الواجهة

نحو ثقافة مدرسية تؤسس “لمواطنة رقمية” عالمية

د. أحمد أوزي
أستاذ فخري/جامعة محمد الخامس
مقدمة
كثيرة هي التعاريف التي حاولت تحديد مفهوم الثقافة المدرسية، في أدبيات علم الاجتماع التربوي، وعلم النفس التربوي، وغيرها من العلوم الانسانية. ونقصد بها هنا مجمل ما يكتسبه المتعلمون داخل المؤسسات التعليمية، من قيم، واتجاهات، واعتقادات وسلوك، يُنقل إليهم عن إرادة ووعي، عبر أساليب التعليم والتعلم المُمنهج، ومن خلال مختلف الأنشطة اليومية للحياة المدرسية. والواقع أن هذه المهمة رافقت وظيفة المدرسة منذ ظهورها. غير أن السؤال الذي يطرح نفسه اليوم في عصر العولمة ومجتمع المعرفة، هو ما إذا كانت الثقافة المدرسية ستقتصر في مناهجها وأنشطتها على تأكيد الثقافة الوطنية وتعزيزها في نظامها المؤسسي أم أن طبيعة العصر الذي نعيشه، والذي يعرف تقدما كبيرا في مجال التكنولوجيا الرقمية، وأصبح يعتمد عليها بشكل كبير في مختلف أنشطة الحياة اليومية، للتواصل مع غيرنا في أبعد القارات، التي لم تعد تفصلنا عنها، سوى بضع نقرات تسجل على لوح الحاسوب، فتطوى المسافات ويختصر الزمان. ليس هذا فحسب، وإنما غدت الانترنت وسيلة لا غنى عنها في حياتنا ونشاطنا اليومي. نستخدمها للتحقق من حسابنا في المصرف أو اجراء معاملة مصرفية أو شراء منتج أو التواصل مع أفراد الأسرة والأصدقاء، إلخ. وهذا ما يلزم المدرسة اليوم توسيع ثقافتها وإثرائها، وجعلها تنفتح على العالم وتعد وتكون مواطنين عالميين ينفتحون على عالم عولمت ثقافته. حقا إننا كثيرا ما نجد الخطاب الرسمي في مجال التعليم، يدعو إلى التربية من أجل السلام وإلى حوار الثقافات، إلا أنه خطاب يغفل الاهتمام والتركيز المباشر والصريح على الثقافة التي تؤسس لمواطنة رقمية عالمية. وهو ما يستدعي من واضعي المناهج التعليمية، إعادة النظر في مضامين الأهداف المدنية والثقافية التي تدرس بمدارسنا، وذلك في سياق العولمة وانتشار المعلوميات، للمساهمة في تكوين مواطن الغد، خاصة وأن التقنيات الحديثة والمتطورة تتيح إلغاء الأبعاد الأحادية للأنظمة التقليدية للاستهلاك الثقافي.
إن طلابنا تغيروا بشكل جذري، ولم يعد طلاب اليوم، هم أولئك الأشخاص الذين صُمم شكل نظامنا التعليمي، الذي تم وضع هيكلته منذ الثورة الصناعية الأولى، التي مضى عليها قرنان من الزمان بهدف تعليمهم. إن عالم الإنترنت الذي يعيشون فيه، عالم يتجاهل حدود الصفوف أو جدران المدرسة، تمامًا كما يتجاهل الحدود المحلية أو الإقليمية أو الوطنية. فشباب اليوم يستخدمون التكنولوجيا على نطاق واسع. مما نشأ عنه جيل أمضى حياته محاطا باستخدام أجهزة الكمبيوتر وألعاب الفيديو ومشغلات الموسيقى الرقمية وكاميرات الفيديو والهواتف الخلوية وجميع الألعاب والوسائط الرقمية الأخرى. إن الانترنت والهاتف النقال لم تعد تستخدم فقط للاتصال، ولكن أيضًا لاستهلاك المحتوى الثقافي، والتبادل والتواصل . إنهم بدون شك، يحضرون معهم ثقافتهم الرقمية، وخبراتهم إلى المدرسة. ومن واجبنا استيعاب هذا الواقع الجديد في أنظمتنا التعليمية. ولعل هذا المعطى الجديد الذي تتيحه تكنولوجيا المعلومات والاتصال، هو ما جعل العديد من الباحثين يسلطون الضوء خلال معالجتهم للتعليم الرقمي على “المواطنة الرقمية” العالمية، كهدف ثقافي وتعليمي أساسي، ينبغي لمدرسة القرن الحادي والعشرين الاهتمام به، وجعله ضمن خططها وبرامجها التربوية والتكوينية.
أولا: مفهوم المواطنة الرقمية
إن مفهوم المواطنة الرقمية يتجاوز اتقان المهارات الرقمية، ويطرح جملة من التساؤلات بصدد تكوين وتدريب النشء على النموذج الجديد، للمواطن الرقمي العالمي، فماذا يقصد بالمواطنة الرقمية العالمية؟ وما هي خصائصها وأهدافها التي ينبغي ينشأ الفرد في عصر العولمة والثورة الرقمية على ثقافتها؟
يمكن تعريف المواطن الرقمي بأنه الشخص الذي يستخدم تكنولوجيا المعلومات والاتصال بمهارة وعلى نطاق واسع، فهو ينشؤ المدونات ويستخدم الشبكات الاجتماعية، ويشارك في الصحافة عبر الانترنت، إلخ، بهدف الانخراط في المجتمع وقضاياه المختلفة. هذا، وقد عرفت كارين موسبرغر (Karen Mossberger) مؤلفة كتاب ” المواطنة الرقمية: الإنترنت، المجتمع والمشاركة”، المواطنين الرقميين بأنهم ” أولئك الذين يستخدمون الإنترنت بانتظام وفعالية “. ولديهم كذلك حس وفهم شامل للمواطنة الرقمية، التي تعتبر سلوكا مناسبا ومسؤولا خلال استخدام التكنولوجيا . وتقتضي جودة المواطنة الرقمية مشاركة جميع أفراد المجتمع الرقمي في ذلك، سواء كانوا أشخاصا مرئيين أو غير مرئيين. ويعد محو الأمية الرقمية والتحلي بآداب السلوك وتحمل المسؤولية واحترام حقوق الملكية الفكرية، واكتساب مهارات متعددة، كالليونة والقدرة على التأقلم والحسّ النقدي، والسعي نحو التنافس والإبداع عناصر أساسية في المواطنة الرقمية ينبغي توافرها في المواطن الرقمي.
يرى الباحث يوشاي بنكلير (Benkler, 2009) المختص في القانون، أن تكنولوجية المعلومات والاتصال تؤدي إلى ولادة ثقافة هامة جديدة، تجعل المواطنين يتمتعون بسلطة كبيرة، من خلال قدرتهم على نشر آرائهم الخاصة حول مختلف القضايا التي تشغلهم. كما أن هذه التقنية تقوم بتوحيد الثقافات والممارسات الاجتماعية. كما أن العولمة تقود إلى بناء مواطنة نشيطة واجتماعية، تهدف إلى تحقيق ” العيش المشترك”، وذلك من خلال مجتمع المعلومات العالمي الذي أنشأته .
وفي ضوء ما سبق، يطرح السؤال الأساسي: كيف يمكن للمدرسة تعزيز إقامة هذا المجتمع المدني الجديد، وتؤسس للمواطنة الرقمية، التي تعرف قدوما، بفعل الشبكات الرقمية المتعددة والمتنوعة؟ إنه سؤال جوهري يطرح العلاقة بين الثقافة الرقمية التي تغلغل نفوذها وتأثيرها في مختلف مرافق حياتنا، وينشأ عليها جيل الأطفال والشباب، وما يمكن أن تقود إليه من ولادة مواطنة عالمية، مما يشكل تحديا أساسيا لمدرسة اليوم.
ثانيا: الثقافة الرقمية ودور المدرسة في عصر العولمة ومجتمع المعرفة
من غير شك، أن دور المدرسة لم يعد ينحصر في نقل المعرفة إلى الجيل الجديد وإدماجه في ثقافة مجتمعه، وإنما الاضطلاع أيضا بقيادة التغيير والتطوير في المجتمع وتحدي مشكلات المستقبل. ومن ثمة، يتوجب إعادة دراسة الأهداف المدنية والثقافية للمدرسة في سياق العولمة، التي احتلت فيها التقنيات الرقمية والممارسات الثقافية والاجتماعية الجديدة مكانة بارزة، وخاصة لدى الأطفال والمراهقين الذين يستخدمونها بشكل كبير.
إن الثقافة الرقمية عرفت في العقود الأخيرة تطورا وانتشارا كبيرا، خاصة لدى الأجيال الجديدة. ويقصد بالثقافة الرقمية، مجمل القيم والمعارف والممارسات، التي تنطوي على استخدام التقنية الرقمية، وما يرتبط بها من الاستهلاك الثقافي والإعلامي المؤدي إلى التعبير عن الذات، وإلى التواصل مع الغير في مختلف مناطق المعمور. لهذا، فإن الشخص الذي يفتقر إلى هذه الثقافة التقنية يصعب عليه العيش في بيئته، ويغدو بالتالي مغتربا عنها، بسبب عدم ضبطه لأسلوب التعامل معها، من جهة، وبسبب ما يعتريه من قصور في تحديد مكانته الاجتماعية، من جهة أخرى، ويظل في وضع الاعتماد الدائم على غيره، للتعامل مع منظمات المجتمع ومع الأفراد الذين يمتلكون هذه الكفايات التي تنقصه. ولهذا نعتقد بأن امتلاك الحد الأدنى من هذه الثقافة التقنية ومهاراتها العملية، يعتبر شيئا ضروريا في عالم اليوم. فالشباب ليس لديهم علاقة فطرية مع الكمبيوتر والإنترنت، وإنما يجب تدريبهم على محو الأمية المعلوماتية واكتساب المهارات الأساسية لفهم الثقافات الإعلامية التي تطورت في أعقاب مجتمع المعلومات العالمي. والثقافة الرقمية للشباب ليست واحدة، بل متعددة. إنها تختلف وفقًا لممارساتهم الثقافية ودرجة معرفتهم لتكنولوجيا المعلومات والاتصالات. وفي مواجهة هذا التفاوت المعرفي، يعد تعليم الثقافة الرقمية في المدرسة، أمرًا ضروريًا. ينطوي التعليم الرقمي على تعليم وسائل الإعلام، لا سيما تلك التي تتعلق بمعالجة المعلومات والتحقق من صحتها، والحفاظ على الهوية الرقمية، والمسؤولية في نشر المحتوى الرقمي.
وعلى الرغم من أن الأطفال والمراهقين، يخصصون في ممارساتهم الرقمية وقتا أطول للترفيه باستخدام العاب الفيديو والأفلام والموسيقى وغيرها، بحيث أصبحت هذه التقنية جزء لا يتجزأ من حياتهم، إلا أنه يتخلل ذلك أيضا البحث عن المعلومات وتبادلها في المنتديات أو المدونات، وهو ما يؤدي إلى بناء ثقافة رقمية ينقلونها وينتجونها ويتبادلونها خارج فصول المدرسة، وبعيدا عن نظامها وعن سيطرة البالغين، في غالب الأحيان. إنها ثقافة تؤدي إلى طريقة جديدة للوجود في العالم وفي التعامل مع “المواطنين الرقميين” الذين يفكرون ويتصرفون بطريقة مختلفة عن الأجيال السابقة، بسبب التعرض المبكر لتكنولوجيا المعلومات والاتصالات. وهذا يقودهم إلى تطوير نمط جديد من الإدراك والتفكيرالذي يتميز بالتعلم المتعدد المهام واستخدام استراتيجية الاكتشاف والاستكشاف . ويعزز التعلم غير الرسمي بين الأقران عن طريق استخدام التقنيات الرقمية.
ثالثا: الدور المحوري للثقافة والاعلام الرقمي في عالم اليوم
شهدت العقود الأخيرة معالم الثورة الصناعية الرابعة، المتمثلة بوجه خاص، في تقدم وتطور تقنيات الإعلام والاتصال، وانتشار استعمالها في كل مرافق الحياة اليومية، وسرعة تداول المعلومة وتعميمها. مما جعل لتقنية الاعلام والاتصال في عالم اليوم أهمية كبيرة. فقد تحولت الانترنت وشبكات التواصل الاجتماعي إلى وسيلة بالغة الأهمية وواسعة الانتشار في التواصل ونقل المعلومات والأخبار بشكل سريع. فضلا عن أنها أداة التثقيف والترفيه، متجاوزة وسائل الاتصال التقليدية، مثل الصحف والإذاعات. فهي واسعة القدرة في تخط حواجز الزمان والمكان وبالغة السرعة في إيصال مختلف أشكال المادة الإعلامية المقروءة والمصورة، فضلا عما تتيحه من تأطير النقاش العمومي حول القضايا الهامة في المجتمع ونشر الوعي بالحق في حرية التعبير، والمشاركة السياسية. والذي يساعد على تنمية هذه الثقافة الرقمية بشكل أساسي أنها تبنى خارج أسوار المدارس وخارج سيطرة النظام المدرسي ورقابة أولياء الأمور. وهذا ما يقتضي الاعتماد على مختلف الوسائط الرقمية لأداء أدوار ووظائف جديدة ذات أهمية تحسيسية وتوعوية وثقافية تقود إلى خلق عالم يضمن عيش الإنسان ورفاهه والتضامن والتعاون بين الإنسان وأخيه الإنسان في مجتمعات يسودها العدل والمساواة والأمن والسلام الاجتماعي، في سياق تكون المنافسة فيه بين مختلف أفراد المجتمع منافسة ذات قيمة إنسانية عالية.
رابعا: من التربية على السلوك المدني إلى التربية على” المواطنة الرقمية”
يرى أوديجير (François Audigier, 2009) أننا انتقلنا بفعل التقنية الرقمية، من مواطنة الانتماء والطاعة التي ركزت على الهوية الجماعية والمشاركة في الإجراءات الانتخابية واحترام القانون، إلى مفهوم المواطنة الذي يؤيد التأكيد على الحرية الفردية، والذي يجمع بين حركة الانتماء ومرونة الاختيار . لقد ظهر صنف جديد من المواطنة التي قاد إليها تطوير وسائل الاعلام، ولاسيما الشبكات الاجتماعية على الانترنت. يتم تشكيل هذه المواطنة الجديدة على مجموعة من الانتماءات التي تكون بالانتماء إلى الجنس، أو العمر، أو الطبقة الاجتماعية، أو العرق. والمواطن الرقمي شخص قادر، من خلال تطوير مجموعة واسعة من الكفاءات، على الانخراط بنشاط بإيجابية ومسؤولية في كل من المجتمعات المحلية وغير المحلية وطنية أو عالمية، نظرًا لأن التقنيات الرقمية في طبيعتها تتطور باستمرار، مما يؤدي إلى بناء كفاءات الفرد مدى الحياة. وهذا ما يتطلب تعليم المواطنة الرقمية في سن مبكرة، من مرحلة الطفولة في البيت والمدرسة، وفي البيئات التعليمية الرسمية وغير الرسمية، بهدف تكوين جيل جديد من الطلبة والباحثين ذوي كفايات عالية في مجال التكنولوجيات الحديثة، قادرين على التعامل مع كل أصناف التقنية والتكيف مع التطورات الهائلة التي تحصل في المجال على نحو متسارع.
ينطوي التكوين على المواطنة الرقمية إعداد أطر محترفة في مجال تقانات المعلومات والاتصال وبناء القدرات في مجال إنتاج المحتويات المعرفية، والانخراط في التفكير في مجال الأخلاقيات وحماية مستعملي الانترنت. يشارك المواطن الرقمي في مجموعة واسعة من الأنشطة التي تشمل اللعب والكتابة وتحرير النصوص والتواصل الاجتماعي والتحقق من الانتاجات الرقمية والتعلم والعمل. وبذلك، فإنه يغدو مواطنا كفء قادرا على الاستجابة للتحديات الجديدة واليومية المتعلقة بالتعلم والعمل والتوظيف والترفيه والاندماج والمشاركة في المجتمع، واحترام حقوق الإنسان وقبول الاختلافات بين الثقافات .
ومن غير شك أن هذه الممارسات الرقمية تؤدي أيضًا لدى الشباب إلى طريقة جديدة للوجود، حيث تركز بشكل أكبر على الفرد (تنظيم الأنا) وأكثر توجهاً نحو الآخرين (الثقافة الشبكية).
إنه على الرغم من أن المواطنة الرقمية ليست مواطنة عالمية معترف بها رسميًا من قبل مواطني العالم، إلا أنها شعور مشترك بين الأشخاص الذين يعتقدون أن سكان الأرض يشكلون شعبًا عامًا يتمتع بحقوق وواجبات مشتركة، خارج الانقسامات الوطنية، ويضعون مصلحة الإنسان فوق كل شيء.
إن ثورة تكنولوجيا المعلومات والاتصال التي يعيشها العالم، تحمل معها العديد من الايجابيات والسلبيات للفرد والمجتمع. ومن واجب مستخدمها السعي إلى التعاون في توظيفها وفق قواعد أخلاقية سليمة ومراعاة الضوابط الدينية والقانونية المساعدة على الحد من سلبيات هذه التقنية على الفرد والمجتمع. ومن أجل ذلك ظهر مفهوم المواطنة الرقمية للارتقاء بالفرد والمجتمع، خلال استخدام هذه التقنية، نحو الوعي والثقافة الرصينة، والالتزام بالمبادئ والمعايير والقواعد والضوابط والأعراف التي تتبع خلال الاستخدام الأمثل للتكنولوجية الرقمية. وهذه المعايير يسعى إلى الالتزام بها الصغار والكبار بهدف الرقي باستعمالها لفائدة رقي الفرد والمجتمع. فالمواطنة الرقمية لا تعدو أن تكون سوى التوظيف الذكي للتكنولوجيا بشكل يحمي استخدامها، ويوجهها نحو استعمالها في مختلف المنافع اليومية والوقاية من أخطار سوء الاستخدام. إنه ليس المقصود منها وضع العراقيل والحدود للتحكم والمراقبة، مما يتنافى مع قيم الحرية والعدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان في الوصول إلى المعلومات، وإنما المقصود هو التوجه نحو السبل التي من شأنها أن تحمي المستخدمين، خاصة منهم الأطفال واليافعين، وتعزيز السلوكيات المرغوبة وتجنب المنبوذة خلال التعاملات الرقمية لتحقيق المواطن الرقمي، الذي يحب وطنه ويرقى بسلوكه نحو القواعد الكونية التي تحكم سلوك الإنسان. وهذا ما يدعو إلى خلق الرغبة التدريجية لتعبئة المدرسة في سيرورة بناء المواطنة الرقمية “الإيجابية” المصاحبة للتطورات الاجتماعية والثقافية الحالية.
إن هذا المعنى للمواطنة الرقمية يجعلها وثيقة الصلة بمنظومة التربية والتكوين، لتساعد التربويين عموما وأولياء الأمور خاصة، لفهم ما ينبغي على النشء معرفته للاستخدام المفيد للتكنولوجيا.
خامسا: محو الأمية الرقمية بوابة المواطنة العالمية
يسلط العديد من الباحثين الضوء خلال معالجتهم للتعليم الرقمي على المواطنة العالمية، وذلك بالنظر إلى ما أصبح يتيحه استخدام الرقمنة من قبل الأطفال والمراهقين من أشكال التواصل والعلاقات الجديدة، سواء مع الذات أو مع الآخرين، مما يدعو إلى اكتساب الكفاءات الرئيسية في مجال التقنيات الرقمية للتحكم في استخدامها في الحياة الخاصة أو الاجتماعية أو المهنية. هذا التعليم الرقمي ضروري لتطوير ممارسات آمنة وحاسمة والتحفيز على التفكير في نشوء مواطنة رقمية عالمية. فالشباب ليس لديهم علاقة فطرية مع الكمبيوتر والإنترنت، لذلك ينبغي تدريبهم على محو الأمية المعلوماتية واكتساب المهارات الأساسية لفهم الثقافات الإعلامية التي تطورت في أعقاب مجتمع المعلومات العالمي.
إن التعليم من أجل المواطنة العالمية، وفقًا لمجلس أوروبا، يهدف إلى “رفع مستوى الوعي وتعزيز قدرة المواطنين على اتخاذ إجراءات والدفاع عن حقوقهم والمشاركة في المناقشات السياسية المتعلقة بالعدالة الاجتماعية والتنمية المستدامة محليا ووطنيا ودوليا، مما يشجع الطلاب والمعلمين على التعاون في المشاكل العالمية ويمكّن المواطنين من فهم الحقائق والعمليات المعقدة الأخرى لعالم اليوم، مع تطوير القيم والمواقف والمعرفة والمهارات التي ستمنحهم طرق مواجهة تحديات عالم مترابط. إنه يجب الاعتراف بأن الطلاب ليسوا مواطنين في دولة قومية فقط، ولكنهم أيضًا مواطنون عالميون ناشئون يعيشون في عصر العولمة وحقوق الإنسان العالمية. هذه المواطنة الكونية، كما يعتقد هابرماس، تحافظ على روابط وثيقة مع انفجار استخدامات التواصل والأشكال الجديدة للمشاركة والتبادل على الإنترنت . وهذا ما يفرض إدخال المدرسة في عصر الانترنت لكي لا تكون ثقافتها غريبة عن عالمها. إن التربية المدنية المقدمة في إطار وطني تشير إلى القيم الوطنية التوافقية، غير أنه بوسعها التفتح تدريجيا على شكل أوسع من تعليم المواطنة العالمية والتطلع إلى حقوق الإنسان العالمية، ومكافحة عدم المساواة عالميا، إلى أشكال جديدة من الحكم ومشاركة المواطنين عالميا. وهذا الشكل من التعليم من أجل المواطنة العالمية لا يتعارض بشكل أساسي مع الأهداف المدنية والتراثية للمعرفة المدرسية التي يتم تدريسها في إطار أنظمة التعليم الوطنية.
إن هذا الهدف السامي، لا يمكنه أن يتحقق ما لم يتم محو الأمية الرقمية، التي تتجسد في قدرة الشخص على العثور على المعلومات وفهمها عبر الإنترنت، والقدرة على تحويل المعلومات إلى محتوى مفيد وقابل للمشاركة. إنها بتعبير أدق القدرة على الوصول إلى المعلومات، وإدارتها وفهمها ودمجها وإبلاغها وتقييمها وإنشائها بأمان وبشكل مناسب، من خلال الأجهزة الرقمية والتقنيات الشبكية للمشاركة في الحياة الاقتصادية والاجتماعية. ولهذا يرى كولان باور Colin Power المساعد السابق للمدير العام لليونيسكو، أن هناك استعمالا جديدا لمفهوم محو الأمية . وأضاف أن “الأمية اليوم ذات طابع علمي وتكنولوجي وصحي وقانوني … فمفهوم الأمية ليس شيئا جامدا، بل هو مفهوم يتميز بدينامية دائمة. الأمية مشكلة تواجهها كل بلدان العالم، وليس فقط الدول السائرة في طريق النمو… إنني أتذكر دائما جانبا من أميتي الخاصة عندما أتواجد أمام الكمبيوتر. فمحاربة الأمية هو ما يخول للناس استقلاليتهم، ما يمنحهم الكفايات التي هم في حاجة إليها، وكذلك ما يستجيب لحاجاتهم المتنوعة مثل معرفة حقوقهم الخاصة والتقنيات المستعملة” . وفي هذا السياق الذي يجعل مفهوم الأمية مفهوما ديناميا ومتطورا، فإن المواطنة الرقمية لا ينبغي أن تقتصر على إتقان تكنولوجيا الإعلام والاتصال، وإنما أن تشير إلى مجموعة من طرق العمل والتفكير المجدي لجميع أفراد العالم الذين تجمعهم الشبكة الرقمية وتسهل التواصل بينهم. بل هي طريقة لفهم التحديات التي يواجهها جميع مستخدمي التقنيات الرقمية. وهذا ما يدعو بإلحاح شديد إلى تعبئة المدرسة في سيرورة بناء المواطنة الرقمية الإيجابية المصاحبة للتطورات الاجتماعية والثقافية التي يعرفها العالم. إن كوفيد 19 أماط اللثام عن فجو الأمية، وبين ضرورة اهتمام التعليم ليس بالأطفال فقط، وإنما أيضا الاهتمام بآبائهم، فقد قيل بأن المجتمع الذي يرعى أبناءه ينبغي أن يحرص على الاهتمام آبائهم. فقد اتضح خلال انتشار وباء كورونا أن العديد من الراشدين الأميين لم يستطيعوا التكيف مع ظروف الجائحة والتغلب على ضررها، بسبب فقدانهم قدرة القراءة وقدرة الاستفادة من الرسائل الإعلامية التي كانت توجه إلى الناس آنئذ، مما حرمهم من اتباع المبادئ الصحية والاستفادة من التوعية بأخطار الوباء وإدراك أسبابه وتداعياته المختلفة. ولقد أشار عالم الاجتماع الأمريكي الفان توفلر (2016 – 1928) Alvin Toffler إلى معنى جديد للأمية في القرن الحادي والعشرين، عندما قال في كتابه “صدمة المستقبل (Future Shock) : «إن الأميين في القرن الحادي والعشرين لن يكونوا أولئك الذين لا يعرفون القراءة والكتابة، وإنما أولئك الذين لا يستطيعون التعلم، أو لا يستطيعون التخلي عما تعلموه، أو لا يستطيعون إعادة التعلم”.
سادسا: أهمية المواطنة الرقمية في الظروف العصيبة لمكافحة الضغوط والتوترات النفسية
ما أحوجنا اليوم إلى المواطنة الرقمية العالمية لتسخيرها في التواصل الذي يخدم الصحة النفسية، التي تساعد على تقوية المناعة النفسية لتحقيق توازن شخصية الأفراد، في وقت تجتاز فيه المجتمعات البشرية ظروفا عصيبة، بسبب اجتياح فيروس كرونا الجديد 19 مختلف بقاع العالم. وهو ما يستلزم توظيف مختلف الوسائط الرقمية لتحسيس الرأي العام العالمي بخطورته دون تهويله. وتقديم المعرفة العلمية عنه وعن الأساليب الصحيحة لمقاومته والتعامل معه بجدية، والقيام بالتوعية النفسية المساعدة للتخفيف من حدة الضغوط والتوترات النفسية، التي تسبب القلق والخوف الذي يتملك العديد من الناس، ويجعلهم يفقدون التوازن النفسي والمناعة المطلوبة، التي يمكن أن تقوي معنويتهم وتشد أزرهم، ولا تجعلهم فريسة الإعلام المغرض والشائعات التي تنتشر في مثل هذه المناسبات. وتؤدي إلى استسلام بعض الناس إلى الخوف والقلق والاكتئاب، الذي قد يولد لدى البعض دافع ممارسة السلوك العدواني في غياب الشعور بالهدوء.
إن أغلب أفراد المجتمع في مثل هذه المناسبات الأليمة، يقضون معظم وقتهم في الحجر الصحي يلازمون بيوتهم، ويتزايد الاعتماد على الانترنت ومختلف الوسائط الرقمية، وتغدو قطبا جاذبا للحصول على المعلومات حول الوباء وجغرافية انتشاره، سواء في بلدانهم أو في غيرها من بلدان العالم. ولعل هذه فرصة سانحة لتوظيف هذه التقنية لصالح البشرية جمعاء، لتحصينها والتخفيف من الشعور بالتوتر الذي من شأنه الإسراع بتفشي الوباء لدى الكثير من الضحايا لضعف المقاومة لديهم وجعلها تتلاشى بفعل الضعف والانهيار النفسي.
إن هذه الظروف التي تظهر فيها مثل هذه الأوبئة التي تحدث الأزمات، يتعرض الانسان إلى مواقف تمتحن فيها قيمه ومعاييره الإنسانية. إنها ظرف خاص يمكن خلاله للمواطنة الرقمية الإيجابية أن تستثمر مهاراتها الرقمية وتتحمل مسؤوليتها وأن تكون أداة فعالة لتنمية وتقوية أواصر التضامن والتعاون بين مستخدمي التقنية الرقمية وتوجه سلوكهم جميعا إلى خدمة التآزر وتنمية الذكاء الجماعي، وأن تحقق ” العيش المشترك”، من خلال مجتمع المعلومات العالمي الذي أنشأته، وأن تُستثمر في التضامن والتعاون الإنساني في سياق المجتمع، حيث تغدو المنافسة بين الأفراد ذات قيمة عالية. لذلك، فإن تحقيق الأمن السيبراني يعتبر أولوية أساسية لا يمكن أن تتحقق ما لم يكون مستخدمي الانترنت مواطنين رقميين وليس قراصنة للمعلومات هوايتهم المفضلة اختراق مواقع غيرهم وسرق بياناتهم.

المراجع
– Council of Europe (2019). Digital citizenships Education Handbook.
– Endrizzi (Laure), « Jeunesses 2.0 : les pratiques relationnelles au cœur des médias sociaux ». Dossier d’actualité Veille et Analyses, n°71, février 2012, http://ife.ens-lyon.fr/vst/DA-Veille/71-fevrier-2012.pdf
– http. // www. Unesco.org/opi/Unesco press/98.
– Karen Mossberger (2008).. Digital citizenship: The Internet, Society, and Participation. The Mit Press Cambridge, Massachusells, London, England. Chapter 1.
– Maria Pagoni : Rencontre avec François Audigier : Éducation à la citoyenneté et participation. Dans Carrefours de l’éducation 2009/2 (n° 28), pages 150 à 156
– Pascal Lardellier, Le pouce et la souris. Enquête sur la culture numérique des ados, Fayard, 2006.
– Serge Proulx. Trajectoires d’usages des technologies de communication : les formes d’appropriation d’une culture numérique comme enjeu d’une « société du savoir ». in annals of telecommunications – annales des télécommunications 57:180-189 · January 2002
– Yochai Benkler (2009).La Richesse des réseaux : marchés et libertés à l’heure du partage social. Lyon, Presses universitaires de Lyon, p.43
– Sylvie Octobre (2014).Les enfa

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى