
ياسين جلوني يكتب:
منذ منتصف العقد الماضي، بدأنا نعيش تحولات مهمة في علاقة المواطن بالسياسة بشكل عام في العالم ككل، ففي الدول الغربية المهيمنة لاحظنا صعود أحزاب وتيارات وقيادات سياسية بعيدة كل البعد عن المدارس السياسية المألوفة، أو ما يمكن أن يصطلح عليها بالتيارات الشعبوية، والتي تشترك في كونها تيارات جديدة لا يمينية ولا يسارية، لا تاريخ نضالي لها، ولا امتداد شعبي أو إيديولوجي لها، ومن رموزها مثلا (ترامب، ماكرون، جونسون، زلنسكي…) والتي أتت بها صناديق الاقتراع في سياق تراجع الاهتمام الشعبي بالإيديولوجيا السياسية ومستجدات المشهد السياسي في ظل تأثير متزايد لوسائل التواصل الاجتماعي في نمط تفكير الجماهير ووعيهم وسلوكياتهم وميولاتهم الفكرية والعاطفية وأولوياتهم.
أما في عالمنا العربي فقد عايشنا في نفس الفترة موجة الثورات المضادة التي أجهزت على الأمل الذي أتت به رياح الربيع العربي، فلحظة الربيع كانت علامة فاصلة للشعوب العربية التي بدأت تتصالح مع المشاركة السياسية بعد عقود من الاستبداد الذي أغلق الباب على أي أمل في التغيير، وهو الذي أدى إلى العودة بهذه الشعوب إلى نقطة الصفر، فأصبحت تلعن السياسية وما يقرب إليها، وانفضت إلى حال سبيلها تبحث عن خلاصها الفردي ومعاشها اليومي بعيدا عن أحلام التغيير والإصلاح السياسي الذي أصبح في نظر هذه الشعوب من المستحيلات.
من خلال هذا الواقع السياسي في العالم أجمع، وفي عالمنا العربي بالخصوص، نلاحظ تنامي خطابات العدمية السياسية، وانتشار توصيفات “موت السياسة” للدلالة على هذا الخندق الذي باتت تعيشه بلادنا.
في سياقنا المغربي، بدأ تطليق الناس للسياسة كظاهرة بعد واقعة البلوكاج التي أعقبها تعيين حكومة لا تنسجم مع نتائج انتخابات أكتوبر 2016، حيث عرف المغرب انقلابا على الإرادة الشعبية وبلقنة للمشهد السياسي، تلاه قمع للحراكات الاجتماعية بالريف وجرادة، واعتقال الصحفيين، واستغلال القضاء لترهيب النشطاء، ومباركة زواج المال بالسلطة، وانتشار صحافة التشهير والتطبيل… كلها عوامل ساهمت في زرع اليأس في النفوس وإعدام الأمل في التغيير.
لموجة الانحسار السياسي هذه عدة مظاهر، من بينها تراجع مستوى النقاش السياسي، وتراجع الاهتمام الشعبي بالسياسة وبالنقاش العمومي، وهو ما وفر البيئة لمزيد من بلقنة المشهد السياسي من خلال توفير الظروف لاستعمال المال في الانتخابات وتراجع التصويت السياسي والذي حل محله التصويت المصلحي والمؤدى عنه. ليكون من تبعات ذلك إغراق البرلمان والمجالس المنتخبة بأصحاب السوابق وبالإقطاعيين والانتهازيين والأميين.
هذا الواقع البئيس للأسف يعزز المزيد من العزوف السياسي، واعتزال النقاش العمومي، وإفقاد الثقة في السياسة، وتنامي أفكار العدمية السياسية. وهو ما يجعلنا كشباب نطرح أسئلة : ما العمل؟ ما الحل؟ ما السبيل للخروج من هذه الأزمة؟… وما الخيار الذي سنتبناه كجواب على هذا الواقع؟ وما الخطاب الذي يمكننا إنتاجه في ظل انحسار ديمقراطي، وفساد واستبداد سياسيين، وعزوف واعتزال شبابي وشعبي للعمل السياسي؟
برجوعنا إلى التاريخ ومنطقه لن نجد بديلا عن “المشاركة السياسية الفاعلة” كجواب على واقعنا السياسي المزري، وكخيار استراتيجي لا محيد عنه، فالتغيير الذي لا يأتي بالمشاركة السياسية، يأتي بالمزيد من المشاركة السياسية الفاعلة.
في تعريف المشاركة السياسية الفاعلة
نقصد بالمشاركة السياسية الفاعلة، كل عمل أو ممارسة تربط المواطن بالسياسة، ابتداء بالاهتمام بالشأن السياسي ومتابعة النقاش العمومي، وانتقالا إلى إبداء الرأي والتعبير عن المواقف، وارتقاء إلى الانخراط في العملية السياسية والتأثير المباشر أو غير المباشر في صناعة القرار السياسي.
المشاركة السياسية الفاعلة هي كل محاولة لإدماج المواطن في المشهد السياسي عبر المواكبة والتتبع، وصناعة رأي عام حر ومستقل، والإسهام في ترجمته إلى واقع ملموس.
المشاركة السياسية الفاعلة هي التحول من مفعول به متأثر بما يقع إلى فاعل ومؤثر في الواقع، فالسياسة إن لم تمارسها تمارس عليك.
وصفنا للمشاركة السياسية بالفاعلة، كون المبتغى من هذه المشاركة أن يكون لها ما بعدها ويكون لها أثر عملي وفعلي في السياسة وفي الواقع وفي التاريخ، فأفق المشاركة السياسية عندنا هو تحقيق الإصلاح والتغيير الإيجابي المنشود.
المشاركة السياسية الفاعلة لا ينبغي اختزالها في المشاركة في الانتخابات، فهذه الأخيرة ما هي إلا وسيلة من وسائل التعبير عن الاختيار السياسي، وآلية من آليات الديمقراطية، فالغاية هي الإصلاح والتغيير، وليست الغاية في الأصوات والمناصب، لقول الله تعالى على لسان شعيب عليه السلام “إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب”
لماذا المشاركة السياسية الفاعلة؟
قد يتساءل البعض ويقول: ماذا كسبنا من المشاركة السياسية خلال لحظة الربيع العربي؟ ففي الوقت الذي كنا ننتظر ثمار مشاركتنا وأملنا في السياسة، إذا بنا نجد أنفسنا قد فقدنا حتى مكتسباتنا السابقة، ألم نجن من المشاركة السياسية إلا المزيد من تثبيت أركان الفساد والاستبداد؟ والمزيد من تقويض مصالح المواطنين وتردي ظروفهم الاقتصادية والمعيشية؟
للإجابة عن هذه الأسئلة يكفي طرح الأسئلة التالية:
إذا لم تكن للمشاركة السياسية أية فائدة، لماذا يستثمر رعاة الفساد والاستبداد في بلادنا في قمع حرية التعبير والتضييق على الأصوات الحرة، وإضعاف الأحزاب السياسية ومؤسسات الوساطة والتحكم فيها واختراقها؟ لماذا السهر على بلقنة المشهد السياسي وتمييعه وإغراقه بالفاسدين والأميين؟ لماذا يتم صرف أموال طائلة لنشر التفاهة والرداءة للإلهاء عن القضايا الأساسية؟ لماذا يتم تمويل جرائد ومواقع ومنابر شغلها الشاغل مهاجمة شرفاء هذا الوطن واستحمار وعي الناس واستبلادهم؟
نعم فالفساد والاستبداد في بلادنا لن يقر له حال إذا لم يستثمر كل جهده وطاقته وأمواله الخاصة أو أموال دافعي الضرائب لصرف الناس عن المشاركة السياسية، لصرف الناس عن قضاياهم الأساسية والمصيرية، للتغطية عن جرائمه في حق الشعب المغلوب عن أمره والمنهوبة أمواله والمنتهكة حقوقه.
فالتاريخ يعلمنا أن الشعوب لا تتحرر ولا تنال حقوقها إلا بالنضال من أجل تلك الحقوق، وهو ما لا يمكن تحققه باعتزال السياسية وانتظار الحلول من السماء، فالشعوب هي من تصنع التغيير وتقوم بفعلها في التاريخ، وهو ما لا يكون إلا نتيجة متابعة تنتج وعيا، ووعي ينتج فعلا تحريريا. أما العدمية السياسية والخلاص الفردي لا ينتجان إلا المزيد من تغول الظلم والفساد وضياع مصالح البلاد والعباد.
كما أن التاريخ يعلمنا كذلك أن الفعل الإصلاحي لا يحسم في جولة واحدة، بل يتحقق نتيجة تراكم وصولات وجولات، قد ينتصر فيها الظلم حينا، لكن العدل من تكون له الغلبة في النهاية بسواعد الصالحين والمصلحين ممن استطاع الصمود في وجه الظلم والفساد واستمر على درب النضال.
المشاركة السياسية من المنظور الديني
مرجعيتنا الإسلامية هي أول مرجعية تنادي بضرورة الانخراط في الشؤون العامة للناس، ودعوة الناس إلى الإصلاح والتغيير، فدعوة الأنبياء والرسل لم تكن دعوة طقوسية محضة، أو دعوة رهبانية لتحقيق الخلاص الفردي الأخروي فقط، بل دعوتهم دعوة تحريرية تحررية، دعوة للتحرير من ظلمات الجهل والكفر والشرك، دعوة للتحرر من ظلم الحاكمين وفساد الملوك والسلاطين، فسيدنا إبراهيم دعا النمرود، وسيدنا موسى دعا فرعون، كما أن النبي عليه الصلاة والسلام دعا كفار قريش.
فالله تعالى في قرآنه يقول “ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر”، فالمعروف ليس مقتصرا فقط على الجوانب التعبدية والمعاملاتية، بل يتجاوزه إلى مجال السياسة والشأن العام، وهو مجال المصالح والمفاسد فيها يجري أثرها على ملايين الناس، فالأولى أن يتم النهي عن منكر السياسة من ظلم وفساد ونهب للثروات ، ويتم الأمر بإقامة العدل وإحقاق الحق والعدل بين الناس في تدبير شؤون دينهم ودنياهم.
هذا هو ديننا الحنيف الذي يجعل من الاهتمام بأمر المسلمين شرطا ضروريا للانتماء لجماعة المسلمين، فنبينا الكريم يقول: “من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم”، فالانخراط في العمل السياسي ومحاربة المنكر في السياسة من باب الاهتمام بالشأن العام السياسي الذي يهم الشعب ومصلحة البلاد والعباد.
فالدعوة للمشاركة السياسية الفاعلة تأتي كذلك من باب تغيير المنكر الذي تعيشه بلادنا وشعبنا، فخاتم المرسلين يقول: “من رأي منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يجد فبلسانه، فإن لم يجد فبقلبه”.
فالأدلة كثيرة من القرآن الكريم والسنة النبوية على ضرورة التدافع بين أهل الحق وأهل الباطل، وعدم الاستسلام لطغيان الفساد، فالله تعالى يقول “ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض”، كما أن النبي الكريم عليه الصلاة والسلام يوصي بضرورة العمل وبقدسيته وفعل الخير حتى وإن لم تتوفر شروط جني ثمار ذلك الفعل، وهو ما نستشفه من حديث الفسيلة، إذ قال النبي صلى الله عليه وسلم “إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة، فإن استطاع أن لا يقوم حتى يغرسها فليفعل”.
المشاركة السياسية الفاعلة فعل مقاوم في زمن الطوفان
السياق الدولي الذي نعيشه متأثر بمعركة طوفان الأقصى المباركة، فما حققته المقاومة في الأراضي الفلسطينية لم يكن نتيجة استسلامها للأمر الواقع، وخضوعها لموازين القوة العالمية، بل كانت نتيجة ثبات وصمود دام لعقود، وتطوير لقدراتها وإمكانياتها، واستفادتها من أخطائها. كل هذا مكنها من أن يكون لفعلها يوم السابع من أكتوبر أثر كبير، وأن تتحول من منطق رد الفعل إلى المبادرة بالفعل والهجوم، والانتقال من الخضوع لموازين القوى العالمية إلى التأثير في هذه الأخيرة وخلخلتها في لحظة تاريخية تعرف فيها هذه الموازين ارتباكا ملحوظا.
إن أهم درس نستفيده من معركة طوفان الأقصى هو الأهمية البالغة للاستمرار على درب النضال رغم المعيقات ورغم الصعاب، فطوفان الأقصى أبان للعالم أن الشعوب العربية للأسف مستعمرة وخاضعة للقوى الغربية، وأن الاستبداد الذي تعاني منه استعمار داخلي يقوض مقدراتها ويستغلها لصالح الكيان الغاصب، وأن الاحتلال الصهيوني والاستبداد السياسي وجهان لعملة واحدة، وأن أسهل طريق لتحرير فلسطين والأقصى هو التحرر من الاستبداد السياسي، وهو ما لا يتأتى دون مشاركة سياسية فاعلة.
بل إن الدعوة للمشاركة السياسية الفاعلة لأكبر فعل مقاوم في ظل محاولات تجريف الحياة السياسية وقتلها وإفقادها المعنى وإفقاد الثقة فيها وجدوائيتها. فالمشاركة السياسية الفاعلة ترنو إلى إحياء العمل السياسي الجاد من جديد، وأن درب التحرير هو ذاته درب التحرر من الفساد والاستبداد، فالمشاركة السياسية الفاعلة هي الترجمة العملية للإمساك بعصى السنوار.
والله تعالى يقول “إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم” والتغيير ما بالنفس ينطلق من تغيير العقليات والقناعات، تغيير عقليات النفعية والخلاص الفردي إلى عقليات التضحية والخلاص الجماعي.
ومهما طال الزمن أو قصر، لابد لليل أن ينجلي ولا بد للقيد أن ينكسر.