غمزة :نحن والمجتمع… حين يصبح التغيير مطلبًا محليًا

في مدينة مثل مدينتنا، التي تتغير مع الزمن ولكن تحتفظ بجذورها، قد يبدو التغيير أمرًا صعبًا أو حتى مستحيلاً. لكن الحقيقة أن هذا السؤال لا يخصنا وحدنا، بل هو سؤال كوني: لماذا لا تتغير المجتمعات بسهولة؟ ولماذا تتشبث الجماعات بعاداتها وسلوكياتها حتى لو أثبتت الأيام أنها لم تعد تنفع، بل قد تضر؟
لنكن صرحاء: المشاكل التي نعيشها اليوم، نحن من صنعناها. ليست مؤامرة من الخارج، ولا قدرًا محتومًا. هي انعكاس مباشر لوعينا الجمعي وسلوكياتنا اليومية. فحين يرى الفرد أن ما حوله غير منطقي، لكنه يعود ليطبّقه لأنه “السائد”، فنحن هنا أمام حلقة مفرغة لا تُنتج إلا التكرار.
والأخطر أن هذا التكرار يصبح جزءًا من البنية النفسية والثقافية. لا أحد يتجرأ على كسر النمط، والكل يعيد إنتاجه. فنلوم الدولة تارة، ونلوم الآخر تارة أخرى، دون أن نجرؤ على مساءلة أنفسنا كمجتمع: هل نمتلك فعلاً الإرادة للتغيير؟
الحقيقة أن الثقافة المجتمعية لا تتغير بالتمنّي أو بالخطب الرنّانة. التغيير العميق لا يحدث إلا حين يتغير الواقع المادي والاجتماعي. حين تصبح السلوكيات القديمة غير منطقية ولا تتماشى مع ما نعيشه فعلاً. حين يشعر الناس أن النمط الذي اعتادوه لم يعد ينفعهم، بل يعطّلهم.
حدث هذا في أوروبا بعد الثورة الصناعية. اخترعت الآلة البخارية، فانهار النظام الإقطاعي، ثم جاء عصر التنوير، وبعده الثورة الفرنسية. تراكمات مادية أنتجت وعيًا جديدًا، فكرًا جديدًا، وقيمًا اجتماعية جديدة.
واليوم، ما نعيشه هو لحظة مشابهة، ولكن بصيغة مختلفة. التكنولوجيا قلبت كل الموازين: العمل، التعليم، التواصل، حتى العلاقات الاجتماعية. الآلة تحلّ مكان الإنسان في المصانع، والخوارزميات تحلّ مكان العقل في اتخاذ القرار. الإنتاج تضاعف، لكن من يشتري؟ ومن يستهلك؟ وهنا تبدأ أزمة المعنى والعدالة.
لم يعد من المقبول – لا محليًا ولا عالميًا – أن يبقى ملايين البشر بلا سكن، أو يموتوا جوعًا، بينما نملك إمكانيات تؤمّن حياة كريمة للجميع. العقل الاجتماعي الجديد لم يعد يقبل بهذا العبث. إنه يتمرد، يصوغ أسئلته، ويطالب بعقد اجتماعي جديد.
إننا اليوم، محليًا، نعيش على هامش هذا التحول. علينا أن نكون جزءًا من هذه الحركة العالمية التي تسائل القيم القديمة وتطرح نماذج جديدة للحياة. ليست النخبة فقط من تملك هذا الدور، بل كل فرد واعٍ، كل مربٍّ، كل فاعل جمعوي، كل صحافي محلي، كل شابّ يرفض أن يعيش كما عاش أبوه وجده إذا كان ما عاشوه غير عادل أو غير مجدٍ.
إذن، لنكفّ عن سؤال “لماذا لا يتغير مجتمعنا؟”، ولنبدأ في طرح الأسئلة الصحيحة:
- ما الذي يمكن أن أفعله أنا في دائرتي الصغيرة؟
- هل أمارس ما أؤمن به، أم أستسلم لما هو سائد؟
- هل لدي الشجاعة لأرفض، وأقترح، وأحلم؟
فلنبدأ، كلٌّ من موقعه، فالتغيير لا يبدأ في العاصمة، بل يبدأ من الأزقة الخلفية، من الأحياء الهامشية، من النشرات المحلية، ومن وعي جماعي يتشكل ببطء… لكنه قادم.





