الواجهةمجرد رأي

حماس ونزع العباءة الأيديولوجية …

 أ. د. محسن محمد صالح مدير عام مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات.
تكرر الحديث في الآونة الأخيرة عن دعوة حماس لـ”نزع العباءة الأيديولوجية” والتخلي عن طرحها الإسلامي، وأن تصبح حركة “تحرّر وطني”، لأنه بحسب ما يرى هؤلاء فإن “القيد الأيديولوجي” يُعيق حماس، ويُضيع عليها فرصة تحقيق إنجازات في البيئات السياسية العربية والدولية ذات الحساسية السلبية تجاه الإسلاميين. ثم إن نزع العباءة هذا يُسهّل على العديد من الأطراف التعامل المنفتح مع حماس، وبالتالي تسهيل المشاركة السياسية الفاعلة لحماس في الساحة الفلسطينية، والقيام بالدور والتأثير المطلوب.
ويبدو هذا الطرح في ظاهره كلاما منطقيا، مغلفا بروح المصلحة واستحقاقات المرحلة. وكنا ناقشنا في مقال سابق (قبل نحو أربعة أسابيع) “طوفان الأقصى وتعزيز المشروع الإسلامي لفلسطين”، وسلطنا الضوء على عدد من الجوانب المتعلقة بالفكر السياسي الإسلامي لحركة حماس والمقاومة الإسلامية، وحساسية البعض تجاهها. ولسنا هنا بصدد التكرار، ولكننا سنحاول مناقشة فكرة “نزع العباءة”، والإجابة عن بعض ما أحدثه المقال السابق من نقاشات.
أولا: هوية أم أداة وظيفية؟!
أن تقوم فكرة الحركة وعقيدتها ورؤيتها وأهدافها على الإسلام، وأن ينشأ التنظيم ويتربى الأفراد وتُعد الكوادر على الإسلام، وأن يتم التحرك الدعوي والتربوي والاجتماعي والسياسي على قواعد الإسلام وأخلاقياته، وأن يتواصل الصمود والقبض على الجمر وتقديم الشهداء والجرحى والأسرى والمشردين، والتضحية بالمال والمنصب والمنزل احتسابا وفي سبيل الإسلام، وأن يتحقّق الصّعود الشعبي والسياسي بفضل الله وبقناعة المؤمنين بالفكرة واقتناع الناس بمصداقية هؤلاء المقاومين العاملين.. ثم عندما تصل إلى قطف ثمرة هذا المشروع.. يُطَالِب البعضُ القائمين على المشروع بالتخلي عن “الهوية”، بحجة أنها لم تعد صالحة لاستحقاقات القطاف، وتحقيق المنجز!!
بعبارة أخرى، تصبح الهوية والمشروع مجرد أداة استخدمت وانتهت صلاحيتها!! وتتقزم العقيدة والفكرة، ولا يعود (بحسب الداعين) الدين أو الأيديولوجية الإسلامية مصدر نفع بل تصبح عبئا.. وتصبح “البراغماتية” هي الأساس!! وهكذا تُربِّي وتعملُ وتجاهدُ وتضحي كإسلامي.. ثم تقدم أوراق اعتمادك وتأهلك للقيادة السياسية كعلماني!!
هذا ليس تغييرا أو نزعا لـ”عباءة” أو “رداء” مرتبطا بأمر شكلي أو ظاهري، وإنما تغيير في الجوهر، في “العقل” و”القلب”، لأنه مرتبط بالهوية والفكرة والمنهج. وهي مخاطرة بخسارة عناصر القوة لديك، وبخسارة ثقة القواعد الشعبية المؤمنة بالفكرة والمشروع، فضلا عن خسارة توفيق الله وتسديده.
الخطير في طريقة الطرح هذه أنك عندما تتنازل عن الأساس الذي نشأت عليه، وعن الهوية التي تتسم بها وتحتكم إليها؛ فإنك تكون قد تنازلت عن أعز ما لديك، وبالتالي فأنت تُكيف نفسك للتنازل في “الخطوط الحمراء”، وتفتح شهية أعدائك وخصومك للتجرؤ للضغط عليك للتنازل عن أخص ثوابتك.
ثانيا: المقاومة الإسلامية هي حركة تحرر في جوهرها:
ثمة إشكالية مصطنعة أو مبتذلة في الحديث عن الانتقال من حركة أيديولوجية إسلامية إلى حركة تحرُّر وطني، وكأن ما كانت تقوم به الحركة منذ تأسيسها من تعبئة ومقاومة وتضحيات شأن منفصل عن التحرّر!!
إن حماس بطبيعتها وبتكوينها ومبرر وجودها وتربيتها ومنهجها وخطابها السياسي، وبأدائها على الأرض، هي حركة تحرّر وطني أصيلة، وليس ثمة حاجة لتخرج من ذاتها عن ذاتها!! وهي تُقدِّم رؤيتها لتحقيق التحرّر الوطني من خلال رؤيتها الإسلامية، باعتبارها الأقدر على إنجاز مشروع التحرير. وبالتالي فإن ما يُسمى انتقالا أو نزعا أو خروجا من عباءة هي عملية لا مبرر لها، إلا إذا قُصد منها ارتهان مشروع التحرر الوطني بالتخلي عن المشروع الإسلامي. والسؤال: لماذا لا يستطيع البعض أن يراها كذلك إلا إذا خرجت من هويتها الإسلامية أو نزعت رداءها الإسلامي؟!
والساحة الفلسطينية تَعجُّ بفصائل تُعرِّف نفسها بأنها “حركات تحرُّر وطني”؛ ومع ذلك فهي مستعدة للتنازل عن معظم فلسطين التاريخية، والاعتراف بـ”إسرائيل”، والتنسيق الأمني مع العدو ومطاردة قوى المقاومة!!
إذا، المشكلة ليست في الشكل والتعريف، وإنما في الهوية والجوهر. وبذلك يتضح أن إصرار هؤلاء أساسه الرغبة في نقل التمركز والتمحور ليكون حول فكرة لا مضمون فكريا أو أيديولوجيا لها، لتصبح حاكمة على ما سواها. وعند ذلك تصبح الرؤية الإسلامية والمشروع الإسلامي مجرد وجهة نظر أو “أحد المعطيات” التي توضع إلى جانب العديد من المعطيات الأخرى، ليؤخذ بها أو لا يؤخذ بحسب الأشخاص الذين يُقدِّرون “المصلحة”؛ وعند ذلك تُلغى المرجعية الإسلامية وتصبح قيمة تابعة، محكومة غير حاكمة؛ وتحت رحمة شعار يمكن أن يُملأ مضمونه بأي محتوى!!
ثالثا: تحقيق القبول لدى الآخرين:
يجادل البعض من أنه لا بد من التحول إلى حركة “تحرر وطني” لتحقيق القبول لدى الآخرين، من قوى رسمية وشعبية، عربية ودولية.
والسؤال هنا: هل مشكلة هؤلاء هي في الإطار الخارجي أو الشكل الذي تعرض فيه نفسك، أم في جوهر المشروع الذي تحمله؟!
فهل إذا تبنيت مفردات ولغة “وطنية” بعيدة عن اللغة أو الروح “الأيدولوجية الإسلامية”، ولكنك حافظت في حركتك على التربية الإسلامية والمنهج الإسلامي والبنية التنظيمية الإسلامية، والتعبئة الجهادية، وعلى خط المقاومة، وعدم التنازل عن أي جزء من فلسطين، وعدم الاعتراف بـ”إسرائيل”.. هل ستلقى الترحيب والأحضان الدافئة؟! أم ستبقى الإشكالية ذاتها في مطالبة الآخرين لك بتطويع نفسك وفق معاييرهم؟!
وهل عندما قامت حركات وفصائل فلسطينية رئيسية بتحقيق “الشروط” المطلوبة من الآخرين، وتكييف وتطويع ذاتها لمتطلباتهم، هل تمكنت من تحقيق أي من التطلعات الكبرى في التحرير والعودة؟!
إن أولئك الذين يحترمونك لإخلاصك لوطنك ولتضحياتك ولإنجازاتك على الأرض ولالتفاف الحاضنة الشعبية حولك.. ويتشاركون معك القيم الإنسانية الكبرى في الحق والعدل والحرية.. لا يلتفتون كثيرا لهويتك الأيديولوجية، بل يزدادون لها احتراما، لأنك قدمت من خلالها النموذج المنشود.
أما أولئك الذي يعادونك أو يخاصمونك لخلفيتك الدينية أو لالتزامك بمشروع المقاومة والتحرير، فإنهم سيبقون على خصومتهم وعدواتهم تجاهك ولو غيرت الشكل الخارجي لتموضعك، فما يُهمهم هو تغيير جوهر مشروعك، وليسوا سُذجا للانخداع بالشكليات. وهو ما يذكرنا بقوله سبحانه” ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردُّوكم عن دينكم إن استطاعوا” (البقرة: 217).
رابعا: توسيع العباءة وليس نزع العباءة:
يدعو بعض المخلصين إلى تطوير الخطاب ليظهر كحركة “تحرر وطني” لاستيعاب الاتجاهات والقوى السياسية المختلفة (قومية ويسارية ووطنية وليبرالية..) وللدخول في شراكات وطنية، للوصول إلى إعادة ترتيب البيت الفلسطيني، وقيادة الشعب الفلسطيني.
وبالتأكيد، فإن الانفتاح على الكُل الوطني، وإقامة التحالفات، واللقاء على المشتركات هو من ضرورات العمل السياسي الفلسطيني، التي على حماس وغيرها العمل عليه بشكل جاد وفعّال.
أما ما يجدر ذكره فهو أن الخطاب السياسي لحماس منذ نشأتها كان بشكل عام خطابا وطنيا استيعابيا منفتحا، وسيلحظ ذلك كل من يقرأ أدبياتها السياسية منذ 1987 وحتى الآن.
ومن ناحية ثانية، فإن استيعاب الآخرين والانفتاح لا يستدعي نزع الهوية “الأيديولوجية”، ولا وضعها جانبا؛ لأن الأيديولوجية “الإسلامية” إذا ما أُحسن فهمها والتزامها، تتضمن آليات متقدمة في الانفتاح والاستيعاب واللقاء على المشتركات، سواء في مكارم الأخلاق وفي الوفاء واحترام العهود والمواثيق، والتضحية والإيثار وتقديم المصالح العليا ومراعاة التدرّج وغيرها.
وبالتالي، فقد يحتاج الإسلاميون بالفعل إلى عمل مراجعات لسلوكهم وأدائهم، وتطوير خطابهم السياسي وتعزيز لغتهم المنفتحة، وتنقية المصطلحات والمعايير من التشدد والانغلاق، والتوسع في المباحات في العمل السياسي. وهذا لا يستدعي نزعا للرداء، وإنما توسيعا له، وتطويرا لأدائه ضمن المرجعية نفسها.
ومن ناحية ثالثة، فكما أننا في انفتاحنا على ألآخرين لا نطلب منهم أن يخرجوا من أيديولوجياتهم اليسارية والقومية والليبرالية، ونحترم خصوصياتهم الفكرية والعقائدية؛ فمن باب أولى أن يحترم الآخرون الأيديولوجية “الإسلامية”، خصوصا وأنها أثبتت عمقها “الوطني” واتساعها الشعبي وإنجازها على الأرض.
ومن ناحية رابعة، فإذا كان مطلب المخلصين في تكريس شعار “التحرر الوطني” لن يلغي (بحسب قولهم) الهوية ولا الطبيعة الأصيلة للحركة، فليس المطلوب من قياداتها وكوادرها أن تُخفي هذه الهوية أو تتستر عليها، فهي ليست “عورة” ولا “مخدرات”!! وإنما هي مفخرتها وسرّ نجاحها. وإذا كان لدى الآخرين ما يخشونه من “بضاعتك” فلا تُخفها وإنما أحسن عرضها وبدِّد الشكوك من حولها!! وأحسن الانسجام مع ذاتك، فلعلك بذلك تكسب مزيدا من القلوب والعقول.
الكثيرون لديهم أسئلة ومخاوف تجاه المشروع الإسلامي، وهي لا تُحلُّ بالتَّهرب ولا بالتنازل عنها، فتُشعر الآخرين بعجزك وانعدام الثقة بذاتك، أو ببراجماتيتك المفرطة، بل وتزيد شكوكهم تجاه ما قد تخفيه؛ وإنما تُحلّ بمزيد من الانفتاح والإجابات الواضحة والثقة بالذات وبالمشروع. والكثيرون لديهم مشاكلهم مع تجاربهم، ويودّون معرفة ما لديك، وسر أدائك البطولي وسر التفاف الحاضنة الشعبية الأسطوري حولك، لعلهم يستلهمون تجربتك أو ينضمون إليك، فيكون تَهرّبك سببا في إغلاق الباب في وجوههم، وإضعافا لك.
خامسا: الإبداع من خلال الفكرة والرسالة:
ليست ثمة مشكلة في الأيديولوجيا الإسلامية، لكن طريقة عرضها هي مشكلتك أنت!! وحساسيات الآخرين ليست محددات لهويتك، كما أن حساسياتك ليست محددا لهوياتهم، وليقدّم كل طرف أفضل ما لديه، وليكن الاختلاف اختلاف تنوّعٍ وليس اختلاف تضاد.
عندما بنى رسول الله صلى الله عليه وسلم دولته في المدينة وأقام نظامه الإسلامي كان ما زال ثلثها كافرا أو منافقا وثلثها الآخر يهوديا، ومع ذلك استوعبهم جميعا في روح حضارية إنسانية، دون أن ينزع رداءه الإسلامي أو هويته الأيديولوجية.
وعندما فجر القسام الثورة في فلسطين كانت عمامته مصدر فخر وعز وإلهام لكل الفلسطينيين بكافة أحزابهم وطوائفهم وشرائحهم، حتى أطلقوا عليه لقب “أبو الوطنية”. وعندما قاد الحاج أمين الحسيني، مفتي فلسطين، الحركة الوطنية الفلسطينية في ثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين تمتع بشعبية ساحقة وسط المسيحيين كما المسلمين؛ ولم يمنع تشكيل قوات “الجهاد المقدس” بمصطلحها الديني الواضح في ذلك الوقت من انضمام المسيحيين إليها وتنفيذهم أعمالا بطولية من خلالها.
ولذلك، فليس المطلوب تغيير أو نقل الهوية، وإنما الإبداع من خلال الهوية، وليس الصحيح التعامل مع الأيديولوجية الإسلامية كـ”عبءٍ” أو “جدار” أو “حالة تعصُّب”، وإنما كهوية حضارية ثقافية تاريخية إنسانية ثبت نجاحها عبر قرون كثيرة في تحقيق التعايش السلمي والنهضوي لمختلف أبناء الأعراق والطوائف. وبالتالي، فأبناء الحركة الإسلامية مسؤولون عن تقديم أيديولوجيتهم كرافعة وقيمة نوعية.
ولسنا بحاجة لتكرار ما ذكرناه في المقال السابق حول المنتج النوعي لهذه الأيديولوجية في “صناعة الإنسان”، وحول أدائها الفعَّال، وحول التفاف الجماهير حولها، وكونها مصدر إلهام وتعبئة للأمة، وأنها حصن للثوابت والمبادئ والانتماء الحضاري، وأنها حائط صد أمام هجمات الإفساد والتغريب، وقبل هذا وبعده توفيق الله ومعيته ونصره وتأييده لمن يرفع رايته ويسير على هديه.
سادسا: الحركات الإسلامية والفشل التاريخي:
ارتبط الفشل التاريخي للعديد من الحركات الإسلامية بأنها كانت تُبلي بلاء حسنا على مستوى الفرد والأسرة والمجتمع، والحراك الشعبي، والمعارضة السياسية. ولكن جزءا أساسيا من فشلها كان في عدم القدرة على الانتقال من القيادة المجتمعية إلى قيادة الدولة، وعدم وجود رؤى واضحة نابعة من ذاتها وعقيدتها ومشروعها للإجابة على الأسئلة والتحديات الكبرى التي تواجهها.
وكانت إحدى الإشكالات التي تكررت، وظهرت بوضوح في “الربيع العربي” مثلا، أن عددا من هذه الحركات استجاب للضغوط التي تطالبه بالتحول إلى “حركة وطنية قطرية” وبتخفيف اللون الإسلامي أو “نزع ردائه”.. وكانت النتيجة في كل التجارب التي تم فيها “نزع الرداء” أو التموضع وفق شروط الآخرين.. أن هذه الحركات فقدت بوصلتها، وخسرت قواعدها الجماهيرية، بينما لم تكسب خصومها ولا نُقّادها، بل استغلوا ذلك في ضربها وإضعافها.
وكان ينبغي أن يدرك الإسلاميون الذين أجادوا الانفتاح على كافة الأطياف والتحالفات، أن ذلك يجب أن يسير بالتوازي مع تعزيز الهوية الإسلامية وتعميقها شعبيا وعالميا وتقويتها مؤسساتيا، وليس تهميشها أو تركها بحجة إرضاء الآخرين.
* * *
والخلاصة أن المشروع الإسلامي المقاوم يحوي في طبيعته حالة “التحرر الوطني”، ويجب أن يعبر عنها في إطار مشروعه ورؤيته الحضارية الإنسانية، ولا ينبغي أن يتقزَّم تحت شعارات لا مضامين واضحة لها، وهو مطالب بأن يوسع دائرة انفتاحه واستيعابه لكل الاتجاهات والتيارات.
وأخيرا، فلم يكن في ذهننا طرح هذا الموضوع في هذه الظروف، لولا أن البعض طرحه وفرضه، وأصبح لا بد من وضع النقاط على الحروف تجاهه. والحمد لله رب العالمين.
المصدر: “موقع عربي 21.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى