مصطفى البياز: مدافع من ذهب
بقلم : الدكتور محمد همام
مصطفى البياز لاعب الفريق الوطني في الثمانينيات. لاعب صموت وخجول، ببنية جسدية قوية، وقامة ممتدة في السماء. يحمل على رأسه شعرا كثيفا، شعكوكة، حتى إنك تخاله مغنيا في الغيوان أو إزنزارن. يصفه الإعلام المصري بالجلاد، ويخافه المهاجمون الأفارقة، حتى إنه سؤل عنه المهاجم الكاميروني الشهير روجي ميلا يوما، في إحدى حواراته فقال لمحاوره: لاتذكر لي ذالك اللاعب، تضجرا وتضايقا. ووصفه الإعلام الأوروبي في كأس العالم 1986 بالعنيف. كان يتحرش به بعض الحكام الأفارقة المرتشين قبل بداية المقابلات.
وفي المقابل، ماذا يمثل مصطفى البياز بالنسبة للمغاربة؟ إنه عامل ثقة وصمام أمان في دفاع المنتخب الوطني. قال له المرحوم الحسن الثاني عند استقبال المنتخب بعد العودة من كأس العالم1986:( كنت راجل أولدي). وقال بادو الزاكي في أكثر من تصريح: (عندما يكون مصطفى البياز أمامي في الدفاع أشعر بالأمان أكثر).
مصطفى البياز ليس جذابا بلعبه فقط، بل بشكله أيضا. لاعب جميل حتى إنك تظنه ممثلا أو مغنيا، وكان الجمال من مواصفات نجوم الفن والسينما عادة، في ثمانينيات القرن الماضي وقبله. وفي كرة القدم اشتهر بالجمال لاعبو الوسط والهجوم، وخصوصا مايستروات الوسط، والأجنحة. ولكن كيف خطف البياز الأنظار، وهو من أصول أفريقية أولا؟ بعدما رسخت التمثلات الكولونيالية أن الجمال أوروبي، وأن الرجل الجميل، لايكون إلا أوروبيا. لذلك تجد إعلام الثمانينيات الرياضي في أروروبا يتغزل بجمال بلاتيني الفرنسي، وليتبارسكي الألماني، وكونتي الايطالي، وبوتراغوينيو الإسباني، ولينيكير الإنجليزي، وفان باسطن الهولندي… ثم إن البياز المغربي مدافع من إفريقيا، وكرة القدم الإفريقية ، ليست في التمثل الكولونيالي إلا عنفا في عنف. والعنف لايجتمع مع الجمال، والمدافعون هم العناصر الأولى في كتائب العنف في فرق كرة القدم، خصوصا الإفريقية. لذلك ترى الإعلام الرياضي الكولونيالي الأوروبي يهاجم المدافعين الأفارقة، ويجامل المدافعين الأوروبيين، مثل: جانتيلي الإيطالي، وسانشيز الإسباني، وبوسيس الفرنسي، وجيريتس البلجيكي، وبريكل الألماني، وهودل الإنجليزي…
نشأ مصطفى البياز في هذا السياق الرياضي السوسيولوجي والثقافي. خرج من إحدى فرق المغرب العميق بتازة، وكان في بداية مشواره، ربما، اللاعب الوحيد الذي يلعب مع المنتخب من فرق الدرجة الثانية، قبل أن ينتقل إلى الكوكب المراكشي والرجاء البيضاوي، ثم الاحتراف في البرتغال. كان لاعبا متكاملا، بلغة التقنيين الرياضيين، قامة طويلة، بنية جسدية قوية، تقنيات عالية لاتتوفر عادة في المدافعين، الأمس واليوم أيضا إلا قليلا. مدافع طائر في الكرات الهوائية، ومدافع كاسح في الانزلاقات الأرضية، وصاحب قذفات جافة وقوية، ومراوغ من طراز رفيع، وصاحب ثقة في النفس وتوازن كبير، في مربع عملياته. كان أبرز المدافعين في تاريخ الفريق الوطني الذي يؤمن سماء مرمى المنتخب في مواجهات الأفارقة بقاماتهم الطويلة والمعروفة. ينساب بالكرة من الدفاع مقتحما الوسط ومحدثا ضغطا تقنيا وتاكتيكيا على الخصم في خطوطه الخلفية. عنده قوة اختراق رهيبة وبسرعة كبيرة، فهو بالمناسبة قوي البنية، وفي الوقت نفسه سريع بالكرة وبغيرها عند الرجوع، أو في الهجمات المضادة. والكل يتذكر هدفه التاريخي 1986 بملعب محمد الخامس بالدارالبيضاء ضد ساحل العاج ضمن إقصائيات الألعاب الأولمبية سيول 1988، في الدقيقة86، أمام قرابة100 ألف متفرج في ستاد دونور، والملايين أمام الشاشات. وأهل بهدفه المنتخب الوطني.
برز اسم مصطفى البياز بشكل ملفت للإعلام العالمي في كأس العالم 1986. كان مغريا بأناقته وجماله، وبرشاقته في مداعبة الكرة، وبصلابته في المواجهة الثنائية، أرضا أو جوا. واجه عتاة المهاجمين الإنجليز في المقابلة الأولى من الدور الأول، مدججين بتاريخهم الرياضي، وبآلتهم الإعلامية الكولونيالية، أوقف فتاهم المدلل والهداف لينيكر، والذي فاز بهداف البطولة الثاني، بفارق رمزي مع باولو روسي الايطالي. وواجه البولونيين في المقابلة الثانية وكان حائطا منيعا أمام أسطورتهم بونييك، وصعد سهمه البطولي في المقابلة الثالثة أمام البرتغال، وقد برز نجمها فوتري، بسرعته وتقنياته العالية، وكان أول اصطدام له في المقابلة مع مصطفى البياز. وكانت مقابلة تاريخية تأهل منها المنتخب إلى الدور الثاني. في هذا الدور واجه المنتخب المغربي منتخب ألمانيا بتاريخه وبرموزه وبإعلامه. لم يشارك البياز بسبب الإصابة. وكان الإعلام الألماني لايتحدث قبل المباراة إلا عن غياب البياز، وهل هو حقيقة أم مؤامرة وخداع من المدرب المهدي فاريا؟ لم يلعب البياز المباراة وخسر المنتخب بهدف طائش من ضربة خطأ مباشرة نفذها الثعلب لوثار ماتيوس في لحظة فراغ دقيقة في حائط المنتخب في الدقيقة88، بعد أن قدم أداء بطوليا كبيرا. هل كان البياز لو لعب سيمنع هذه الخسارة؟ لا أظن. ولكن الشيء المتيقن منه وما أتذكره، وأن أكتب عن البياز من ذاكرتي، أن المباراة قبل إجرائها، خيم عليها مشاركة البياز أو غيابه.
مصطفى البياز ليس لاعب كرة وحسب، بل مكافح من أجل رمزية القميص الذي يحمله. ذلك ماتجسده صرامته في اللعب، وتبرزه تقاسيم وجهه وهو الذي الذي لايبتسم إلا عند أدائه مهمته في الميدان، على ماحباه الله به من جمال الوجه وحروف زينه. أعطى البياز لرقم 4 قيمة كفاحية من خلال ممارسة كرة القدم. فإذا كان الناس والجمهور ينتبهون عادة إلى الرقم10، فمع البياز أصبحوا ينتبهون إلى الرقم 4. وكان الشباب والمدافعون في الثمانينيات يتسمون باسم البياز، ويقلدون مهاراته الكروية، وتدخلاته الصارمة، خصوصا في الانزلاقات الأرضية، ولوكان الملعب من حجر وتراب، وليس من عشب. فكانوا يستمتعون بتقليد البياز، بهكذا لعب، كما يقلدونه في تسريحة الشعر الكثيف، وفي إطلاق القميص على (الشورط)، وفي وضع بعض التمائم في اليد.
لقد كان مصطفى البياز قديس المدافعين وملهمهم في الثمانينيات، وأنا أتحدث هنا عن الممارسين لكرة القدم، العارفين بالخبايا السلوكية والنموذجية للاعبين، في الثمانينيات في المغرب. وقد أتاحت لي فرصة ممارستي لكرة القدم اللقاء بالبياز ومشاهدته لاعبا عن قرب في الميدان، في أكادير، وفي مراكش خصوصا، وفي الدارالبيضاء مع المنتخب، ضد تونس، وزايير، وساحل العاج، ومصر… لهذا لم أصدق مايروج بعد وعكته الصحية، من أن الجمهور تنكر له، أو تنكر له محبوه. سيبقى البياز في قلوب عشاق كرة القدم في المغرب وفي العالم، لأنه لم يكن جملة اعتراضية في تاريخ المنتخب أو في تاريخ الكرة العالمية، بل كان مدرسة قائمة بذاتها في الدفاع، تجمع بين الصرامة والرشاقة، وبين التقنية الفردية والعمل الجماعي بين الخطوط، وبين الدفاع الخلفي الثابت وبين الدفاع الهجومي المتحرك والزاحف إلى الأمام.
مصطفى البياز جزء أصيل من ذاكرنا الوطنية، التفريط فيه هو تدمير لهذه الذاكرة، سنؤدي ثمنه غاليا. مصطفى البياز ليس لاعبا كرة قدم في المنتخب وحسب، بل مكافح من أجل صورة المغرب وشخصية المغرب، وقدرة المغرب على الصمود في وجه إعصار متحيز في إفريقيا كان يريد اقتلاع المغرب من جذوره الإفريقية، والوقوف ضد تمثيله لهذه القارة العظيمة، (أم العالم بتعبير الغيوان) في المنتديات العالمية. لعب مصطفى البياز، مع المنتخب، في ظروف قاسية بقارتنا السوداء، أمام جمهور غفير يعد بعشرات الآلاف، يحرسهم بضعة جنود وبضعة رجال شرطة، وأكثر الجمهور شباب مراهقون، لاوجود لحواجز، ولاحماية، ويقود المباريات حكام بعضهم ليسوا نزهاء، وربما يحملون تمثلات متحيزة ضد المغرب، لأسباب كثيرة، وتلعب المباراة في حرارة مفرطة، وفي أجواء بعض الأحيان نشعر نحن بالخوف ونحن نتابع وقائعها عبر المذياع، في انتظار أن تعاد في التلفزيون عند عودة بعثة المنتخب في حوالي أربعة أيام أو أسبوع إذا توفر التسجيل في بلد المباراة. في هذه الأجواء كنا نسمع أصوات المذيعين، العزاوي، وزدوق، وغيرهم، يصفون لنا بطولات البياز، ورباطة جأشه وشجاعته، لم يكن لاعبا بل مكافحا، من أجل ماذا؟ من أجل الوطن، من أجل الشعب، يريد أن ينتصر لأن في انتصاره انتصار للوطن. فمن يذكر اليوم لمصطفى البياز هذا التاريخ البطولي؟
حفظك الله سي مصطفى، وعجل بشفائك. ستبقى بطلا تاريخيا في قلوبنا، وسندعو لك على ظهر الغيب، في صلواتنا، وسلام عليك يوم ولدت، ويوم كافحت، ويوم اعتزلت، ويوم مرضت.