وصلت ظاهرة الاحتفالات ومناسبات التخليد في المجتمعات الإسلامية إلى حد من الكثرة وغاية من الانتشار تكاد تكون مزعجة ومكلفة في الوقت نفسه، إذ ما من شخصية تاريخية من نبي مرسل أو مصلح مجدد أو فاتح منتصر إلا أحدث له يوم مشهود يحضره القاصي والداني من المعجبين به.
ومع مرور الأيام وذهاب العلم وغربة الدين تنقلب هذه الاحتفالات والمناسبات إلى أعياد وشعائر تزاحم وتسامي في المشروعية والقدسية الأعياد والشعائر الدينية الثابتة في القرآن والسنة، بل وتفضل عليها في أحيان كثيرة مع الأسف الشديد.
ولا شك أن هذه الظاهرة محدثة ودخيلة على التاريخ والحضارة الإسلامية، لم تعرفها الأجيال المفضلة والمشهود لها بالخيرية، حيث اشتغلوا بالدعوة والجهاد في سبيل الله عن الاحتفالات والمهرجانات التي لا تنشئ عزة ولا تستعيد مجدا.
الفضائل لا تنكر والمزايا لا تحجب!
نعم إن فضائل الأسلاف الصالحين- رحمهم الله – وأمجادهم معروفة غير منكرة ولا مجحودة، وما صح منها مسطرة في ديوان التاريخ ومطبوعة على جبين الحضارة، غير أن الذي يغفل أو يتغافل عنه كثير من الناس أن الخلود مكتوب ومقدر للمبادئ والقيم وليس للأشخاص والذوات.
فكثير من الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام قتلوا في سبيل المبادئ الإيمانية والقيم الإنسانية التي كانوا يحملونها، وضحوا بمهجهم وأنفسهم لتبقي الإيمان والخير والعدل والفضيلة وغيرها من المبادئ والقيم، ليعطوا للناس درسا عمليا في بقاء المبادئ والقيم وذهاب حملتها والدعاة إليها مهما عظموا عند الله وعند الناس، وهذه القاعدة لم تستثن أحدا من السابقين ولا من اللاحقين، حتى خير خلق الله صلى الله عليه وسلم لما بلغ رسالة الله وأدى أمانته اختار الالتحاق إلى الرفيق الأعلى بعد أن خيره ربه سبحانه وتعالى، ولو شاء الله تعالى لعمره وأنظره إلى يوم القيامة.
طريقة أخرى في الاحتفاء بالعظماء وتخليد المناسبات!
وما أحسن طريقة القرآن وأنفعها في الاحتفاء بالعظماء وتخليد المناسبات سواء ما تعلق منها بالأشخاص أو بالأحداث، وسواء ما اتصل منها بالأفراد أو بالجماعات، فكم من نبي مرسل أو عبد صالح خلد الله ذكره في هذا السفر الجليل، وكم من حدث تاريخي في الماضي حكاه لنا وكأنا نراه رأي العين، ولكن ما هو أسلوب القرآن ومنهجه، وما هو هدفه وغايته في ذلك كله؟
إن التأمل الدقيق والتفكر العميق في قصص القرآن الكريم يهدي المرء إلى نتيجة مهمة وهي أن القرآن الكريم يركز في جميع قصصه على مواطن العظة والاعتبار، ولا يكاد يقف عند التفاصيل والجزئيات التي لا تفيد المتلقي إن أفاد كثيرا، حتى ولو تعلق الأمر بشخص عظيم أو بحدث جليل، ولعل هذا ما يفسر لنا إبهام القرآن الكريم لأسماء كثير من أبطال القصص وتواريخ وأمكنة الأحداث التي يتناولها، تلك الأمور التي يتبارى المؤرخون في تحديدها ويتعبون في تسجيلها كثيرا.
لنتدبر معا في بعض الشواهد من الآيات الكريمات التي يخبرنا الله فيها عن سير بعض عباده الصالحين،
قال تعالى عن نبيه نوح عليه الصلاة والسلام {إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (1) قَالَ يَاقَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (2) أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (3) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (4) قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا …} إلى آخر سورة نوح التي كلها عن دعوة نوح عليه الصلاة والسلام قومه إلى التوحيد، وعن منهجه الذي سلكه في دعوتهم وردهم عن الشرك، وما وجهوه به من الكفر والجحود والتعلق بالأسلاف، مما يستحق من الدعاة والمصلحين دراسة عميقة وقراءة دقيقة لاستخلاص ما فيها من فقه الدعوة ومنهج الإصلاح والتغيير، قال السعدي رحمه الله تعالى ” لم يذكر الله في هذه السورة سوى قصة نوح وحدها لطول لبثه في قومه، وتكرار دعوته إلى التوحيد، ونهيه عن الشرك، فأخبر تعالى أنه أرسله إلى قومه، رحمة بهم، وإنذارا لهم من عذاب الله الأليم، خوفا من استمرارهم على كفرهم، فيهلكهم الله هلاكا أبديا، ويعذبهم عذابا سرمديا، فامتثل نوح عليه السلام لذلك، وابتدر لأمر الله” [تيسير الكريم الرحمن، ص 888]
ولنتأمل في ارتباط قصة موسى عليه السلام بمبادئ التحرير ومقاومة الظلم والجبروت كما في قوله تعالى {وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ حَقِيقٌ عَلَى أَن لاَّ أَقُولَ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُم بِبَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ}[الأعراف: 105] وفي قوله عز وجل {فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى}[طه: 47]، وقوله تبارك وتعالى { هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (15) إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (16) اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (17) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى (19) فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى (20) فَكَذَّبَ وَعَصَى (21) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى (22) فَحَشَرَ فَنَادَى (23) فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24) فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى (25) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى }[النازعات: من 14 إلى 25 ] وهكذا في جميع فصول الملحمة التي خاضها موسى عليه السلام في مواجهة أكبر طاغية عرفه التاريخ، تلك الملحمة التي تناولها القرآن بأساليب متنوعة ولأغراض متنوعة تجمعها أصل واحد وهو الاعتبار.
وقال تعالى عن الفتية المؤمنة أصحاب الكهف {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (13) وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا (14) هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا…} [الكهف: 13 ،14 ، 15 ]، فالله تعالى في مطلع سورة الكهف يخبرنا عن فتية مؤمنة وقفوا أمام الباطل، وضحوا بزخارف الحياة الدنيا في سبيل العقيدة، دون أن يذكر لنا أسمائهم وأسماء آبائهم وامهاتهم، حتى المدينة التي كانت مسرحا لهذا الحدث العظيم لم تذكر في القصة، وإنما أخبرنا الله بما في القصة من مواطن الدروس والعبر والعظات، قال ابن عاشور رحمه الله ” وقد أشارت الآية إلى قصة نفر من صالحي الأمم السالفة ثبتوا على دين الحق في وقت شيوع الكفر والباطل فانزووا إلى الخلوة تجنبا لمخالطة أهل الكفر فأووا إلى كهف استقروا فيه فرارا من الفتنة في دينهم، فأكرمهم الله تعالى بأن ألقى عليهم نوما بقوا فيه مدة طويلة ثم أيقظهم فأراهم انقراض الذين كانوا يخافونهم على دينهم” [التحرير والتنوير، 15/ 261]
بين الاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه وسلم والاحتفاء بهديه.
أما إذا أردنا أن نطلع على ذكر خاتم الأنبياء والمرسلين في القرآن وما لرسالته الشريفة من آثار على البشرية جمعاء، فإن ذلك بلا ريب حديث يطول ويطول، بيد أن طوله لا يحول دون اقتباسات يسيرة نبرهن بها على أولوية الاحتفاء بهديه والاقتداء بسيرته على نصب الخيام وضرب الطبول، ومن الذبح والنحر في يوم مولده، ومن تلاوة الأمداح المطرية له صلى الله عليه وسلم والصلوات المحدثة عليه، بأبي هو وأمي.
فأول ما احتفى القرآن من ذلك ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام رضي الله عنهم من الإيمان بالله تعالى، قال الله عز وجل {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة: 285].
ونوه القرآن الكريم بما كان عليه رسول الله وصحابته الكرام من العبادة والجهاد في سبيل الله تعالى {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} [الفتح: 28].
وكذلك أشاد القرآن بمقاصد الرسالة الخاتمة – على صاحبها أفضل الصلاة والسلام كما في قوله تعالى {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ}[البقرة: 2 ]، فقد كانت بعثته وإخراج الأمة الخيرة الأمة الوسط الخيار انقلابا على الجاهلية بكل صورها وألوانها، لم يشهد العالم قبلها ولا بعدها نظيرا في مجال العقائد والأيدلوجيات، حيث تجسد أعظم المبادئ الدينية وأنبل القيم الإنسانية في حياة أفضل جيل من البشر عاش على كوكب الأرض، على أكمل المربين وأفضل المعلمين صلى الله عليه وسلم.
إن أصدق وصف لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من الهدى والخير للبشرية جمعاء أنه مظهر من مظاهر الرحمة الإلهية والفضل الرباني، قال تعالى {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ}[الأنبياء: 107]
ومن دلائل هذه الرحمة وتجلياته ذلك الكتاب الذي جاء به من عند الله هدى ورحمة، قال تعالى {وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [النحل: 64].
والطابع العام لمنهجه في التغيير والإصلاح كان الرحمة واللين {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ}[آل عمران: ١٥٩]
وصحابته بل وأمته من بعدهم أمة رحمة {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً}[الفتح: 29]
وأخيرا:
ألم يأن للحكام أن يحتفوا بكتاب الله وسنته فيحكمون الأمة بهما ويسوسون المسلمين على هديهما، ويرحموا رعاياهم، ويعدلوا في حكمهم ؟
ومتى يرث العلماء – وفقهم الله – عن الأنبياء – عليهم السلام – واجب التغيير ومهمة الإصلاح وأن يأخذوا بأزمة الشعوب التائهة في بيداء البدع والضلالات كي يرجعوا إلى الجادة مرة أخرى؟
وما منع الشعوب أن ترجع إلى ربها لتعبده ولا تشرك به شيئا، وتثوب إلى سنة نبيها لتتبعها وتتمسك بها وتتحاكم إليها، ويستأنفوا حياة إسلامية على هدى من الله ؟
بقلم الدكتور انجوغو امباكي صمب