شهادة البكالوريا : المسارات والانتظارات
بقلم الدكتور : محمد غولي
بعد الإعلان عن نتائج الامتحانات الاستدراكية لمستوى الثانية بكالوريا ، والتي أماطت اللثام عن نسبة النجاح النهائية لامتحانات البكالوريا للموسم الدراسي 2023/2024… حيث قاربت النسبة %80…مع ما اكتنف هذا الموسم من إضرابات واحتجاجات للشغيلة التعليمية على بنوذ ومواد النظام الأساسي المنظم لمهنتهم …تكون السنة الدراسية قد قاربت على الانتهاء بكل إخفاقاتها وإشراقاتها ، وبكل أفراحها وآلامها…لاسيما وجرح العقوبات التأديبية لم يندمل بعد ، ببقاء بعض الأساتذة قيد التوقيف دون قرار أو حكم من لدن الجهات المختصة ،ينهي حالة الانتظار والريبة في وضعيتهم القانونية…
هذا الموسم ورغم حالة الانقطاع التي امتدت لثلاثة أشهر كاملة عن الدراسة ، وبعد تكييف الوزارة الوصية لمختلف المقررات الدراسية حتى تتماشى والغلاف الزمني المتبقى المخصص لهذه المقررات ، جاءت نسبة النجاح مرتقعة في صفوف الامتحانات الإشهادية ، لاسيما على مستوى الثانية بكالوريا…ليطرح السؤال ماذا لو لم يتم الانقطاع الدراسي السالف الذكر…كيف كانت ستكون نسبة النجاح لهذه السنة الدراسية ؟!!!
في محاولة للإجابة عن هذا السؤال نستحضر الاعتبارات الآتية :
1- الوزارة الوصية تعهدت أو على الأصح سطرت في مخططاتها الاستراتيجية لهذه السنة ، نسبة الدراسية %85 كنسبة مرتقبة لنجاح مستوى البكالوريا…ماهي المؤشرات التي اعتمدت عليها ؟؟؟ وماهي المحددات التي من شأنها الرفع من مردودية المترشحين والمترشحات للوصول لهذه النسبة ؟؟؟ كل ذلك لم تخبرنا عنه وزارة التربية الوطنية !!! المهم هو الوصول لهذه النسبة المرتفعة بأي تكلفة …
2- كل المترشحين الناجحين لهذه السنة الدراسية تعوزهم الكثير من الدروس والمجزوءات ، لاسيما في التعليم العمومي بفعل الإضرابات والاحتجاجات التي شهدتها السنة الدراسية، رغم ارتفاع نسبة النجاح لديهم…وهذا العوز سيظل موشوما في مسارهم العلمي ، لاسيما عند اجتياز امتحانات الولوج للمعاهد العليا والجامعات ذات الاستقطاب المحدود ؛ مما سينعكس سلبا آجلا أو عاجلا على تكوينهم العلمي المستقبلي…
3- تكافؤ الفرص للأسف غاب بين تلاميذ التعليم الخاص ، وتلاميذ التعليم العام بفعل استكمال الفئة الأولى لمقرراتها الدراسية ، وحرمان الفئة الثانية من هذا الحق ، بعد تمديد الوزارة الوصية للسنة الدراسية بأسبوع واحد لايغني ولايسمن من جوع…بل لا يكفي حتى لحصص الدعم السنوية التي تسطر في آخر السنة الدراسية…
4- نظام التقويم وظروف الامتحانات الاشهادية للأسف تعتريها الكثير من العيوب والاختلالات…فنظام التقويم مثلا يغيب فيه مبدأ تكافؤ الفرص…إما لطبيعة الامتحانات التي تبقى في معظمها قابلة للغش ، أو لطبيعة النص الممتحن فيه
أو لغياب تجفيف منابع الغش في كثير من الحالات التي تلجأ للشبكة العنكبوتية ، وبوسائط جد متطورة تعجز معها سلطة المراقبة اليدوية في ضبطها وزجرها…
5- نظام التقدير و الإشادة للمتفوقين من التلاميذ والتلميذات ينبغي إعادة النظر فيه…كيف تسلط الأضواء فقط لهذه الفئة القليلة جدا ، والتي قد وصلت إلى ماوصلت إليه بظروف وشروط توفرت لديها ولم تتوفر لغيرها ، ثم نقوم بالرفع من شأنها والتهليل لإنجازها ، متغافلين فئات أخرى لم تتوفر على أدنى شرط من هذه الشروط ، رغم التفاني والمثابرة التي قد تصل لحد الإجهاد النفسي والذهني والبدني ، ثم لانعيرها اهتماما ولا التفاتة ولو رمزية لبقاء شعلة الجد والاجتهاد والمثابرة متيقظة لديها…
6- للأسف حتى ذاك الاهتمام الذي نسلط عليه الضوء للمتفوقين والمتفوقات الأوائل يكاد يندثر بمجرد انتهاء السنة الدراسية ، ولانكاد نسمع له خبرا بعد انتقال أصحابه لمعترك الحياة ، سواء على مستوى متابعة مسارهم العلمي ، أو على مستوى ولوجهم لسوق الشغل ، بل وحسب الإحصائيات الرسمية معظم المتفوقين والمتفوقات يلجون الجامعات ذات الاستقطاب المحدود ، أو المعاهد العليا…ليجدوا أنفسهم في الأخير محاصرين بالوظيفة العمومية والتي تبقى -مهما ارتفع أجرها- قاصرة على أن تفي بمتطلبات الحياة اليومية الكثيرة ، ولاتحقق أحلام أصحابها الوردية ، التي تتناسب مع كفاءاتهم العلمية وعبقريتهم الفذة…مما يضطر الكثير منهم في البحث عن فرص أخرى خارج الوطن تلبي احتياجاتهم المادية ، وتحقق أحلامهم المشروعة…
7- من الملاحظة السابقة ينبغي إعادة النظر كذلك في نظام التوجيه ، لاسيما لدى التخرج بعد البكالوريا…إذ لا يعقل أن نجد في أحايين كثيرة اشتغال المتفوقين والمتفوقات لدى فئة المتوسطين والمتوسطات من أبناء الطبقة الغنية ، وبأجور هزيلة تضرب في العمق النظام التربوي ، وتقلب موازين العبقرية والذكاء والتميز… إذا ما قورنت بالوضع المادي لدى فئة محظوظة تحقق كل هذه الطموحات المستقبلية ، بل وقد تستخدم فئة ذوي العقول النيرة وتستعبدها بسلطة المال ، في ضرب صارخ لمبدأ تكافؤ الفرص…لهذا على الدولة أن تستثمر في طاقاتها الفكرية وتوفر لها ما عجزت عنه من إمكانيات مالية… ليحقق الجميع مبتغاه في النهوض بالمسار العلمي والمهني للمجتمع ، وكاقتراح في هذا الصدد ، ينبغي استحضار التربية على المبادرة الحرة في ولوج المشاريع الاستثمارية الكبرى لهذه الطاقات العلمية المتميزة ، بمواكبة من الدولة وبتمويل منها لعل الطموحات تتحقق ، ووقف هدر الطاقات يتجسد…دون أن نخلق المسوغات الموضوعية لهجرة الأدمغة نحو الخارج….
وفي الأخير ينبغي استبدال المقاربة الكمية التي تنهجها الوزارة في التعامل مع أبناء هذا الوطن ، بمقاربة نوعية تستحضر هاجس التميز والتفوق ليس فقط على المستوى العلمي ، بل كذلك حتى على المستوى المهني ، الذي بفضله تنهض المجتمعات ، وتتطور الأمم نحو غد مشرق غد مفعم بحب هذا الوطن دون تفكير ولو للحظة واحدة في مغادرته ، وإيثار البقاء في أحضان غيره…