يحضرنا قول المفكر إدوارد سعيد:

«الثقافة ليست فقط ما ننتجه، بل أيضاً كيف نرد على من يحاول أن يعرفنا نيابةً عنا»

إنه تحدٍّ خطير: أن يُعرّف الآخر أبناءنا عن ذواتهم، بينما يظل صوتنا خافتاً أو غائباً في السوق العالمية للصورة.

السينما التربوية… الكاميرا أداة لاكتشاف الذات:

من التجارب الملهمة التي تشهد على أهمية السينما كأداة للوعي، نجد ورشات التربية السينمائية في المدارس، حيث تتحول الكاميرا إلى أداة لطرح الأسئلة، وليس فقط لتوثيق الواقع. عندما يصوّر تلميذ جدّته وهي تعد الخبز، أو حيه الهامشي وهو يحتفل بالمولد النبوي، فإنه لا يقوم بتصوير عابر، بل يبني وعياً بما يملك من رموز وهوية.

المخرج الفرنسي فرانسوا تروفو قال:

«السينما هي فن جعل ما هو شخصي يُصبح كونياً»

 من أجل سينما تعيد الاعتبار للذات:

إن كان من دور للسياسات الثقافية اليوم، فهو في دعم إنتاج سينمائي يعكس تنوعنا الداخلي، ويمنح فرصة للتعبير عن الذات بعيداً عن القوالب المستوردة. بعض التوصيات العملية التي يمكن أن تحدث فارقاً في هذا المجال تشمل:

  • إدماج التربية السينمائية في البرامج التعليمية، لتطوير حس نقدي لدى الأجيال الجديدة.
  • تخصيص دعم حكومي ومحلي للأفلام ذات البعد الثقافي والهوياتي.
  • تشجيع المهرجانات التي تسلط الضوء على قصص المناطق المهمشة وتنوع اللهجات والتقاليد.
  • تمكين الشباب من التكوين في تقنيات السرد البصري المرتبط بالذاكرة والهوية.

 السينما ليست ترفاً… بل ضرورة:

قال الفيلسوف جيل دولوز:

«السينما ليست مجرد تمثيل للواقع، بل هي واقع في حد ذاتها»

وحين نصنع أفلاماً بلغتنا، عن شوارعنا، وأحلامنا الصغيرة، فإننا لا نُنتج فقط أعمالاً فنية، بل نُسهم في بناء سرديتنا الجماعية، ونمنح الأجيال القادمة مرآة تشبههم، لا نسخاً مشوهة عن آخرين لا يعيشون واقعهم.

السينما ليست رفاهية، بل ضرورة وجودية لحفظ الذاكرة ومقاومة التذويب الثقافي. فإما أن نروي قصتنا بأنفسنا، أو نترك الآخرين يكتبونها على طريقتهم

نبيل البلوطي

معدّ ومخرج برامج, مدير قسم السمعي البصري بالجديدة نيوز و رئيس النادي السينمائي بالجديدة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى