تقديم رواية محاولة عيش للروائي والقاص المغربي محمد زفزاف
من إنجاز: رضى حليم
في روايته “محاولة عيش” الصادرة سنة 1985، يقدم لنا الروائي والقاص المغربي محمد زفزاف، مشروعا أدبيا روائيا يتكون من حوالي 94 صفحة. هي رواية تراجيدية، يمكن تصنيفها ضمن الأعمال الأدبية والفنية المعاصرة. في عصر اشتد فيه قلق الروح، ومادت به المخاوف، وساورتها الشكوك. تسلح زفزاف بسلطة الفكر واللغة والبلاغة والمجاز، فالتقط لنا صورة لبعض مناحي حياة المجتمع المغربي، وحاول التعبير عن معاناة الإنسان المغربي وقلقه الروحي. مسلط الضوء على إشكاليات من قبيل: (المساواة والحرية والعدالة والديمقراطية وحقوق الإنسان…)، في قالب روائي تراجيدي، حرر فيه النفس وأطلقها على سجيتها، كمبدأ متحرر من قيود العقل وأصنامه.
نحن أمام شاعر وروائي وقاص مغربي له ثقل وازن في الساحة الأدبية المغربية والعربية، عرف ب”شاعر الرواية المغربية” ولقب ب”الكاتب الكبير”. يصنف زفزاف من أكثر الروائيين والقاصيين المغاربة قراءة في العالم العربي، وقد ترجمت مجموعة من أعماله إلى لغات أجنبية متعددة.
رأى محمد زفزاف النور سنة 1945 في مدينة “سوق أربعاء الغرب” بالمغرب، عاش طفولة صعبة بعد وفاة والده وهو في الخامسة من عمره. ذاق معها الفقر والحرمان والتهميش. درس زفزاف المرحلة الابتدائية في مدينة مسقط رأسه. وبعد مرحلة الدراسة الجامعية في شعبة الفلسفة، امتهن تدريس مادة اللغة العربية بالثانوي الإعدادي بمدينة القنيطرة، ثم عين بعد ذلك أمينا لمكتبة التلاميذ. قرر بعد ذلك التفرغ للكتابة، فانتقل للعيش بمدينة الدار البيضاء، بحي المعاريف، في عزلة صوفية وبوهيمية داخل أزقة وأروقة مدينة البيضاء، كون خلالها صداقة كبيرة بالأديبين المغربيين محمد شكري وإدريس خوري.
بدأ زفزاف مساره الأدبي الإبداعي شاعرا في بداية الستينيات، واتجه بعد ذلك نحو القصة والرواية، ولذلك لقب بـ”شاعر الرواية المغربية”. أنتج زفزاف ما يفوق العشرين عملا بين القصة والرواية، من أبرزها: (حوار في ليل متأخر، قصص، 1970- المرأة والوردة، رواية،1972- أرصفة وجدران، رواية، 1974- قبور في الماء، رواية، 1978- الأفعى والبحر، رواية، 1979- بيضة الديك، رواية، 1984- ملك الجن، قصص، 1988- ملاك أبيض، قصص، 1988-الثعلب الذي يظهر ويختفي، رواية، 1989).
اختارت المنية أن تأخذ روح محمد زفزاف عن سن ناهز السادسة والخمسين، يوم 13 يوليوز 2001، بعد معاناة مع المرض. وروي جثمانه الثرى في بمدينة الدار البيضاء المغربية.
يشير عنون الرواية “محاولة عيش” إلى المدخل الذي من خلاله يمكن قراءة الرواية وتأويلها، وقد أشار الكاتب من خلاله إلى إشكالية الوجود الإنساني داخل المجتمع بين الواجب والممكن، وهي محاولة تريد أن تنجح في العيش مهما بلغت درجة الاستحالة والامتناع في مواجهة الوجود المأساوي .و بالنسبة لصورة غلاف الرواية فهي عبارة عن مرآة تعكس صورة مجتمع يسيطر عليه الحرمان والبؤس والفقر والجهل والتشرد والحزن…مع وجود إرادة ورغبة وأمل في العيش. وبالنسبة لزمكان أحداث الرواية، فلم يحل المؤلف في سرد روايته عن الزمان والمكان اللذان دارت فيهما الأحداث بشكل مضبوط، لكنه اقتصر فقط، على ذكر أماكن وفضاءات مفتوحة من قبيل: (الميناء –المدينة-الشوارع -الأزقة… ). وأماكن أخرى مغلقة من قبيل: (المقهى-الملهى –الغرفة–البراكة…).
يتناول المؤلف في هذه الرواية قصة عيش الطبقة المسحوقة والمهشمة في المجتمع المغربي، بطلها فتى اسمه حميد، حميد هذا فتى يبلغ من العمر الستة عشر سنة، أجبرته ظروف أسرته المزرية المكونة من أبويه وأخويه الصغيرين إلى الخروج للشوارع لكسب لقمة العيش. يتربص حميد بالسفن الغربية الراسية على الشاطئ، محاولا التسلل والصعود إليها لبيع الصحف وعلب السجائر للمسافرين، لكنه يجد صعوبة في ذلك، إذ يتلقى المنع من حراس السفن، اللذين لا يفتئون في ضربه وشتمه وجعله محطة للشكوك والظنون السيئة. يبتكر حميد أساليب ومناورات تجعله يحقق مغزاه بالصعود إلى السفن، عن طريق رشي الحراس، فبضع سجائر تفي بالغرض. لكن معانات حميد لا تقتصر عند هذا الحد فقط، بل يتلقى أيضا مضايقات كثيرة عند محاولة خروجه من الميناء من قبل شرطة الميناء المتسلطين والعدوانيين، بذريعة عدم توفره على رخصة ولوج الميناء.لكن سرعان ما تنتهي هذه المضايقات والمعاناة، بإطلاق سراحه مقابل تجريده من علب السجائر والدراهم البيضاء والصفراء التي تحصل عليها من عملية بيع الصحف.
ينتقل بعد ذلك المؤلف لالتقاط صورة للطبقة المسحوقة والمهشمة في المجتمع، تلك الشريحة من المجتمع التي تتخذ من “البراريك” (بيوت الصفيح) قرب الميناء مسكنا لها، طبقة معدمة تعيش على هامش الحياة. كل هذه الآلاف من الناس هي في خدمة سكان المدينة. منهم الحفارون والخادمات واللصوص ومنهم الصباغون والجيارون والبائعون والمتسولون… منهم كل شيء وكل شيء حتى بائعو الصحف، ومن بائعي الصحف حميد. تحوم حول “البراريك” مواخير وملاهي ليلية ومقاهي تعج بالغربيين (جنود تابعين للقاعدة الجوية الأميركية يعتهون في الملاهي الليلية فسادا، ولا يكفون على خلق المناوشات والشجار كل ليلة أمام البارات والملاهي الليلية. ويستغلون فقر الفتيات القادمات من القرى المجاورة، ويحرضوهن على ممارسة البغاء)، و”المومسات” الوافدات من سيدي يحيى الغرب وسوق الأربعاء أو جمعة المكرن أو سيدي علال التازي وأناس محليين من مختلف الشرائح الاجتماعية – يصورها المؤلف كمنطقة تحوي البغاء والحشيش والخمر، تحت أنظار رجال الشرطة التي لا تحرك ساكنا في الغالب.
في هذه “البراريك” تقطن أسرة حميد، أسرة مكونة من أب متكاسل يقضي معظم وقته نائما خمولا، لا يتورع في استغلال ابنه القاصر، ويسلبه الدراهم التي قضى النهار كاملا في جمعها من بيع علب السجائر والجرائد. باستثناء موسم البلوط ، الذي ينقض فيه الأب مع ابنه حميد مع باقي سكان “البراريك” على الغابة مثل الجراد، يصور منه بضع دراهم التي تكون كافية مؤقتا لاقتناء علب السجائر. رغم محاولات الدولة منعهم من ذلك فإنها لم تكن تفلح، وكانت النتيجة العثور على عدد من جثث حراس الغابة ممزقة ومشوهة، إنها المجاعة، وحيث يكون الجوع فإن قتل الإنسان يكون مثل قتل ذبابة. وأم متسلطة لا تروقها وضعية أسرتها المزرية، وتحث زوجها المتكاسل وابنها على الكدح والعمل من أجل تحسين ظروف العيش. وتقضي معظم وقتها في تحضير الطعام لأفراد أسرتها رغم نذرته، وطفلين صغيرين يتأملان الوضع متعطشان للكبر مثل حميد فيجدان لهما عملا، يتعلمان من خلاله التدخين والشرب وكل شيء.
يحاول حميد مقاومة حياة الفقر والبؤس والفقر بالعمل، مبتعدا عن التدخين والخمر والبغاء. لكن تضييق ومنع حراس السفن، وتسلط وعدوانية رجال شرطة الميناء، حال دون الاستمرار في الاسترزاق في هذه المنطقة المحظورة. قرر حميد الانتقال إلى عالم بيع الجرائد بشكل منتظم داخل المقاهي وبين أروقة أزقة المدينة، بإرشاد من صديقه الضاوي، هذا الأخير الذي يتقاسم مع حميد تجاربه في الحياة.توسط الضاوي لحميد عند سي إدريس لكي يشتغل عنده بشكل منتظم فوافق على توظيفه شريطة الجد والمثابرة في العمل، سي ادريس يتصف بكونه رجل سمين يلبس نظَّارة سميكة، وأنه شخصً مُتسلطً جائر على بائعي الصحف الذين يشتغلون معه .
بهذا العمل الجديد، أصبح لحميد دخل لا بأس به، هي دراهم بيضاء وصفراء تزيد وتنقص من يوم لآخر، كانت كافية لتجعل له مكانة خاصة داخل أسرته، وأصبح هو الآخر يخص ببعض الفواكه، مثله مثل الأب والأم. وأصبح الأب بدل الوجه العابس يبتسم ابتسامة ثعلب ماكر عندما تكون حصة اليوم من الدراهم مرتفعة قليلا.
وكما جاء دور الأسرة لكي تتذوق اللحم، فهي متلهفة ومتعطشة لأكل اللحم الذي لم تشم وتذق رائحته منذ شهور طويلة، تتم عملية طهي اللحم وفق طقوس خاصة توثق الاحتفال بحلم تحقق، بداية بتكرار كلمة لحم عدة مرات بصوت مرتفع لإغاظة الجيران، ثم إهداء قطعة صغيرة من اللحم لإحدى الجارات المقربات لأم حميد، وذلك بصوت مرتفع، ليعلم جميع الجيران أن الأسرة أكلت لحما.
فبالرغم من جد ومثابرة حميد في مقاومة الفقر والحياة بالعمل مجتنبا طريق الانحراف، وسط دائرة من المواخير والملاهي والمومسات تحوي الخمر والحشيش والبغاء، استسلم أخيرا للأهواء والشهوات وأصبح يرتاد هو كذلك هذه الأماكن بشكل منتظم واعتيادي، فتعرف على غنو، فتاةٌ بدويّة تنتمي إلى أسرةٍ ريفيّة، تعمل مومس في أحد الملاهي الليلة، فأمسى يرتاد منزلها بانتظام ويغيب عن أسرته لأيام، ويجد ملاذه أحياناً أخرى عند امرأة يهودية صاحبة مطعم فخم، تعطف عليه، وتتصدق عليه في بعض الأحيان ببعض الملابس القديمة، وتسمح له بأكل بقايا الطعام.
غياب حميد عن أسرته المتكرر؛ جعله يحرر نفسه ويطلقها على سجيتها، متشبثا بمبدأ التحرر من سلطة النظام الأبوي البطريقي، وتجاوز العقل الواعي، وإطلاق العنان للنفس من أجل بلوغ عالم الأحلام، متمردا على النظامين الأسري والاجتماعي.
إن خوف أم حميد على تلك الدراهم من الضياع في المواخير والملاهي والخمور والبغاء، اقترحت أمه تزويجه، عن طريق تحريض والده الذي رفض في البداية بحجة صغر حميد، لكن سرعان ما سيقبل بعد إصرار وتحريض كبيرين من زوجته، ولما لا، وحميد أصبح يبلغ من العمر الثماني عشر سنة ويكسب أجرة يومية لا بأس بها.
مكانة حميد الجديدة داخل الأسرة، وبلوغه سن الثماني عشر؛ جعلته يملك مسكنا خاصا به، عبارة عن عشة صغيرة في الحوش، هذه “البراكة” التي كلفت والد حميد 15 درهما كرشوة دفعها لعون السلطة مقابل التغاضي عن الأمر، بعدما توسط له صديقه البقال عند عون السلطة، الذي ما فتئ يقدِّم له المشورة والنصح ويساعده في قضاء حوائجه.
بعدما أصبح حميد يمتلك عشته الخاصة، التي تشبه مسكن كلب، خطبت له أمه إحدى الفتيات التي تقطن بجوارهم في حي الصفيح، اسمها فيطونة، فتاةٌ عرجاء، سمينة متوردة الخدين بعدما وافقت أمها التي تنتمي إلى نفس طبقتهم الفقيرة والمهمشة، أم فيطونة امرأة ذات بنية جسمانية قوية شرسة تخاف منها جميع نساء الحي، تستطيع أن تهزم جميع نساء الحي في معركة واحدة. وافق حميد وبدون تردد على الزواج بفيطونة. فعلى حد قوله، لا بأس إذا غمزت بقدمها، لكنها مع ذلك سمينة، تحلب فمه، وتمتلكه قشعريرة. وما من أحد كره وجود امرأة بجانبه، تطبخ له الشاي، تضع له لبيخة على رأسه عندما يشعر بالألم، وتغسل له ثيابه.
حان موعد زواج حميد من فيطونة، وفق مراسم الزواج الشعبية الموروثة، ليتحول العرس في النهاية إلى معركة بعد أن يكتشف حميد أن زوجته العرجاء لم تكن عذراء؛ اشتبكت الأيدي، وارتفع الصراخ والعويل بين أهل فيطونة وأهل حميد. جلبت العصي واصطدمت الرؤوس ورفست الأقدام بعض الجثث، كانت معركة جاهلية حقيقية…تسلل حميد ممتطيا دراجته، بدون أن ينتبه له أحد لأنهم كانوا مشغولين بالضرب والرفس والنطح. قاصدا بيت غنو متلهفا ومتعطشا لزجاجات الخمر. ومتشبثا بإطلاق العنان للنفس من أجل بلوغ عالم الأحلام.