مقال بمناسبة اليوم العالمي للغة العربية : إضاءات حول اللغة العربية
بقلم : محمد المنتصر
تكتسي اللغة العربية أهمية بارزة بوصفها لغة القرآن الكريم، لغة التاريخ العربي الإسلامي، و أحد أجزاء هويّتنا التي لا يمكن الانفصال عنها؛ نظرا لتاريخها الذهبي الذي أسهم فيه أعلامها تنظيرا و تطبيقا في سبر أغوارها و التعرُّف على مكامن جمالها، و كذا لدورها الحاسم في الرقي بالمجتمع، فما ارتقى مجتمع إلا بلغته الخاصة.
اللغة العربية لغة راقية متميزة، تكمن فرادتها و غناها في قوة اشتقاقها؛ إذ بإمكان المتكلم أن يشتق عددا كبيرا من الكلمات من خلال جذر معجمي واحد: ( أ.خ.ذ ؛ آخذ، مأخوذ، أخذُ، مؤاخذة، مأخذ، مآخذ، يأخذ… ) .
و قس على هذا المثال ما لا حصر له من الأمثلة. و بفضل هذه القوة الاشتقاقية أصبح عدد كلمات اللغة العربية يفوق اثنتي عشرة مليون كلمة.
ناهيك عمَّا تتميّز به هذه اللغة من الناحية الصرفية فكل زيادة في المبنى زيادة في المعنى ( ورد : فعل ، وارد : اسم فاعل.. غفر: فعل مجرد، استغفر : فعل مزيد يفيد الطلب ) .
أما من الناحية التركيبية فاللغة العربية تمنح المتكلم حرية التصرف في ترتيب كلامه عكس صرامة الرتبة في باقي اللغات، فالرتبة في اللغة العربية تتسم بالمرونة و الزئبقية ( استلَمَ التاجرُ البضاعةَ، البضاعةَ استَلَمَ التاجرُ، استَلَمَ البضاعةَ التاجِرُ، التاجرُ استَلَمَ البضاعة ).
و لا ينكر عاقل أن اللغة العربية لغة الفنون و الآداب و العلوم؛ حيث أبدع أجدادنا في الخط العربي، و في الشعر العربي، و في أصناف العلوم المختلفة من طب و كيمياء و صيدلة وصولا إلى الفلسفة؛ فالنهضة الأوروبية و التقدم الذي عرفه الغرب لم يكن من تلقاء أنفسهم، و إنما تم عبر وساطة اللغة العربية؛ إذ انكبَّ الأوروبيّون على ترجمة مصنفات علماء المسلمين من العربية إلى اللاتينية، ثم إلى باقي اللغات لاحقا. و تكفي الإشارة هنا إلى أن كُتُب ابن رُشد دُرّسَت لمُدَّة تربو عن ستة قرون في جامعات الطب الأوروبية.
و إذا تحدَّثنا عن العربية لغةَ؛ فنحن نعني بها أداة التواصل التي كان يتحدثها العرب سليقةَ و سجيّةَ دون دراسة لقواعدها أو قراءة معاجمها، لكن ما إن انتشر الإسلام و توسعت مناطق نفوذه، و دخل الناس في دين الله أفواجا، حتّى اختلط العرب مع الأعاجم ( أي غير العرب )، فبدأت الأخطاء تتسرَّب إلى لغة الناس، وبدأ يفسد النسق اللغوي العربي لاحتكاك العربية بالفارسية و اللغة التي كان يتحدثها الروم. فخاف الأمراء و الخلفاء من ضياع لغتهم فقاموا بتجنيد العلماء لإرساء قواعد تمنع المتكلم من الوقوع في خطإ اللسان و القلم.
أخذ علماء العربية يجمعون الشعر و الخطب العربية من أفواه فصحاء العرب لتقعيد هذه اللغة، فجعلوا القرن الثاني للهجرة حدًّا أقصى لقبول هذه المتون من المدن، و القرن الرابع للهجرة بالنسبة للبوادي؛ لأنها كانت أبعد من وقوع الاحتكاك و شيوع اللحن ( الخطأ )، فالأعاجم استقروا بالمدن الكبرى، و لم يكونوا يستقرون بالقرى.
و من بين أبرز العلماء الذين أسدوا معروفا للغة العربية و للأمة الإسلامية جمعاء، أذكر على سبيل المثال لا الحصر:
- أبو الأسود الدؤلي؛ أول من وضع الإعجام ( التنقيط ) و الشكل.
- الخليل بن أحمد الفراهيدي؛ واضع علم العروض ( في الشعر)، و أول من وضع معجما في اللغة العربية سمّاه ” العين “؛ لأنه رأى أن العين آخر حرف في الجهاز الصوتي باعتبار مخرجها من الحلق. ثم أمدَّ مجمل علم النحو لبعض تلاميذه النجباء.
- سيبويه : تلميذ الخليل بن أحمد، و صاحب أعظم كتاب في النحو سمّاه “الكتاب”، و يعتبره العلماء و فقهاء اللغة “قرآن النحو”؛ لأنه أعجز الذين جاؤوا بعده على أن يأتوا بمثله، فلم تتجاوز مصنفات الذين جاؤوا بعده إلا أن تكون شارحة لتفاصيله أو مختصرة إياه. و قد كانَ سيبويه من رواد مدرسة البصرة … و على ذكر مدرسة البصرة، عرف تاريخ البحث و التقعيد للغة تنافسا حادا بين مدرستي البصرة و الكوفة، و قد تميزت مدرسة البصرة ب” القياس” و التقعيد بناءً على المنطق و الظواهر المُطَّرّدة، في حين اعتمد نحاة الكوفة على السماع؛ فما سمعوا جملة إلا وضعوا عليها قاعدة و استشهدوا بها في تصانيفهم، و يكاد يجزم الدارس الحصيف للنحو العربي أن آراء الكوفة أحيانًا لم تكن إلا من أجل معارضة مدرسة البصرة، و قد رجَّح النحاة فيما بعد معظم آراء البصرة على آراء مدرسة الكوفة، و من أراد الاطلاع أكثر على هذه الاختلافات التي طرأت بين المدرستين فليقرأ كتاب “الإنصاف في مسائل الخلاف” لابن الأنباري، و يعد الكسائي و الفرّاء من أبرز نحاة الكوفة.
- عبد القاهر الجرجاني : واضع علم البلاغة العربية من خلال كتابيه الشهيرين كَنَار على جبل؛ الأول: أسرار البلاغة، و الثاني: دلائل الإعجاز.
يعتبر الكتاب الأول من ضمن علم البيان؛ حيث أجاد و أمعن في تحليل أبيات الشعر العربي في ضوء مباحث التشبيه و الاستعارة و غيرها.
بينما في الكتاب الثاني تناول علم المعاني، و وضع فيه نظريّة النظم التي باتت الشغل الشاغل للبلاغيين لاحقا في تفسيرها و شرحها، و التي مؤداها وضع الكلام الموضع التي يقتضيه علم النحو. - ابن منظور: معجمي فذّ قام بتدوين لغة العرب في قاموس مازال اسمه و لن يزال على رأس القواميس العربية، و هو القاموس الموسوم ب” لسان العرب”، هذا العمل الجبّار الذي جمع فيه ابن منظور لغة العرب، و قام بتدوينها في قاموسه بناءً على الحرف الأخير للمادة المعجمية.
ختاما، أدعو إلى ضرورة الاهتمام بهذه اللغة المميزة دراسةً و كتابةً و إبداعًا؛ لأن الإنسان ببساطة لا يمكن أن يبدع خارج لغته، كما لا يفوتني أن أشير إلى ضرورة خلق بيئة حاضنة للباحثين و المبدعين من خلال المختبرات و مراكز البحث للمزيد من العناية بهذه اللغة المتفرّدة، و السهر على تحديث مناهج تدريسها، مع العمل على جعلها مواكبة للتقدم العلمي التكنولوجي المتسارع، هكذا يتم تبويئها المكانة التي تستحق، فتبوحَ بما فيها من دُرَر و لآلئ.
يقول حافظ إبراهيم على لسان اللغة العربية :
أنا البحرُ في أحشائه الدُّرُّ كامنٌ .. فهل سألوا الغوَّاصَ عن صَدَفاتي.