ذ. رشيدة باب الزين باريس
الرباط 21 فبراير 2024
بسم الله الرحمان الرحيم والصلاة والسلام على مولانا أشرف المرسلين.
حضرات السيدات والسادة كل باسمه وصفته والتقدير الواجب لشخصه :
إنه لمن دواعي اعتزازي أن أشارك معكم نيابة عن السيد رئيس النيابة العامة في أشغال الجلسة الافتتاحية لهذه الندوة العلمية الهامة التي تنظمها وزارة الشباب والثقافة والتواصل بالمملكة المغربية بشراكة مع جامعة الدول العربية ومنظمة العالم الإسلامي للتربية والعلوم والثقافة وجامعة نايف العربية للعلوم الأمنية حول موضوع ” التربية الإعلامية: آفاق وتطلعات”، هذه الندوة التي التأم لجمعها مجموعة من الخبراء والفاعلين في مجال التربية والإعلام بهدف دراسة ومناقشة مواضيع تتصل بمجال التربية الإعلامية.
وبهذه المناسبة أود أن أشكر الجهة المنظمة على دعوتها الكريمة مهنئاً إياها على حسن اختيار موضوع الندوة الذي له راهنية كبرى بالنظر لكونه يعالج موضوعاً في غاية الأهمية.
فانعقاد هذه الندوة يأتي في سياق جد دقيق تطبعه مجموعة من التحولات المتسارعة التي يعرفها المجال الإعلامي والرقمي بسبب الطفرات التكنولوجية المتلاحقة.
فمما لا شك فيه أن الثورة الرقمية والتكنولوجية التي يشهدها العالم اليوم قد أرخت بظلالها على مختلف مناحي الحياة المعاصرة وأضحت مسألة مُوَاكَبَة إيقاعها المتسارع حتمية لا مناص منها، وهذا ما فرض على الدول تحديث منظوماتها التشريعية والمؤسساتية وتطويرها من أجل فهم وتقنين الظواهر المستحدثة والتصدي للسلبيات التي قد تفرزها.
ومن المؤكد أن مجال الإعلام لم يسلم بدوره من الاكتساح التكنولوجي والرقمي، فإلى عهد قريب كان المحتوى الإعلامي يمر حصراً عبر القنوات التقليدية كالصحف والمطبوعات الورقية وغيرها من وسائل الاتصال السمعي البصري، هذه الوسائل التي أصبحت اليوم تلقى منافسة شرسة من الإعلام الرقمي أو إعلام الوسائط المتعددة المتسم بسرعة تناقل المعلومات وتداول الأحداث وسهولة الولوج مما جعله يستقطب أعداداً كبيرة من المتتبعين بالنظر لنشاطه المتنامي على مستوى وسائل التواصل الاجتماعي وتطبيقات الهواتف الذكية وشبكة الأنترنيت.
حضرات السيدات والسادة :
تعد التربية الإعلامية أحد المداخل الأساسية لمواكبة استخدام التكنولوجيا الحديثة لاسيما في ظل التطور الهائل الذي عرفه مجال الإعلام ووسائل الاتصال الحديثة التي أصبحت سلطة مُؤَثِّرَة في مجموعة من المجالات تتجاوز الأفكار والقيم إلى عوالم أخرى ترتبط بالمجالات الاقتصادية والثقافية والاجتماعية وهي تحديات تزداد يوماً بعد يوم في ظل اكتساح وسائل التواصل الحديثة لمختلف مجالات الحياة بسبب سهولة ولوجها واتساع مجالها بفضل ما توفره من خدمات وسرعة الحصول على المعلومة بالطريقة و الكيفية التي يرغب فيها المرء.
لذلك وأمام كل هذه التحديات، فقد أصبحت التربية الإعلامية مطلباً ملحاً للرفع من منسوب الوعي لدى العموم حول كيفية التفاعل مع وسائل الاعلام وتأطيرهم وإكتسابهم مهارات تساعدهم على تحليل المضمون الذي يتلقوه وفهم البيئة الإعلامية وجعلهم قادرين على الاختيار الواعي للمضامين الإعلامية الإيجابية.
ولبلوغ هذه المرامي والغايات، فقد بات من الضروري تفكيك مفهوم التربية الإعلامية وتطويرها لتكون قادرة على مواكبة كل هذه التحولات وفهم عقلية المتلقي. وإذا كان مفهومها قد ظهر في أواخر سنوات الستينات حيث ركز خبراء علوم التربية حينئذ على إمكانية استخدام وسائل الإعلام لتحقيق مكاسب تربوية كوسيلة تعليمية، حيث كان في هذا السياق لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم دور كبير في تطوير هذا المفهوم وإرساء قواعده والتي كانت جل مؤتمراتها في ذلك الوقت تنادي بضرورة إعداد النشء للعيش في عالم تسوده سلطة الصورة والصوت والكلمة.
ولقد كان لمؤتمر فيينا المنعقد سنة 1999 دور في تقديم رؤية متكاملة عن التربية الإعلامية والتعريف بها وتحديد أهدافها لتمكين أفراد المجتمع من كيفيات التفاعل مع وسائل الإعلام وفهم آليات اشتغالها وتمكينهم من اكتساب المهارات الكافية التي تمكنهم من التعامل معها بشكل إيجابي وحمايتهم من آثارها السلبية وترسيخ قيم المواطنة والاخلاق وهو الأمر الذي ما فتئ جلالة الملك محمد السادس نصره الله و أيده يؤكد عليه في العديد من خطبه الملكية السامية، من بينها ما جاء في نص الرسالة التي وجهها جلالته إلى المشاركين في الدورة الثامنة للمؤتمر الإسلامي لوزراء الإعلام المنعقد بالرباط في 27 يناير 2009 و التي جاء فيها ” ولن يتأتى ذلك، إلا بالانفتاح على التطور التكنولوجي و الإعلامي والتفاعل مع العالم المتقدم، أخداً وعطاءَ، مع تحصين الذات من المؤثرات السلبية ” انتهى النطق الملكي السامي.
فاليوم لم يعد الفرد في معزل عن ثقافة وعادات وقيم الآخر بل أصبح معه في بوتقة واحدة بسبب ما تتيحه وسائل الاتصال الحديثة من إمكانيات هائلة في هذا المجال وما تبته من مواد إعلامية محملة بمجموعة من القيم والمبادئ المتعددة، وهو ما يستوجب ضرورة البحث والتقصي في تأثيراتها لبناء آلية للتربية الإعلامية، خاصة وأن عوامل الانجذاب لها في تزايد مضطرد حيث أصبح الفرد فاعلاً أساسياً فيها من خلال مشاركته في صناعة المحتويات الإعلامية.
وفي ظل الإقبال المتزايد والمفرط في العديد من الأحيان على الوسائل الرقمية في الحياة اليومية، طفت إلى السطح إشكاليات ذات أبعاد نفسية واجتماعية وقيمية، تمثل تحديات حقيقية للتربية الإعلامية حول مدى قدرتها على مواكبة كل هذه التغييرات وقدرتها على تطوير آلياتها بسبب بروز عوائق متعددة لم تكن مطروحة من قبل بشكل قوي، وهو ما يحتم التعامل معها في إطار التوظيف الذكي لآليات التربية الإعلامية التي تمكننا من اكتساب مهارات التعامل مع مختلف الوسائط الإعلامية بشكل معقلن.
واستحضاراً من رئاسة النيابة العامة لأهمية التربية الإعلامية كمدخل أساسي لتأطير مستخدمي وسائط الإعلام بمختلف أشكالها، ووعياً منها كذلك بخطورة الاستعمال المتزايد لهذه الوسائط وما تتيحه من إمكانيات تقنية يمكن أن تنفذ من خلالها الكلمة والصورة والصوت بسرعة جد هائلة لتجوب العالم وهو ما أدى إلى ظهور أشكال حديثة للجريمة، كما أدى الاستعمال السيء للفضاء الأزرق إلى ظهور نوعية جديدة من الجرائم تستغل التقدم الهائل الذي عرفه هذا الأخير وما واكبه ذلك من تسهيل الولوج إليه حيث أصبح هذا الفضاء مجالاً لارتكاب العديد من أصناف الجريمة سواء ضد الأشخاص كالاعتداءات أو القذف أو التشهير بالحياة الخاصة أو ضد الأموال كالنصب والاحتيال والتزوير وغيرها من أصناف الجريمة الأخرى في إطار ما يعرف بالجريمة السبيرانية.
وفي هذا الإطار تضطلع النيابة العامة بأدوار متعددة من أجل حماية المجال الإعلامي من خلال التصدي للأفعال الماسة بالحقوق والحريات الفردية أو المخلة بالأخلاقيات التي تتم عبر وسائط الاتصال ومحاربة التحريض على العنف والكراهية وغيرها. واستحضاراً منها لخطورة بعض المحتويات الرقمية التي تتم تداولها في بعض الوسائط الإعلامية والتي تمس بسمعة الأشخاص وحياتهم الخاصة، فقد أصدرت رئاسة النيابة العامة عدة مناشير ودوريات في هذا المجال تصب في اتجاه حماية حرمة الحياة الخاصة.
كما قامت أيضاً في إطار تصديها للأخبار الزائفة والمضللة التي يتم الترويج لها في بعض وسائط التواصل الرقمي بتوجيه دوريات في هذا الشأن بهدف الحد من هذه الظواهر التي تؤثر على أمن وطمأنينة المجتمع.
ووعياً من رئاسة النيابة العامة بكون التواصل المؤسساتي يعد من بين الآليات المساعدة التي من شأنها أن تساهم في إذكاء العملية التربوية التي يمكن أن تقوم بها المؤسسات في إطار محاربة الأخبار الزائفة وتمكين عموم المواطنين من المعلومة الصحيحة، وسعياً منها لتنزيل الاستراتيجية التي اعتمدتها في مجال التواصل، فقد بادرت إلى إطلاق برنامج طموح لتكوين القضاة الناطقين باسم النيابات العامة بشراكة مع المعهد العالي للإعلام والاتصال، وفي نفس السياق وجهت منشوراً للمسؤولين القضائيين تحت عدد 9س ر ن ع بتاريخ 13 فبراير 2019 تحتهم فيه على ضرورة التواصل مع الرأي العام وذلك تكريساً للمبدأ الدستوري المتعلق بالحق في الوصول إلى المعلومة وكذا تنوير الرأي العام حول ما يتم تداوله من أخبار في وسائط الإعلام أو الوسائط الاجتماعية، ذلك تفادياً لانتشار الإشاعات والأخبار الكاذبة أو التدخل لتصحيح بعض المعطيات أو تقديم توضيحات بشأن ما يتم تداوله أو نشره . هذا وستواصل رئاسة النيابة العامة استراتيجيتها التواصلية في هذا المجال.
حضرات السيدات والسادة :
إن التحديات التي يطرحها الاستخدام المتزايد للتكنولوجيا الرقمية بات يطرح اليوم على العملية التربوية وعلى القائمين عليها ضرورة مضاعفة الجهود في إطار من الإلتقائية لتطوير مفاهيم وآليات الفعل التربوي في زمن زَحْفِ الرقمنة وذلك بالانتقال من مفهوم الدفاع المتمثل في حماية المتلقي أو المستعمل من المخاطر السلبية لهذا الاستعمال إلى مفهوم التمكين الإيجابي الذي يهدف إلى تمكين المجتمع من فهم الثقافة الإعلامية المحيطة بهم وحسن انتقائها والتفاعل معها في الاتجاه الإيجابي، وهي مسؤولية يتقاسمها الجميع، أفراداً وأسراً ومُجتمعاً ومؤسسات.
حضرات السيدات والسادة الأفاضل :
لا يسعني في ختام هذه الكلمة إلا أن أجدد شكري وامتناني للجهات القائمة على تنظيم هذه الندوة العلمية الهامة آملاً أن تكلل أشغالها بالسداد والتوفيق ولا شك في أن أشغالها ستتوفق بحول الله في إيجاد الحلول المناسبة وصياغة المقترحات الملائمة وتوفير الإجابات الشافية على التحديات المطروحة بالنظر إلى التجارب والخبرات التي تتمتع بها الشخصيات والفعاليات الحاضرة من أجل الخروج بتوصيات من شأنها تكريس الاستعمال المستنير للإعلام الرقمي.