“فاكهة للغربان” للروائي اليمني أحمد زين : شخصيات مهزومة وجيل يعيش على الذكريات
بقلم: ابراهيم الحجري.
عن موقع القدس العربي.
يواصل الروائي اليمني أحمد زين مشروعه الروائي المتأني بإصداره عملا جديدا موسوما بـ«فاكهة للغربان» صادر عن (دار المتوسط/ إيطاليا/ 2019)، بعدما سبق له أن راكم عددا من المنجزات الروائية، التي يحرص أن يجعل بينها مسافة زمنية، مانحا نفسه فسحة لتأمل الحصيلة، والإنصات إلى وقع العمل في المشهد الثقافي، وإعطائه وقته الكافي لينضج، ويتفاعل مع السياقات المحيطة به، خاصة أنه من الروائيين الذين يكتبون بوعي؛ أطروحاتهم الفكرية والفلسفية والأدبية، سردا مغلفا بالحكاية والمونولوغ والحوار والتخيل، وهذا يحتاج وقتا مضاعفا للموازنة، بين ثقل المادة النقدية والفكرية، ولطافة المحكي الجمالي، الذي يشكل عصب العمل، وطعمه اللذيذ، وهي على التوالي: «تصحيح وضع» (2004)، «قهوة أمريكية» (2007)، «حرب تحت الجلد» (2010)، «ستيمر بوينت» (2015).
تنصرف كل هذه الأعمال الروائية إلى مقاربة الأوضاع العربية المعاصرة، مشخصة الأسباب المؤدية إلى النكسات المتلاحقة، والخيبات المتراكمة التي حصدها العرب عقب انصراف الاحتلال شكليا، وفشل الحركات التحررية الوطنية وفعاليات المجتمع المدني بشتى أطيافها، في بلورة مشروع يتحدى العوائق الداخلية والخارجية، ويؤسس دولة حديثة قوية تترجم الأحلام الثورية التي تشبعت بها الأجيال التي عايشت الاستعمار، والتي جاءت بعده، بأسلوب سردي عميق يستهدف تصوير الانفعالات والمشاعر المصاحبة للوقائع التاريخية المشؤومة، والاندحارات المتتالية التي أوصلت الخيارات الشعبية المكافحة إلى الباب المسدود، والمآسي السياسية التي قضت على الطموحات، وأحرقت آخر الأحلام، تاركة ما تبقى من حطام إنسان عربي منهك ما عاد قادرا على الحلم حتى.
لا تخرج رواية «فاكهة للغربان» عن هذا المنحى الأطروحي، لكن انطلاقا من أبعاد سياسية واجتماعية واقتصادية مختلفة، وبحس جمالي مختلف، بدون أن تخرج عن نطاق المشروع العام للسرد، الذي يروم تفكيك البنيات الفكرية والاستراتيجية والسياسية، المساهمة في تفاقم الوضع العربي، وتراكب الخسارات والفجائع والمحن والنكسات على جميع المستويات، في الوقت الذي ترتقي فيه بلدان الجوار بشكل صاروخي لا يجارى ولا يصد. وكأن الكتابة السردية تجيء هنا، معادلة لنعي مرحلة سياسية، كبرت خلالها أحلام الثوار، وتأسست فيها طموحات وردية، سرعان ما كشف الزمن سرابيتها، وعرّت الوقائع اللاحقة أوهامها، وزيف ما عُلّق عليها من آمال.
ولأن السياقات المؤدية إلى تلاشي هذه الأحلام مركبة، ومتداخلة، وبنيوية، فإن الرواية غاصت في دواخل الشخوص، وتوغلت في نفسيات الثوار والمحسوبين على قواعد الحركة الشيوعية في العالم العربي، الذين جمعتهم الظروف السياسية والملاحقات الأمنية في عدن، قبلة المد الشيوعي العربي، وقلعته الحمراء الحصينة، قبل أن تحاصرها أسراب الغربان الجائعة، التي أتت على الأخضر واليابس، والتهمت الأفكار والأحلام والتطلعات، ولم تترك سوى حطام عصي على العد، وخراب ذهلت لروعه الفصول قبل الأفراد. كأن الكتابة السردية مأتم درامي يشيع جثمان آخر الطوباويات العربية الحالمة بمجتمعات حداثية متنورة؛ تنفض غبار التخلف والحصار والنكوص الذي عمّر كثيرا في سمائها؛ حاجبا عنها رؤية شمس غد أفضل.
يتأسس المحكي في الرواية على جدل مخاتل بين طرفين يهيمنان على العالم السردي؛ ويتبادلان عمليتيْ الشد والجذب في استثارة الحديث، واستخلاص المعطيات، وهما «نورا» صاحبة أسرار الحركة، وزوجة المناضل اليساري المختفي «جياب»، التي تتأهب لسرد حكايتها الخاصة المتقاطعة مع حكايات الحزب، والقائد جياب، لكنها تتلذذ في تقطير معطياتها على المقاس، بشكل يثير ريبة محاورها «صلاح» المناضل اليساري، الذي كان يعمل تحت رئاسة زوجها جياب. وتحت غطاء محاوراتهما، تشكلت شجرة السرد في عالم «فاكهة للغربان»، وبكثير من الاقتصاد والتوجس والحيطة.
لخلق دينامية عالية على مستوى التفاعل القائم بين عناصر مجتمع الرواية، أحاط الروائي بهاتين الشخصيتين (نورا وصلاح)، شخصيات أخرى، ساهم كل منها، بقسط ما، في إنارة مسارات الفاعلين الأساسيين، وتطوير الأحداث، وتأثيث الفضاء الروائي، كل حسب ما اختص به.
نالت كلا الشخصيتين حظها من الخراب الذي لحق الحركة الثورية، وتفتت مشروعها التنويري الديمقراطي، فنورا المتحدرة من أسرة أرستقراطية تمت مصادرة ممتلكات أبيها من قبل الحزب اليساري، بعد الاستقلال، بإيعاز من عشيقها المختفي «جياب» بتهمة تعاون والدها مع المستعمر الإنكليزي، لينتهي بها الأمر راقصة تقدم وصلات فلكلورية تراثية في الغرفة الوطنية؛ إبان المناسبات والمحتفلات الكبرى، قبل أن ترتبط بقصة عشق مع جياب، غير أنها لم تسلم من سم الأحقاد المتراكمة ضد «جياب»، فنالت حظها من العقاب، بعد أن رماها ملثمون أثناء خروجها من الروك موتيل، بمادة حارقة تسببت لها في شلل وعاهة مستدامتين، فما تبقى لها غير ذكرياتها ومآسيها المضاعفة، وبقايا أحزان متوارثة.
أما المناضل الثوري البدوي «صلاح» الذي استطاع تسلق مناصب مهمة في الحزب بسبب جديته وانضباطه وانخراطه العفوي في أطروحات الحركة، من خلال دفاعه المستميت عن ملفه، الذي نصّب نفسه مرافعا عنه طوال مشواره السياسي، فنال ثقة القواعد الحزبية، ورأى فيه رؤساؤه جذوة متقدة قل نظيرها كفيلة بالارتقاء بالعمل الثوري، قبل أن يجهز الاختلاف بين الرفاق، وانقسام الحزب إلى فئتين، وضياع ريح الوحدة الصفية للحركة التي كان يؤمن بها حد التماهي، واشتباك الجبهة القومية وجبهة التحرير في صراع مرير أودى بالتجربة السياسية، وآذن بانتهائها المحزن والقاسي، فانسحب مخذولا، مكسور الظهر، لا يعرف ما يقدم ولا ما يؤخر. رأت فيه «نورا» شخصية مميزة لمساعدتها على كتابة مذكراتها ونتفا من حياة عشيقها المختفي، لمكانته في الحزب، وقربه من الأسرة، فقبل، على مضض، مدفوعا برغبة داخلية قوية في التعرف على شخصية رئيسه السابق «جياب» عن قرب، ليؤدي ثمن هذا القبول، من خلال المضايقات التي تعرض لها في حياته الشخصية والاجتماعية.
باضطلاعه بمهمة كتابة مذكرات «نورا» الموزعة بين رغبتين متداخلتين: رغبته في استخلاص ما وراء قصة جياب، وتكوين صورة واضحة عن شخصيته الغامضة المحاطة باللبس والأقنعة والأسرار، وإصرارها على إقحام رأيها الشخصي في التجربة السياسية وقادتها، ملفوفا ضمن تضاعيف الحكاية، تأتى لصلاح التعرف على خيوط ما كان له أن يدركها من قبل، وهو منخرط في العمل السياسي والحزبي، الشيء الذي جعله يفقد الثقة في التنظيم، وفي القادة على حد سواء، كما أن الأسرار التي كشفتها رواية «نورا» زعزع، في ذهنه، فلسفة النقاء الاشتراكي المغلفة بالأوهام والأضاليل، وحرّك، في نفسه، شجن السنين التي أحرقها في الوهم، ليجني منها، في الأخير، مرارة الحنظل، وعزلة الخائبين.
لخلق دينامية عالية على مستوى التفاعل القائم بين عناصر مجتمع الرواية، أحاط الروائي بهاتين الشخصيتين (نورا وصلاح)، شخصيات أخرى، ساهم كل منها، بقسط ما، في إنارة مسارات الفاعلين الأساسيين، وتطوير الأحداث، وتأثيث الفضاء الروائي، كل حسب ما اختص به، ولعل أهمها: «بقطاش» المناضل اليساري الجزائي الذي يكره الأديان منذ صغره، مصرحا بذلك أمام أسرته ومجتمعه المحافظ، الشيء الذي جر عليه بلايا عديدة؛ أقلها تطليق زوجته منه، وتضييق الخناق على أنشطته، و»نضال» الفلسطيني المتعجرف الذي لا يحمل من قضيته غير الاسم، مستترا بسلوكياته المثيرة وراء هويته وشعاراته الشيوعية، و»سناء الفلسطينية» التي تعيش مأساة مُضاعفة: قضية الأرض المغتصبة، والهوية التي على المحك، واغترابها النفسي من جهة، واضطهادها الفظيع من قبل أخيها في الانتماء والقضية.. «نضال» المفروض فيه حمايتها ومساندتها في محنتها، يقول السارد على لسان صلاح مستغربا العلاقة الغامضة التي تربط بين نضال وسناء: «خطرت له مرة أخرى العلاقة الغريبة التي تشدهما معاً، نضال وسناء، وتناهى إلى باله أنها ليست بين ضحية وجلاد، وإنما بين عاشقَيْن، تشدهما أواصر من الصعب أن تتلاشى تحت أي سبب. وبدا له هذا العشق، إذا صح حدسه، غريباً وغامضاً ووحشياً أيضاً، فكيف يأخذ، في إذلالها، ويقسو عليها، بل أن يطلب من شخص غريب أن يُقبل قطعة من جسدها، مثلما حدث تلك الليلة، على مَرأى من الجميع؟».
٭ ناقد وروائي مغربي.