بقلم : هشام امساعدي
توصيــــــــف الواقعـــة:
استفاقت مدينة “الفنيدق” المغربية في الأسبوع الأخير من شهر غشت الماضي على وقع زحف جماعي لمئات المرشحين للهجرة نحو مدينة “سبتة” المحتلة دفعة واحدة. فقد توافد صباح الأحد 25 غشت 2024 مئات القاصرين والأطفال على شاطئ المدينة وهم يحملون معدات سباحة تقليدية، ثم اختلطوا مع المصطافين قبل أن يشقوا عُباب البحر سباحةً في اتجاه الثغر المحتل بشكل جماعي، مستغلين الضباب الكثيف الذي خيم على شاطئها وحَجَبَ الرؤية عن العاملين بنقط المراقبة الأمنية. وقد تمكن حوالي 300 مهاجرا من دخول جيب “سبتة” رغم مطاردة رجال الشرطة الإسبانية؛ في حين قُدر عدد الموقوفين المرشحين للهجرة بحوالي 700 فردا ذكورا وإناثا. ما حذا بالسلطات المغربية إلى تطويق أمني كامل لشاطئ “الفنيدق”، وإعلان حالة استنفار قصوى على الحدود الفاصلة بين مدينة “الفنيدق” ومدينة “سبتة” خوفا من موجات هجرة جماعية جديدة، وهو ما حذا بالسلطات الإسبانية من جهتها إلى إخلاء شاطئ “سبتة” من المصطافين الإسبان والأجانب حرصا على سلامتهم وأمنهم.
الجـــــــديد في الواقعــــــة:
ظاهرة الهجرة غير الشرعية ليست جديدة على المغرب بحكم موقعه الاستراتيجي، حيث يمثل نقطة عبور بين أوربا ودول المغرب العربي من ناحية، وبين أوربا وباقي دول إفريقيا من ناحية أخرى. وقد تعوَّد أن يكون محطة التوقف الأخيرة لمهاجرين من إفريقيا وبلاد كثيرة، قبل شد الرِّحال نحو الضفة الأخرى أملا في تحسين أوضاعهم المعيشية والارتقاء بمكانتهم الاجتماعية، وبحثا عن الحياة الكريمة. ولذلك شكلت الهجرة غير الشرعية على الدوام تحديا كبيرا لأجهزته الأمنية في مكافحة هذه الظاهرة المتنامية. لكن الجديد في واقعة يوم الأحد 25 غشت 2024 أربعة عناصر:
1 ـ التوقـــــــــيت: شكل التوقيت الذي جرت فيه الهجرة الجماعية نحو مدينة “سبتة” المحتلة صدمة كبيرة للرأي العام. ففي الوقت الذي تستعد فيه الأسر المغربية والتلاميذ للدخول المدرسي بعد انتهاء عطلة الصيف، فوجئ عدد من أولياء الأمور بأبنائهم يتركون دراستهم، ويلقون بأنفسهم في عُرض البحر سعيا وراء حلمهم بالهجرة، ومنهم من ذهب رفقة أسرته لمجرد الاصطياف بشاطئ “الفنيدق”، ولما وجد أصدقاءه ينزلون إلى البحر بهدف الهجرة نزل معهم. وهو ما يطرح السؤال: ما الذي دفع تلاميذَ قاصرين إلى المغامرة بمستقبلهم الدراسي، رغم أنهم لم يجربوا تكاليف الحياة بعد؟ وحتى لو تمكنت السلطات الإسبانية من إعادتهم إلى المغرب، بأي نفسية سيعودون إلى مقاعد الدراسة وهم يجدون زملاء لهم قد ابتسم الحظ لهم وتمكنوا من العبور إلى إسبانيا؟
2 ـ الوسيـــــــلة: الهجرة الجماعية سباحةً من المغرب إلى إسبانيا شيء جديد على المغاربة، ولم يألفوه كثيرا خاصة وأنهم استعملوا أدوات سباحة بسيطة للغاية. لقد تمت عمليات الهجرة غير الشرعية فيما مضى اعتمادا على قوارب الصيد التقليدية، واعتمادا على الزوارق السريعة والدراجات النارية البحرية “جيت سكي”، كما نجحت عمليات عبور كثيرة من خلال اللجوء إلى الاختباء بالسفن وشاحنات نقل البضائع… لكن لم يعهدوا أن تتم عن طريق السباحة لأزيد من عشرة كيلومترات، انطلاقا من شاطئ مدينة “الفنيدق” إلى شاطئ مدينة “سبتة”، مستعملين الأنابيب الداخلية لعجلات السيارات والحافلات (chambre à air)، وزعانف السباحة وألواح الضرب بالأرجل… وهذه مخاطرة كبيرة تطلبت ما بين 10 ساعات إلى 15 ساعة وسط الماء، سيما وأن البحر كان هائجا والضباب كان كثيفا.
3 ـ الفئات العمــــــــــرية: كانت الهجرة السرية فيما مضى تسجل حالات معزولة في فئة القاصرين أو الأطفال أو النساء، لكن أن تصير هذه الحالات المعزولة هي القاعدة في محاولة الهروب الأخيرة إلى مدينة “سبتة”، فهذا ما خلف استياء واسعا في أوساط الرأي العام المغربي والدولي، بل إن هذا الاستياء تحَوَّل إلى حرقة كبيرة عند المغاربة بعد رؤية مقاطع فيديو أظهرت أُسَراً بجميع أفرادها تجازف بأرواحها في قوارب سياحية هربا من شظف العيش. ثم أي عار أكبر من أن يغادر أطفال غيرُ مصحوبين وطنَهم الأم، ويطلبون اللجوء الإنساني من المحتل الذي تعلَّموا في مدارس الوطن وكتب التاريخ أنه دنَّس أرضهم الطاهرة، ليعيشوا الاحتجاز بسبب وضعهم غير القانوني؟! فلا قيمة للوطن عندما تصبح مغادرته حلما للجميع، ولا قيمة للمواطنة حين يفضل الإنسان سجون المحتل على حرية الوطن.
4 ـ الكثافـــــة العدديـــــــة: لم يسبق لمدينة “الفنيدق” أن عاشت مثل هذا الزحف بالآلاف للقاصرين والأطفال الراغبين في العبور نحو مدينة “سبتة” على مدى أسبوع كامل، منذ الأزمة الديبلوماسية بين المغرب وإسبانيا في أبريل 2021، والتي اندلعت بسبب استضافة مدريد زعيم جبهة البوليساريو الانفصالية “إبراهيم غالي” بجواز سفر مزور للعلاج. وكانت حينها الرسالة واضحة من الدولة المغربية وهي أن المغرب لن يقوم بدور شرطي الحدود لدولة تهدد وحدته الترابية، ولا تكف عن زعزعة استقراره. وقد استعمل المغرب تدفق هذه الحشود من المهاجرين الأفارقة ورقةَ ضغط على السلطات الإسبانية لتعديل موقفها من قضية الصحراء المغربية لصالح المغرب، وهو ما حدث بعد سنتين تقريبا. يخيل إليك أمام قوافل المرشحين للهجرة التي تحتشد في الشوارع والأزقة المؤدية إلى الشاطئ أن شباب مدينة “الفنيدق” خرجوا عن بكرة أبيهم يريدون جميعا إخلاء الوطن.
غـــــربة داخل الوطـــــــــــــن:
صادم أن يحس أبناء الوطن بالغربة داخل وطنهم، ولا يشعرون بالانتماء إليه إلا جغرافيا. فما عادت التفاصيل في هذا الوطن تعني لهم شيئا، وما عادت تُجْدِي الكتابة ولا عادت تُجْدِي نشرات الأخبار وحملات التوعية في دعوة المواطنين إلى التسجيل في اللوائح الانتخابية، أو المشاركة السياسية، أو الانخراط في مؤسسات المجتمع المدني، أو المطالبة بالإصلاحات الدستورية، أو تقديم البلاغات إلى هيئة الرقابة ومكافحة الفساد… لأن كل تلك التفاصيل ـ على أهميتها القصوى ـ باتت تُغَيِّبُهم عن قائمة الإنسان، وتبعدهم عن أسرة الإنسانية.
مخجل جدا في وطني أن تسمع من الأطفال والقاصرين الذين هاجروا أو حتى الذين أعيدوا إلى بلدهم ومازالت روح الهجرة تسكنهم، أن المواطنة في المغرب الحبيب كخطب الجمعة الموحدة لا تتسع إلا للواجبات وتذكير الناس بالتزاماتهم تجاه الوطن، وأن عليهم التضحية بالنفس والنفيس في سبيل إعزازه وإعلاء رايته والحفاظ على وحدته الترابية. أما الحقوق الإنسانية التي تجعل من الحياة جديرة بالعيش الكريم مثل الحق في الغذاء والتعليم والعمل والصحة والحرية… فلا ينال المواطن منها إلا الفتات الذي يُجَمِّل به مَنْ يديرون الشأنَ الوطني وجهَ حكومتهم، إن بقي لها وجه عند المغاربة أصلا.
مؤسف جدا ألا تكتفي أوطاننا العربية بطرد كفاءاتها العلمية فقط، بل صارت تجتهد حكوماتها تحت مسمى الإصلاحات الدستورية باتجاه طرد جماعي لأبناء جيل بأكمله نحو الضفة الأخرى بسبب سياساتها الفاشلة. فالهجرة في نهاية المطاف هي محصلة طبيعية للسياسات الحكومية في التعليم والصحة والرياضة وباقي القطاعات. قدر الكادحين من أبناء هذا الوطن دائما ألا تتاح لهم الفرص إلا إذا تشكل الضباب الكثيف في بلدهم، وحَجَبَ الرؤية عن أجهزته الأمنية وخفر السواحل. شكرا للضباب بمدينة “الفنيدق” الذي تعاطف مع الأطفال والشباب القاصرين في بحثهم عن المواطنة عند أمم أخرى، ومنحهم فرصة للنجاة من الغلاء والتسلط اللذين سيطرا على حياة أسرهم وعائلاتهم لردح من الزمن.
وعندما نشكر الضباب على تعاطفه مع أولئك الحالمين بالهجرة، فليس هذا معناه أننا نزكي هجرة الأطفال والقاصرين، ولكن لأنه عرى الوجه الحقيقي للوطن وللسياسات العمومية الحكومية. ولولا مشاهد البؤس والقهر التي التقطتها عدسات المصورين من أبناء الشعب، لظلتْ صورة المغرب في عين الأجانب جميلة. فالمغرب متطور جدا في كرة القدم (الرابع على العالم)، ومنفتح جدا على الثقافات (مهرجان موازين)، ويتبوأ المراكز الأولى عربيا في مؤشر الديمقراطية (التعددية السياسية والإعلامية، ودولة الحق والقانون)، والمغاربة ينعمون بالحرية وحياة الرفاه (يبتاعون لوازم العيش من الأسواق الممتازة، ويتنقلون بواسطة “طرامواي” وقطار TGV)، والمغرب له إنجازات عظيمة يحسده عليها الأعداء والخصوم: أكبر ميناء بإفريقيا والمتوسط، وأكبر مصنع للسيارات بإفريقيا، وأعلى برج بإفريقيا، وسابع أكبر محطة للطاقة الشمسية في العالم، وأطول قنطرة بالرباط ذات أعمدة زجاجية، وأكبر قفطان، وأكبر قصعة كسكس، وسيحتضن كأس العالم 2030، وسيشيد أكبر ملعب لكرة القدم في العالم…
هكذا يُسَوِّق الإعلام الرسمي للإنجازات في الماضي والحاضر وللمشاريع في المستقبل؛ وهكذا تروج للمغرب والمغاربة في الخارج أقلامُ التجميل التي تَشحن خراطيشَ مِدادها من الريع والفساد كلما جَدَّ مستجد. لكن كيف تفسر أقلام التجميل للرأي العام أن هؤلاء المغاربة أنفسهم يهربون من كل هذا الأنس إلى الغربة؟ ومن كل هذا الاستقلال المحبوب إلى كل ذلك الاستعمار المبغوض؟ وكيف يفضل من هاجر منهم سرًّا الاحتجازَ في سجون المحتل على كل هذه الرفاهية والنعيم المقيم بوطنهم؟ نريد أن نفهم من أصوات التطبيل للفساد لماذا يسجل المغرب بأسى عميق حالات اختفاء حتى في صفوف البعثات الرياضية والثقافية والدينية التي يرسلها لتمثيله بالخارج:
ــ الهروب الجماعي للاعبين: لاعبو منتخب كرة الطائرة بإيطاليا؛ لاعبو الرجاء البيضاوي والجيش الملكي لكرة القدم؛
ــ اختفاء 34 مفتشا مختصا في محاربة الفساد المغربي، بعد إرسالهم في دورة تكوينية إلى بريطانيا للاستفادة من التجارب الغربية في محاربة الفساد؛
ــ فرار أئمة ومرشدين في فرنسا بعد انتهاء مهمتهم…
هل كل هؤلاء المغاربة ناكرون لجميل وطنهم أم أن هذا الوطن لم يعد يتسع لجميع أبنائه؟ كيف يمكن للإنسان أن يشعر بالمواطنة وهو يقف في طوابير بالساعات ليشتري ـ تحت النهر والتهديد والإذلال ـ خدمة إدارية أو اجتماعية (رعاية صحية مثلا) الأصل فيها أن تكون مجانية؟ كيف يمكن للإنسان أن يكون مواطنا في بلاد تحولت إلى ضيعات ذات غلة ونتاج، يأكل طيِّبَهَا الأجنبي والوكيل بأبخس سعر، ولا ينتفع الكادحون فيها إلا من ساقط أشجارها وخُرْفَتِها؟ كم يكفي ملايين الكادحين من الصبر والتحمل ورِعَاءُ الفساد يوزعون عليهم في كل يوم مشاهد البذخ والترف وتبذير المال العمومي، ونقط بيع الموارد الطبيعية والثروات الوطنية، ثم يطلبون منهم في خطبهم السياسية أن يحمدوا الله على نعمة الاستقرار؟ لكأن استقرار الوطن لا يُحفظ إلا إذا جادت السياسة في هذا الوطن لصالح نخبة فاسدة مفسدة، وأمسكت إلى حد التقتير على عموم المواطنين من الفقراء، حتى صار هذا التوزيع الغاشم قناعة ومضرب مثل عند كثير من أبناء الطبقة الكادحة: “الوطن للأغنياء، والوطنية للفقراء”. كم يكفي من التفاؤل لإصلاح ما كسرته حكومات الفساد وكل المتسلطين في هذا الوطن؟
من يذكِّر أقلام التجميل وأفواه التطبيل أن قيمة الأوطان في بناء الإنسان قبل العمران، وأن هيبة الدولة في تكريم المُواطن وصون حقوقه، لا في تبرير القمع والنزوع المفرط إلى انتهاج المقاربة الأمنية كلما طالب برفع الظلم عنه؟ وقد علَّمنا ديننا أن المواطنة في الإسلام حقوق وواجبات، وأن العدالة الحق تتطلب إحداث توازن بينهما، ومن المجحف أن نُفْرِطَ في تحديد الواجبات للمواطنين، ونُضيِّق عليهم في الحقوق.
أبعاد واقعـــــــة “الفــــنيدق”:
إن مشاهد الفرار الجماعي للمهاجرين المغاربة من بوابة “الفنيدق” نحو إسبانيا، تحمل في طياتها أبعادا كثيرة ورسائل لمن يهمهم الأمر، ويُسائل الدولة حول مخططات التنمية الاقتصادية محليا وجهويا ووطنيا، وحول واقع القدرة الشرائية عند المغاربة، ومنها أنها تمثل:
1 ــ شكلا من أشكال الاحتجاج ضد السياسات الحكومية عموما، وضد حكومة أخنوش خصوصا، لشباب وأطفال عانوا كما عانت أسرهم وعائلاتهم من القهر والبطالة وارتفاع مستوى المعيشة، وتراجع الخدمات الاجتماعية إلى أدنى مستوياتها؛
2 ـ صورة من صور الانسحاب الجماعي للتعبير عن الإحساس بخيبة الأمل في تحقيق الذات بالوطن الأم، والإحساس بالإحباط في الوصول إلى الأهداف والطموحات بالوسائل المشروعة؛
3 ــ مؤشرا واضحا على فقدان المواطنين الثقة في المؤسسات الرسمية (وعلى رأسها البرلمان)، وفي الأحزاب السياسية والنقابات والمنظمات الحقوقية، وفي الإعلام الرسمي والإعلاميين الذين يكتبون تحت الطلب؛
4 ــ حالة من الشعور بالاغتراب داخل الوطن، الذي يولد تغييرا في الرؤى والقناعات الفكرية لدى كثير من الشباب، وأولها أن الاغتراب خارج الوطن لا يقل سوءا عنه داخل الوطن؛
5 ــ هروبا من الوطن الأم للبحث عن المواطنة عند أمم أخرى، فهما (الوطن والأمم الأخرى) في السُّوءِ سَوَاءٌ، وفي الكرامة الإنسانية خِلَافٌ…
خاتــــــــــــــمة:
كم تمنينا أن يدخل هؤلاء الشباب “سبتة” فاتحين محررين لها من يد المحتل الإسباني، لِتَكْتُبَ الأجيالُ الصاعدة حلقةً جديدة في سلسلة حركة التحرر الوطني بالمغرب، ولِتُبرهن لكل العالم أن شعبا له في الكفاح تاريخٌ كتاريخنا، يستحيل أن يسكت على حقه في استكمال وحدته الترابية. أما أن يتسللوا عبر الحدود ليدخلوها سرا، ويقصدوها لطلب اللجوء الإنساني فيها، فلا شك أنها مَساءة (منقصة) تمس بصورة المغرب أمام المنتظم الدولي فيما يتعلق بالحقوق والحريات.
وتجدر الإشارة في الأخير إلى أن الهجرة لا تعني دائما انفصالا عن الوطن وانتقاما منه، كما أن البقاء فيه لا يدل دائما على صدق الوطنية والوفاء للوطن. فمن الأشياء التي تبصم على تميز المغاربة هو احتفاظهم بالوطن في داخلهم، وهذا واضح من خلال الرموز الوطنية التي يحملها الجمهور المغربي في الملاعب الرياضية، أو تلك التي يحتفظ بها كثير من المغاربة حول العالم، وفي التمسك بالروح الوطنية “تامغرابيت” رغم ظروف التهجير، لأنهم يعلمون علم اليقين أن الوطن بريء من سياسة نخبة فاسدة زهَّقت المواطنين من بلدهم، ويدركون أن العيب في المسؤولين عن إدارة شأن الوطن لا في الوطن نفسه.
هشام امساعدي، تيط مليل في: 05/09/2024