الواجهةمجرد رأي

هل بات بنكيران مطلبا شعبيا في حكومة المونديال القادمة؟

بقلم : هشام امساعدي،
أثارت خرجات الأستاذ عبد الإله بنكيران الأخيرة، وخاصة تلك التي كانت عبر “اللايف” بالفايسبوك، ضد سياسة الحكومة الحالية ورئيسها “عزيز أخنوش”، ورسائله المشفرة والمعلنة في المؤتمر الوطني التاسع لحزب العدالة والتنمية بمدينة بوزنيقة في أبريل الماضي بعد تجديد انتخابه أمينا عاما لحزب المصباح، ومهاجمته أصحاب شعار “كلنا إسرائيليون” في كلمته بمناسبة عيد العمال في فاتح ماي 2025، أثارت جدلا واسعا في الأوساط السياسية والإعلامية مؤخرا، وحوَّلت مواقع التواصل الاجتماعي إلى ساحة تعج بالتعليقات المؤيدة والمعارضة في آن واحد.
فالمؤيدون يُجمعون على أن هذه الخرجات عادية (طالما لم يتجاوز فيها الأستاذ بنكيران حدود اللباقة)، ولا تعدو أن تكون جزءًا من الأدوار التي يضطلع بها بنكيران في التأطير السياسي لأعضاء حزبه وتعبئته للجماهير، وتعميق الوعي السياسي والاجتماعي والثقافي لدى المواطنين بوصفه زعيما سياسيا وأمينا عاما لحزب في المعارضة. ويرون أن ردود الفعل القوية التي قوبلت بها تصريحاته الأخيرة، ما كانت لتحصل لو لم توجع الخصوم السياسيين والمعتاشين في دواوينهم، وعلى موائدهم طيلة هذه الولاية. بنكيران في نظر هؤلاء رجل جريء يستطيع الدفاع عن نفسه في كلمات، وزعيم وطني عَصِيٌّ عن التطويع والإخراس، ويكاد يكون الناقوس الوحيد الذي ظل يحدث ارتجاجا في الرأس عند تحركه بالساحة السياسية، ويمثل صرخة الحق في زمن الصمت والانبطاح. ومادام لم يُسَلِّم للتحكم سيبقى مستهدفا في شخصه وحزبه قبل خطابه السياسي.
أما المنتقدون فيرون في بنكيران مجرد “سياسي عائد” يعاني من فائض في الزعامة، شغوف بالحديث عن الفساد ليستميل به الناس، وهو يعلم قبل غيره أنه لم يقدم حلولا لمواجهة الفساد عندما كان رئيسا للحكومة. ويرون أن شطحاته الأخيرة محاولة مكشوفة لترميم شعبيته التي نزلت إلى الحضيض بعد نكسة 08 شتنبر 2021 حين صوَّت المغاربة عقابيا ضد حزبه في الانتخابات التشريعية، وأن خطابه خطاب تهريج وتضليل سياسي لفئات كبيرة من المجتمع، ولا يرقى إلى مستوى الخطاب السياسي لرجل الدولة الذي يراعي الحد الأدنى من أدبيات الحوار مع المخالفين له في التصور، بل يروم الإساءة لصورتهم، ويعمل على قتلهم رمزيا لدى الرأي العام في لحظة حماس خطابية. وهؤلاء لا يقتصر انتقادهم للزعيم بنكيران، بل يطال أعضاء حزبه والمتعاطفين معه، ويصفونهم بقطيع “الباجدة” بالمعنى القدحي للكلمة، وليس بالمعنى الامتداحي “Les pjdistes”، وأن علاقتهم به هي أشبه بعلاقة شيخ الزاوية مع مريديه، ولا يملكون كبحه أو مجرد انتقاده.
وتساءل نشطاء كثيرون هل يمكن للسباق نحو الانتخابات التشريعية 2026 أن يكون وحده السر وراء استهداف الزعيم عبد الإله بنكيران لرئيس الحكومة الحالي “عزيز أخنوش” وبعض وزراء حكومته في هذا التوقيت بالذات، ووراء مغازلته لجلالة الملك في خطاباته الأخيرة؟ بالمقابل تساءل آخرون عمن يقف وراء هذا الهجوم الضاري على الزعيم بنكيران وحزبه في الجرائد الإلكترونية وفي مواقع التواصل الاجتماعي، وشككوا في أن يكون هذا القصف الإعلامي الممنهج مجرد ردة فعل بريئة؟
والواقع أن من يتابع الشأن السياسي منذ الإصلاحات التي جاء بها الدستور المغربي في 29 يوليوز 2011، ومن ينظر إلى التحديات الوطنية الكبرى ومآلات السياسة الحكومية الحالية، يدرك أن الخطاب السياسي عند الأستاذ بنكيران (الشعبوي حسب الخصوم) في جوهره واحد ولم يتغير. ولا يحتاج المحلل الموضوعي إلى عناء كبير ليعترف في قرارة نفسه: ما أشبه بنكيران اليوم ببنكيران الأمس!
بالأمس القريب جاءت معاكسة الزعيم بنكيران لتيار التحكم متمثلا في حزب الأصالة والمعاصرة بزعامة “إلياس العماري” واصفا إياه بالحزب غير الطبيعي، وواصفا ولادته بالولادة غير الطبيعية، ولذلك طالبه بحل نفسه لأن لعنة التأسيس ستطارده إلى الأبد، وذلك حين صرح “إلياس العماري” بأن الغاية من تأسيس “البام” هي التصدي للمد الإسلامي في المغرب، وتحديدا: “حزب العدالة والتنمية”. واليوم، انتقلت معاكسة الأستاذ بنكيران لحزب التجمع الوطني للأحرار بزعامة “عزيز أخنوش”، بوصفه امتدادا لمنطق التحكم ذاته في المشهد السياسي المغربي، والاغتناء من التسيير الحكومي ومن تدبير الجهات والجماعات.
وفيما يلي تذكير بأهم عوامل الظهور الأول والثاني للأستاذ بنكيران في المشهد السياسي:
عوامل الظهور الأول للزعيم بنكيران
ما فتئ الأستاذ عبد الإله بنكيران سواء في مهرجاناته الخطابية أو في لقاءاته الداخلية مع أعضاء الحزب وعموم المتعاطفين، يبعث برسائل الطَّمْأَنَةِ للدولة المغربية حتى قبل ترأسه لحكومة 2011، مشددا على أن مشروع حزب العدالة والتنمية مبني على فكرة التدرج في إصلاح المجتمع، انطلاقا من المرجعية الإسلامية التي يمتح منها الحزب، وليس مبنيا على منطق التنازع على الحكم مع جلالة الملك. وعبَّر مرارا عن هذه الفكرة بأسلوبه الذي تطبعه النكتة، وخطابه البسيط والواضح الذي يستوعبه الجميع: “إذا كنتم تريدون مني أن أصطدم مع جلالة الملك، فابحثوا لكم عن أمين عام آخر”؛ “إذا عاش النسر، عاشوا أولادو”، “العدالة والتنمية حزب من الأحزاب يصعد ويسقط، المهم عنده أن الدولة لا تسقط”… ومن فرط حديث الزعيم بنكيران عن الولاء للمؤسسة الملكية، واستعداده للعمل في حكومة يعينها جلالة الملك، بات لا يتحرج ممن يصفونه بأنه: “ملكي أكثر من الملك نفسه”.
ومع هبوب رياح الربيع العربي التي عصفت بثلاثة أنظمة عربية من أنظمة الجوار، أثبت حزب العدالة والتنمية أنه صادق في هذه القناعة حين رفع شعار: “الإصلاح في ظل الاستقرار”، في وقت رفعت فيه “حركة 20 فبراير” سقف مطالبها من ملكية برلمانية إلى إسقاط النظام دفعة واحدة. وشَتَّانَ بين من يريد التغيير ويطالب بالإصلاحات السياسية والاجتماعية مع الحفاظ على استقرار الوطن، وبين من يجعل إسقاط الملكية أولى الخطوات نحو التغيير، حتى وإن فُتحتِ البلادُ على المجهول. هنا تحمَّل الزعيم بنكيران مسؤوليته السياسية أمام الشعب المغربي، ولم يفر خارج الوطن كما فعل زعيم حزب الأصالة والمعاصرة آنذاك، وخرج في جرأة عجيبة ــ فاجأت حتى من يعرفونه ــ يصرخ في وجه التحكم السياسي الذي كان يسير بالبلاد نحو الفوضى، ويهدد استقرار الوطن وسيادته. وأكد في عدد من خرجاته العنترية أن عدو المغاربة الأول ليس هو المؤسسة الملكية كما يزعم بعض الناقمين على النظام، بل هو الفساد والاستبداد.
كان من ثمرات هذا الوفاء للشعب المغربي في لحظة مفصلية من تاريخ المغرب، وهذا الولاء للمؤسسة الملكية في الوقت ذاته، أن أصبح حزب العدالة والتنمية يتمتع بشعبية كبيرة في الأوساط المغربية، وتحول الأستاذ بنكيران إلى زعيم وطني في نظر قواعد الحزب، ومطلبا شعبيا لدى شرائح عريضة من المجتمع. وبات المواطنون في البوادي والجبال والمداشر كما في المدن إذا صادفوا أعضاء الحزب في الحملات الانتخابية، يقولون: “أصحاب بنكيران”. وما زاد من شعبية الرجل هو تمسكه بثوابت الدولة المغربية، وصدقه مع الذات وعفويته في الخطاب، وصناعته للمواقف المرحة أمام الحاضرين، وفوق ذلك كله مخاطبته للمغاربة بلغة قريبة منهم حتى في استعمالاتها الرمزية، التي وصل بها إلى قلوب كثير من المغاربة. وهو ما أتاح له بناء صورة “رجل الشعب” القريب من هموم المواطن المغربي. مما جعل حزب العدالة والتنمية يتبوأ المرتبة الأولى في الانتخابات التشريعية 2011، ثم في انتخابات 2016. وهي سابقة في تاريخ الأحزاب السياسية بالمغرب، إذ لم يسبق لحزب سياسي خرج من رحم الشعب أن ترأس الحكومة لولايتين متتاليتين.
عوامل الظهور الثاني للزعيم بنكيران
بعد السقوط ــ أو الإسقاط بتوصيف أبناء التنظيم والمتعاطفين معه ــ المدوي للحزب في انتخابات 08 شتنبر 2021، والتي رمت به إلى قاع البرلمان بحصوله على 13 مقعدا فقط، نزل من سفينة العدالة والتنمية خَلْقٌ كثير، وتولَّتْ قيادات من الصف الأول، ولم تتأخر الأمانة العامة للحزب بدورها في تقديم استقالتها مباشرة بعد ظهور نتائج الانتخابات التشريعية مُسَلِّمَةً بذلك القواعدَ المناضلة لليأس والترهل والشك القاتل، وأوشكت سفينة الحزب على الغرق بعد تآكل معادنها من الداخل متأثرة بتفاعلها مع القصف الإعلامي الموجَّه، والذي انتشى كثيرا بما أسماه “التصويت العقابي” ضد حزب العدالة والتنمية، وَرَتَعَتْ أقلامٌ مُغْرِضَةٌ لشهور طويلة في عِرْضِ بنكيران وقادة الحزب، يبسطون أسباب الهزيمة الذاتية والموضوعية، ويدَّعون أن تلك الهزيمة النكراء كانت متوقعة في ظل القرارات اللاشعبية التي اتخذتها حكومة بنكيران وحكومة خلفه الدكتور “سعد الدين العثماني”.
بين عشية وضحاها، بدا الحزب منهارا لا يستطيع الوقوف إلا بعكازين. وحتى لو وقف على عكازين فإنه لن يجد له مكانا للوقوف بين المؤثرين في المشهد السياسي سوى بضعة أمتار على الهامش. وبين عشية وضحاها، شعر المناضلون من داخل الحزب قبل المتعاطفين بأن جذوة الإشعاع الحزبي التي حظي بها تنظيمهم القوي في ارتباطه بالجماهير الشعبية قد انطفأت، وأن كل انتفاضات الشتاء التي راكمها الحزب في عشر سنوات سِمَانٍ قد تبخرت مع شمس أول أيام الصيف الحارقة؛ وتحولت اجتماعات الحزب إلى أوراد للدخول في نيات جيل التأسيس من القيادات الوطنية، وحصص للتَّلاوُمِ بين جيل الشباب وجلسات الاتهام واتهام الاتهام، ومَنْ مع الزعيم عبد الإله بنكيران، ومَنْ مع الرئيس سعد الدين العثماني؟ ولولا إلزامية عقد الهيئات المجالية للحزب اجتماعاتها للنظر في الشأن العام والشأن المحلي، وانشغالها بأوراش الهيكلة التنظيمية والتحضير للمؤتمر الوطني التاسع، لقاطع كثيرون هذه الاجتماعات الدورية على أهميتها.
من هنا كان لا بد من مصالحة الزعيم بنكيران، الذي توارى عن الأنظار منذ إعفائه من تشكيل الحكومة الثانية بسبب البلوكاج الذي قاده “عزيز أخنوش” في 2016 بعد تعيين جلالة الملك محمد السادس لبنكيران رئيسا للحكومة المغربية لولاية ثانية. ومرة أخرى، لم يخيب الزعيم بنكيران ظن العائلة الكبيرة التي قدَّمت له مريضها لإجراء عملية قيسرية بنسبة نجاح 1٪، فأنجح العملية باقتدار كبير رفقة طاقم محدود من القياديين المخلصين أطلق عليهم بنكيران نفسه اسم “القيادة المصغرة”، وخاض بهم تجربة الالتحام (داخليا) والاقتحام (خارجيا) من جديد.
ولأن المرحلة الانتقالية من عمر الحزب كانت تقتضي أولويتين اثنتين: الأولى هي رص الصف الداخلي وبث النفَس الإيجابي بين أبناء التنظيم، والثانية هي عدم ظهور الحزب بمظهر الناقم على الحكومة الجديدة التي يترأسها “عزيز أخنوش” حتى قبل بداية تدبيرها للشأن العام، أصدر الأستاذ بنكيران توجيهاته إلى قيادات الحزب وأعضاء الشبيبة وفريق المجموعة النيابية بالبرلمان بالتريث في معارضة حكومة “أخنوش” وإمهالها إلى حين، بل وهاجم من رفعوا وسم (هاشتاغ) “أخنوش ارحل” خلال أشهر قليلة من توليه رئاسة الحكومة. وبذلك أثبت بنكيران بما أوتي من قدرة على استيعاب الواقع، وفهم عميق لمنطق التحولات الوطنية والإقليمية والدولية، أنه الزعيم الذي يستطيع أن يُعَلِّقَ الجرس، ويبعث الحزب من تحت الرماد.
ومن موقع المعارضة هذه المرة، أطلَّ الزعيم بنكيران من خلف ستار الصمت على المغاربة يذكرهم بإنجازات حكومتي العدالة والتنمية، ويضعها في الميزان أمام إنجازات حكومة “عزيز أخنوش” الحالية قصد المقارنة واستخلاص الدروس، ومازال يُبشِّرهم بإمكانية الخلاص من بوابة العمل السياسي النزيه، في محاولة آمِلَةٍ منه لإعادة الثقة في الحياة السياسية والنقابية من جهة، وإعادة الثقة في مؤسسات الدولة من جهة أخرى، محمِّلا مسؤولية تراجع منسوب هذه الثقة بالدرجة الأولى إلى المواطنين أنفسهم، وبالدرجة الثانية لأحزاب التحكم التي لا تؤمن بديمقراطية الصناديق ولا بالتدافع السياسي السليم واحترام الإرادة الشعبية في التداول على السلطة، ولا تتحلى قياداتها بالروح الوطنية ( أو “الكبدة على البلاد” كما يحلو لبنكيران أن يعبر عنها دائما) إذا تعارضت مصالحها الشخصية مع مصلحة الوطن. ولذلك نراها تَعْمَدُ في كل استحقاق انتخابي إلى عرقلة المسار الديمقراطي عن طريق شراء الذمم، وتسخير الوسطاء لإفساد العملية الانتخابية برمتها. كما اتهم الأستاذ بنكيران عددا من هذه القيادات بالفساد واستغلال النفوذ، والاغتناء الفاحش من تسيير الجهات والجماعات.
لقد استطاع بنكيران في ظرف سنتين ونَيِّفٍ أن يخيط شراع السفينة الممزقة، ويعيدها إلى الإبحار في عُرض محيط الحياة السياسية عابرا بمن صمد من الركاب من أبناء الحزب المخلصين نحو مرفأ المؤتمر الوطني التاسع بسلام رغم كل المناورات والعراقيل والتحديات التنظيمية، وجاعلا منه أهم حدث حزبي في الموسم. وهكذا نقل بنكيران وضع الحزب من حاشية الكِتاب المنسي إلى كتابة نص الحكاية بنفسه، والتعليق على أحداثها تارة بالجد وتارة بالهزل، وراح طيلة هذه السنوات من المعارضة يبث رسائله بين سطور الكتاب، ويمارس هوايته المفضلة في قصف خصومه السياسيين، وينتقد أداءهم الحكومي في كلمات مباشرة عبر مواقع التواصل الاجتماعي (الفايسبوك)، حققت نسب مشاهدة عالية، فضلا عن المؤتمرات الحزبية والندوات الصحفية لرئيس المجلس الوطني للحزب الدكتور: “إدريس الأزمي الإدريسي”، ورئيس المجموعة النيابية للعدالة والتنمية الدكتور: “عبد الله بوانو”، التي فضحت المستور وخاصة تلك التجاوزات الدستورية المتعلقة بتضارب المصالح لدى رئيس الحكومة ووزرائه، وأحرجت بعض المطبلين لهم من الإعلاميين أمام الرأي العام، وحصرتهم في الزاوية.
أكبر المتفائلين قبل عودة بنكيران لم يكن ينتظر أن يعقد الحزب مؤتمره التاسع في وقته المحدد، في ظل الانقسامات الداخلية والترهل التنظيمي الذي أصاب الحزب بعد نكسة 08 شتنبر 2021، أضف إليهما غياب الدعم من وزارة الداخلية أياما قليلة قبل موعد انعقاد المؤتمر. بيد أن الزعيم بنكيران راهن لإنجاح المؤتمر على قاعدة الحزب الشعبية، ووجه كلمة عفوية إلى عموم الأعضاء بضرورة حمل الحزب في لحظة عجز كما حملهم (الحزب) لسنوات طويلة، جعلت أعضاء الحزب ومتعاطفيه يلتفُّون حول زعيمهم بعد شعورهم باستهداف الحزب ورموزه من قبل وزارة الداخلية في مرحلة دقيقة من مساره السياسي، فانخرطوا جميعا في تمويل المؤتمر من جيوبهم وَحُرِّ مالهم، وعبروا عن استعدادهم لحضور أشغال المؤتمر ولو على التمر والماء. ما عزز ثقة المناضلين والمتعاطفين في المشروع السياسي للحزب، وفي قيادته.
هكذا استطاع بنكيران بذكائه السياسي تحويل محطة المؤتمر الوطني التاسع من محنة إلى منحة بعد امتناع وزارة الداخلية عن صرف الدعم المالي المخصص لتنظيم المؤتمر الوطني التاسع للحزب، المنعقد يومي 26 و27 أبريل 2025 بمدينة بوزنيقة، حين خرج ينتقد وزير الداخلية نفسه بسبب تأخره في صرف مساهمة الدولة في تنظيم مؤتمر الحزب، ويعلن استعداده لمقاضاته بالمحكمة الإدارية. بالمقابل، لم يتدخل بنكيران في قرار وزارة الداخلية القاضي بعدم منح التأشيرة لوفد “حماس” الفلسطيني للدخول إلى الأراضي المغربية، واكتفى بإخبار أعضاء الحزب وعموم المغاربة بأن وفد “حماس” الذي كان مقررا أن يحضر أشغال المؤتمر الوطني التاسع للحزب، لم يتم الترخيص له بالدخول إلى المغرب، وانتهى الكلام.
ومرة أخرى، فوَّت الزعيم بنكيران بحنكته السياسية الفرصة على من يتعمدون تطويق الحزب بِمَعَرَّةِ توقيع أمينهم العام الدكتور “سعد الدين العثماني” محضر التطبيع مع الكيان الصهيوني، واستثمر هذه الأزمة هي الأخرى لصالحه. ذلك أن استدعاء حزب العدالة والتنمية لوفد حركة “حماس” الفلسطينية لحضور أشغال مؤتمره الوطني التاسع رسالةٌ واضحة من بنكيران يؤكد من خلالها على مساندة حزبه لخيار المقاومة ورفضه للتطبيع، ولولا ثقة حركة “حماس” في حزب بنكيران لَمَا وافقوا على الحضور أصلا. كما أن رفض الدولة المغربية منح التأشيرة لوفد “حماس” كان هدية فصل الربيع لحزب العدالة والتنمية، لأنها برأته ــ عن غير قصد ــ أمام الرأي العام من عار التطبيع الذي أريد أن يلصق على جبين المصباح.
هل يسير بنكيران نحو رئاسة حكومة ثانية؟
لعل أهم ملاحظة يمكن رصدها أثناء مرحلة التداول في القيادات الثلاثة التي تم ترشيحها لشغل مهمة الأمين العام لحزب العدالة والتنمية في مؤتمره الوطني التاسع، هو أن الغالبية العظمى من الشباب كانوا مع الأستاذ بنكيران، وصوتوا له بكثافة خلافا للشيوخ. ومع أن بعض الأعضاء الذين دعموا الدكتور “إدريس الأزمي الإدريسي”، أو الدكتور “عبد الله بوانو” عللوا دفاعهم عن هذ الاختيار بضرورة التجديد على مستوى القيادة، إلا أن الشباب رجحوا كفة الأستاذ بنكيران عند التصويت، وكأنهم يوجهون رسالة إلى الشيوخ وإلى الدولة مفادها أن التجديد ممكن مع بنكيران، بل إن عددا من المتدخلين اكتفوا في تداولهم بنقل رسائل لأمهاتهم وأقاربهم وأصدقائهم بالقرى والجبال، تدعوهم لإعادة انتخاب بنكيران لأنهم يثقون فيه، ويرون فيه رجل المرحلة القادمة.
في ظل هذه الدينامية التي خلقها حزب العدالة والتنمية قبل المؤتمر وبعده، وفي ظل هذه الشعبية التي خلقها بنكيران لنفسه دفاعا عن ثوابت الأمة المغربية، وعن مبادئ حزبه، يُطرح السؤال: هل بات الزعيم بنكيران مطلبا شعبيا للمغاربة في حكومة المونديال القادمة، كما كان مطلبا جماهيريا في حكومة 2011؟ أم أن عودته إلى الظهور في الساحة السياسية توافقت مع إرادة الدولة التي يبدو أنها بحاجة إلى زعيم وطني وسياسي من وزن الأستاذ بنكيران؟
هذا السؤال لا يحتمل جوابا ب “نعم” أو “لا”، ولا يستطيع أحد الادعاء بأنه سيجيب عنه بوضوح ما عدا صناع القرار السياسي بالبلاد. إنه السؤال الذي عجزت عنه الفلسفة كما يقال. وكل ما يمكن المحللين والمتتبعين للشأن السياسي فعلُه هو بناء الفرضيات انطلاقا من مجموعة من المؤشرات والمعطيات السياسية المتاحة، والخروج بخلاصات تبقى قابلة للتحقق في المستقبل القريب، دون إغفال العوامل التي تؤثر بشكل موضوعي في العملية الانتخابية، وتتضافر مجموعة لإفراز نخبة برلمانية معينة، وفي مقدمتها: نمط الاقتراع، والتقطيع الانتخابي، وحياد السلطة من عدمه… ويزداد الأمر صعوبة في بناء فرضية صحيحة في الفعل السياسي والاجتماعي عند وجود المؤشرات الدالة على فرضية معينة، ووجود مؤشرات دالة على الفرضية المقابلة لها تماما. وسوف نوردها كما يأتي:
أربعة مؤشرات دالة على استمرار التخوف من شعبية بنكيران
أشرنا في طيات حديثنا عن الظروف التي صاحبت انعقاد المؤتمر الوطني التاسع لحزب العدالة والتنمية يومي 26 و27 أبريل 2025 بمدينة بوزنيقة، إلى مؤشرين اثنين يفيدان أن علاقة الدولة المغربية بالحزب وبزعيمه بنكيران على الخصوص، مازال يشوبها التوتر والحذر وعدم الصفاء، وهي لا تصب في مصلحة بنكيران وحزبه:
المؤشر الأول: عدم صرف وزارة الداخلية مساهمة الدولة في تنظيم مؤتمر الحزب الوطني، كغيره من الأحزاب المغربية التي استفادت من الدعم المالي العمومي في تنظيم مؤتمراتها الوطنية، خاصة وأنه حافظ على دورية انعقاد مؤتمراته منذ تأسيسه، وهو قرار غير مبرر من وزير الداخلية كما جاء على لسان رئيس المجلس الوطني للحزب الدكتور: “إدريس الأزمي الإدريسي”. هذا القرار يمكن أن يقرأ فيه أعضاء الحزب أن وزارة الداخلية ربما كانت تراهن على إفشال المؤتمر من بوابة كلفته المالية الباهضة، لأنها تعرف أن أغلب أعضاء الحزب ينتمون إلى الطبقة المتوسطة من المجتمع؛
المؤشر الثاني: عدم منح وفد حركة “حماس” الفلسطينية تأشيرةً بالدخول إلى المغرب، للمشاركة في الجلسة الافتتاحية للمؤتمر الوطني التاسع للحزب ببوزنيقة، واقتصار ناطقها الرسمي “فوزي برهوم” على إلقاء كلمته عبر تقنية الاتصال عن بُعد أمام المشاركين في الجلسة الافتتاحية للمؤتمر. وهو ما يؤكد أن الموقف من المقاومة الفلسطينية حاضر بقوة في رسم حدود العلاقة بين الأحزاب السياسية والدولة المغربية التي تضع ضمن أولوياتها الحفاظ على توازناتها الإقليمية والدولية؛
المؤشر الثالث: التضييق على حزب العدالة والتنمية بعدم الترخيص لبعض هيئاته قصد تنظيم أنشطة إشعاعية بفضاءات عمومية لأسباب واهية وغير مقنعة، من قبيل: أن الحزب يمتلك مقرات جهوية أو إقليمية تسعه لتنظيم تلك الأنشطة، ولا داعي لإخراجها إلى فضاءات عمومية؛
المؤشر الرابع: خرجات بنكيران القوية التي تحظى بمتابعة إعلامية كبيرة، وكثيرا ما يستغلها الخصوم في تأويل اللغة التي يستخدمها في خطابه السياسي بكيفيات تخصهم، وتسمح لهم بالنيل من شخصه ومن الحزب، ويستغلها من ساءت نياتهم أسوأ استغلال في تأليب الإعلام عليه، وإحراج الهيئات الموازية لحزب المصباح.
أربعة مؤشرات تصب في مصلحة بنكيران
المــــــؤشر الأول:     حاجة الدولة المغربية إلى زعيم سياسي بكاريزيما الأستاذ عبد الإله بنكيران، له قدرة على تدبير الأزمات، وعلى التواصل والمواجهة وتحريك الجماهير، خلافا لرئيس الحكومة الحالي “عزيز أخنوش”، ويستطيع أن يقود المرحلة المقبلة في سياق سياسي متوتر وظرفية اقتصادية معقدة، واحتقان اجتماعي غير مسبوق، فضلا عن تحدي تنظيم المغرب لمونديال 2030، وما يتطلبه من أوراش كبرى يجب إنجاحها؛
المـــــؤشر الثاني:     تضامن عدد كبير من النشطاء المغاربة بمواقع التواصل الاجتماعي مع بنكيران، بسبب ما رافق المؤتمر الوطني التاسع للحزب من قرارات غير مبررة لوزارة الداخلية كما سبق وذكرنا، فضلا عن مواقفه الشجاعة من بعض القضايا كقضية “مدونة الأسرة” والقضية الفلسطينية… وتُوج هذا التضامن بإطلاق هؤلاء النشطاء وَسْمَ “عمرني صوت وغادي نصوت على بنكيران”، الذي لاقى انتشارا واسعا على الفايسبوك وتويتر… وذلك ثَنَاءً على شخصيته الجريئة ووقوفه في وجه التحكم هو وقيادات حزبه؛
المــــــــؤشر الثالث:    الإقبال المتزايد على الحزب في الأشهر القليلة الماضية، وهو ما يؤكد ارتفاع أسهم بنكيران بين قواعد الحزب ولدى عموم المواطنين والمواطنات، كما يؤكد تعافي الحزب من نكسة 08 شتنبر 2021 وعودة شعبيته، أو على الأقل يؤكد تمكن الحزب من تحجيم تأثير هذه النكسة واستعادته للمبادرة في خلق دينامية جديدة في المشهد السياسي، تتيح له القيام بواجباته الدستورية والنضالية في الدفاع عن ثوابت الأمة المركزية ودعم مسيرة الإصلاح ومحاربة الفساد؛
المـــــــؤشر الرابع:     تحول ــ وإن كان طفيفا ــ في الخط التحريري لدى بعض الجرائد والمواقع الإلكترونية في الآونة الأخيرة، التي بدأت تتجرأ على انتقاد سياسة الحكومة برئاسة “عزيز أخنوش” انتقادا لاذعا في بعض الأحيان، وتنصف بالمقابل رموز المعارضة البناءة وعلى رأسهم الأستاذ بنكيران، بعد أن ظلت لأربع سنوات كاملة تمدح رجل الأعمال بما لم يفعل، ولا تنشر إلا ما يُجَمِّل صورة الأغلبية الحكومية في عين المغاربة.
ختاما أقول: من حق الأستاذ عبد الإله بنكيران أن يقدم نفسه في صورة الزعيم السياسي الشعبي، بالأسلوب الذي يراه مناسبا عند مخاطبته للجماهير. ومن حق بنكيران أن يفخر بكونه ظاهرة تواصلية بامتياز، ويستطيع الإبهار في رقعة الميدان وهو يسجل الأهداف في مرمى الخصوم بعفوية تامة في الأوقات الحاسمة، لكنه في لحظة من لحظات الحماسة التي تهزه تحت تصفيقات الجمهور يمنح خصومه ضربات جزاء بالمجان يصعب على أي حَكَم وسط التغاضي عنها، فما بالك إذا كشفها حكام غرفة “VAR”!
 تيط مليل في: 11/05/2025

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى