استقطاب نيو دلهي : لماذا تصاعد حضور الهند في السباق الرئاسي الأمريكي ؟
بقلم: منى مصطفى
عن موقع المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة.
على الرغم من العلاقة الشخصية الوطيدة بين الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب”، ورئيس الوزراء الهندي “ناريندرا مودي”، تحتفظ نيودلهي بتفضيلات متوازنة تجاه السباق الرئاسي الأمريكي، إذ إن مساعي المرشح الديمقراطي “جو بايدن” لاستقطاب أصوات الجالية الهندية في الولايات المتحدة، وتأكيده دعم الهند في الصدام الحدودي مع الصين، وإرث علاقات التعاون بين إدارة “أوباما” السابقة ونيودلهي، زاد من حالة الطمأنينة لدى الدوائر السياسية الهندية تجاه نتائج السباق الرئاسي. وفي المقابل، فإن التقارب مع إدارة “ترامب” على المستوى الجيوستراتيجي لم يمنع وجود خلافات جوهرية بين الطرفين حول قضايا التجارة والهجرة، والعلاقات الهندية الإيرانية، وخاصةً ما يرتبط بواردات النفط، بالإضافة إلى سعي نيودلهي للحفاظ على قنوات مفتوحة مع موسكو فيما يتعلق بواردات الأسلحة دون التعرض لعقوبات أمريكية.
إدارة “العلاقات المركبة”:
يصف المحللون الهنود العلاقات مع واشنطن خلال عهد الرئيس “ترامب” بأنها شديدة التعقيد، وتحكمها تناقضات متداخلة على أقل تقدير. وفي هذا الصدد، تتشابه قيادات الدولتين -جزئيًّا- في انتمائهم لتيارات اليمين الشعبوي، وإيمانهم بنموذج “الرجل القوي” في إدارة السياسات الداخلية والخارجية، فضلًا عن تطابق المصالح الهندية والأمريكية حول تحجيم التمدد الصيني في المحيط الهندي وجنوب آسيا، وتبنيهما مفهوم “الهندوباسيفيك” في السياسة الإقليمية التي تقوم على الارتباط الجغرافي الوثيق بين المحيطين الهندي والهادي، بالإضافة إلى عضوية “الحوار الأمني الرباعي” في آسيا الذي يضم أيضًا اليابان وأستراليا إلى جانب نيودلهي وواشنطن ويهدف لاحتواء النفوذ الصيني في آسيا.
ولم تكن حفاوة الاستقبال المتبادلة للرئيس “ترامب” ورئيس الوزراء “مودي” خلال تبادل الزيارات سوى تعبير عن ذلك التقارب الشخصي، والإدراك المتبادل لمكانة “سياسات الصورة” في تعزيز العلاقات، وهو ما تجلى أيضًا في الاحتفاليات الضخمة والحشود الجماهرية التي تم تنظيمها خلال هذه الزيارات التي بدت استثنائية على مستوى التنظيم والخطابات والتعهدات بتوثيق العلاقات.
وعلى المستوى الاستراتيجي، لم تكن العلاقات بين الهند والولايات المتحدة أقرب من المرحلة الراهنة، حيث تقف إدارة “ترامب” بقوة في دعمها للهند في الصدام الحدودي مع الصين في منطقة لاداخ، وتعهدت بتصدير أسلحة نوعية لنيودلهي عقب تعديل القواعد التي تقيد بيع الطائرات بدون طيار المتقدمة للشركاء الأجانب خاصةً (MQ-1 Predator)، وتتطلع الهند للحصول على مروحيات قتالية ومقاتلات متعددة المهام وطائرات النقل والمدفعية المتطورة من الولايات المتحدة. ويتوازى ذلك مع تتابع المناورات البحرية المتقدمة بين دول التحالف الرباعي في المحيط الهندي تقودها واشنطن.
اختلاف الأولويات القومية:
لم تخلُ العلاقات بين الولايات المتحدة والهند خلال فترة حكم الرئيس “ترامب”، من تباينات واضحة وخلافات مصلحية، والتي سعت الهند لوضعها تحت السيطرة ومنع خروجها إلى العلن، وهو ما يرتبط بالصدام في أولويات السياسات القومية المتبعة في الدولتين، والتعارض بين شعاري “أمريكا أولًا” الذي يرفعه “ترامب”، و”الهند أولًا” الذي يتبناه “مودي”. وتمثلت أبرز هذه القضايا الخلافية فيما يلي:
1- سياسات تقييد الهجرة: تعد الهند من أبرز الدول المتضررة من سياسات تقييد الهجرة ومنح تأشيرات العمل التي تتبعها إدارة “ترامب”، خاصةً للمتخصصين في قطاع التكنولوجيا، حيث إن جانبًا كبيرًا من المهاجرين لواشنطن يندرجون ضمن فئة العمالة الماهرة، وهي الفئة التي تعرضت لتهديدات متتالية بوقف تأشيرات دخولها إلى الولايات المتحدة وتقييد فترات إقامتها، وهو ما يرتبط بقطاعات مثل التكنولوجيا والطب والهندسة وغيرها من القطاعات المتطورة، بالإضافة للقيود التي قد يتم فرضها على الدراسة والبعثات التعليمية إلى الولايات المتحدة.
2- الحرب التجارية الأمريكية: لم يمنع استهداف واشنطن للصين بالحرب التجارية أن تتضرر الهند من هذه الإجراءات، حيث تعرضت صناعة الصلب الهندية لخسائر ضخمة بسبب رسوم مكافحة الدعم الأمريكية، وهو ما دفع نيودلهي لمقاضاة واشنطن في منظمة التجارة العالمية، كما ردت برفع التعريفات الجمركية على العديد من المنتجات الأمريكية. وتخشى نيودلهي من توسع “ترامب” في فرض رسوم الإغراق وسياسات الحمائية، مما يهدد الصادرات الهندية إلى الولايات المتحدة بصورة كبيرة، بالإضافة للارتدادات السلبية غير المباشرة للحرب المحتدمة بين الولايات المتحدة والصين.
3- الضغط على أمن الطاقة: يؤدي تشديد العقوبات على طهران، وتبني إدارة “ترامب” سياسة “صفر صادرات” من النفط الإيراني، إلى الضغط على الهند التي تعد من أكبر الدول المستوردة للنفط من طهران. وقد أدت ممانعة واشنطن فيما يتعلق بتجديد إعفاءات استيراد الهند إلى قيامها بالبحث عن مصادر بديلة لاستيراد النفط من دول الخليج العربي والدول الإفريقية. كما تسببت الضغوط الأمريكية أيضًا في مراجعة العلاقات الاقتصادية الوثيقة مع إيران، والتي تتضمن حركة كثيفة للتجارة الخارجية والاستثمارات بسبب العقوبات الأمريكية المتزايدة عليها، وهو ما يؤثر على سياسة “الهند أولًا” التي تتبعها حكومة “مودي” في تعظيم المصالح الاقتصادية.
4- تحجيم تنويع مصادر التسليح: يُعتبر قانون “مكافحة أعداء الولايات المتحدة من خلال العقوبات” المعروف اختصارًا باسم “كاتسا” من أكثر القضايا التي تسبب خلافات مكتومة في العلاقات الأمريكية–الهندية، حيث تعاقدت الهند خلال الفترة الماضية على عدة منظومات تسلح روسية من بينها منظومة الدفاع الجوي “إس-400” ومنظومات تسلح نوعية في المجال البحري، بالإضافة إلى مساعٍ للحصول على مقاتلات روسية من طراز “ميج-29” و”سو-30″، وهو ما قد يتسبب في وقوعها تحت طائلة العقوبات الأمريكية.
وقد لوّحت إدارة “ترامب” أكثر من مرة بالعقوبات ردًّا على صفقة “إس-400” ومن ضمنها تعقيب الرئيس الأمريكي على الصفقة في أكتوبر 2018، بقوله: “إن الهند سترى الرد الأمريكي في وقت أسرع مما تظن”، وهو ما دفع القيادات العسكرية الهندية لتأكيد استقلالية القرار الهندي فيما يتعلق بالتسليح، وهي القضية التي تم تجاوزها في مرحلة لاحقة دون أن تعني نهاية الضغوط الأمريكية فيما يتعلق بمصادر التسليح الهندية.
5- الخلافات حول أفغانستان: يثير الانسحاب العسكري الأمريكي من أفغانستان مخاوف نيودلهي من تأثيرات انتشار التهديدات الإرهابية عبر جنوب آسيا، حيث تتحفظ مراكز التفكير الهندية على الخطة الأمريكية للانسحاب من أفغانستان، فيما تنتقد إدارة الرئيس “ترامب” من آنٍ لآخر محدودية مشاركة دول الجوار ومن بينها الهند في الترتيبات الأمنية لضمان الاستقرار في أفغانستان، والاكتفاء بالدعم الرمزي والاقتصادي، وتحميل الولايات المتحدة أعباء مواجهة الإرهاب دون المشاركة بها.
الهند في السباق الرئاسي:
على الرغم من الفاصل الجغرافي بين الهند وواشنطن، لم تكن نيودلهي أكثر حضورًا في السباق الرئاسي الأمريكي من انتخابات 2020، سواء في ترشيحات المساعدين أو الحملات الانتخابية أو القضايا المحورية التي تضعها نيودلهي في صدارة أولوياتها. وفي هذا الصدد، تمثلت أبرز ملامح هذا الحضور فيما يلي:
1- استهداف “الهنود الأمريكيين”: ركزت الحملات الانتخابية على استقطاب أصوات الهنود الأمريكيين باعتبارهم كتلة ديمغرافية ذات نفوذ متزايد، وأشار تقرير نشرته مجلة “فورين بوليسي” إلى أن الجالية التي تشكل 1% فقط من القوة الناخبة الأمريكية تعتبر الكتلة الثانية بين المهاجرين بعد الأمريكيين من أصول مكسيكية، وتتزايد أعدادها بسرعة تجاوزت 150% بين عامي 2000 و2018، بالإضافة إلى كونها المجموعة العرقية الأكثر دخلًا بما يتجاوز 100 ألف دولار للفرد في المتوسط عام 2015، وهو ما جعل أفرادها ضمن الفئات المتبرعة للحملات الانتخابية بصورة متزايدة.
وقد شملت عمليات الاستهداف إعلانات مكثفة باللغة الهندية واللغات المحلية في مناطق تركز الجاليات، بالإضافة إلى بث الإعلانات على الشبكات التليفزيونية الموجهة لجاليات جنوب آسيا، فضلًا عن التركيز على قضايا الهنود في الخطاب الموجه من الحملات الانتخابية وتنظيم فعاليات افتراضية للمشاهير الهنود لتحفيز الشباب على التصويت، وذلك نظرًا لتركز الجاليات الهندية في ولايات متأرجحة، مثل بنسلفانيا وتكساس وميتشيجان، والتي يكون فيها كل صوت فارقًا بقوة في مسار السباق الرئاسي.
2- توظيف “سياسات الهوية”: تركز الحملات الانتخابية على سياسات الهوية في استمالة دعم الهنود الأمريكيين، فبالإضافة إلى نائبة المرشح الديمقراطي للرئاسة “كامالا هاريس” التي تنتمي والدتها للجالية الهندية، فإن حملة “بايدن” استعانت بعددٍ من المساعدين والمستشارين الهنود، وفي صدارتهم “د. فيفيك ميرثي” المتخصص في الجراحة والذي يعود ارتباطه ببايدن إلى فترة عمله كنائب للرئيس السابق “باراك أوباما”. وقد أسهم في صياغة خطة “بايدن” لمواجهة كورونا، والاقتصادي الهندي “راج شيتي” المنتمي لجامعة هارفارد والذي عمل مع فريق “بايدن” في صياغة برنامجه الاقتصادي.
وفي المقابل، أطلقت حملة الرئيس الأمريكي تحالف الهنود الأمريكيين في الحكومة والقطاع الخاص بقيادة نجل الرئيس “دونالد ترامب جونيور” تحت مسمى “أصوات هندية من أجل ترامب” لدعم الشراكة الاستراتيجية القوية بين الولايات المتحدة والهند، وهو ما يتوازى مع استعراض “ترامب” لقوة صداقته مع رئيس الوزراء الهندي “ناريندرا مودي” في محاولة لاستقطاب الهنود الأمريكيين بعيدًا عن انتماءاتهم الحزبية التقليدية الداعمة للحزب الديمقراطي، حيث يدعم 72% من الهنود الأمريكيين منافسه “جو بايدن”.
3- تحفز المتابعين الهنود ضد “ترامب”: أثارت تصريحات الرئيس “ترامب” خلال المناظرة الرئاسية الأخيرة في أكتوبر 2020 غضبًا متزايدًا في الهند عقب وصفه الهواء في الهند بأنه “قذر”، وهو ما دفع العديد من المواطنين لدعوة رئيس الوزراء الهندي لأخذ هذه التصريحات بعين الاعتبار. وقد ذكر “ترامب” سوء جودة الهواء في الهند في معرض تبريره الانسحاب من اتفاقية باريس للتغير المناخي، مؤكدًا أنه وفر تريليونات الدولارات بقراره عدم الانضمام بسبب عدم التعامل مع الولايات المتحدة بإنصاف. وتصدرت السوشيال ميديا في الهند هاشتاجات منددة بتصريحات “ترامب” مثل “هاودي مودي” للتنديد بتصريحات “ترامب” وتأكيد شعورهم بالإهانة.
4- تعهدات بتحجيم النفوذ الصيني: لم تخلُ الحملات الانتخابية للمرشحين من تعهدات بدعم الهند في صدامها مع الصين الذي وصل إلى حد الاشتباكات الحدودية في منطقة لاداخ الحدودية، حيث تعهد وزير الخارجية الأمريكي بدعم الهند بقوة والانخراط في المواجهة. فيما أبدى “بايدن” استعدادًا لدعم الهند في تحجيم التوسعات الصينية ضمن سياسة توثيق العلاقات مع الحلفاء، وبناء الثقة التي تصدعت خلال فترة حكم “ترامب”. وشدد “بايدن” أيضًا على أن بكين لن تفلت من العقاب في حال هددت جيرانها في آسيا.
5- مواجهة التهديدات المشتركة: تعهد “بايدن” بالعمل مع حلفاء واشنطن في آسيا وفي صدارتهم الهند في مواجهة التهديدات المشتركة، خاصةً ما يرتبط بمكافحة الإرهاب، حيث أكد أنه سيتبنّى سياسة عدم التسامح مع دعم الإرهاب في جنوب آسيا، في إشارة ضمنية لاتهامات نيودلهي لباكستان. كما أن “بايدن” يبدو أقل حماسة من “ترامب” فيما يتعلق بسحب القوات الأمريكية بصورة كاملة من أفغانستان، وهي إحدى نقاط الخلاف الرئيسية بين إدارة “ترامب” والهند.
ختامًا، على الرغم من تأكيدات “بايدن” عزمه التقارب مع الهند، تبدو نقاط التباين واضحة بين “بايدن” ورئيس الوزراء “مودي” فيما يتعلق بالسياسات القومية للأخير، وتعامل حزب بهاراتيا جاناتا مع قضايا الأقليات الدينية، بالإضافة للمخاوف من اتجاه “بايدن” للتقارب لاحقًا مع الصين عقب صفقة شاملة بين الدولتين، مما يؤثر لاحقًا على التوازنات في جنوب آسيا. وفي المقابل، فإن الخلافات مع إدارة “ترامب” حول قضايا الهجرة والتجارة وأمن الطاقة والانسحاب الأمريكي من أفغانستان تزيد من تحجيم التفضيلات الهندية في سباق الرئاسة الأمريكي بحيث تنتظر ما ستسفر عنه نتائج الانتخابات مع الاستعداد للتعامل مع الواقع الجديد.