رواية الإخوة كارامازوف .. منجم سيغموند فرويد لتحليل النفس البشرية.
بقلم: طارق بركاني
المال، الأسرة، الإرث، المرأة، الدين.. موضوعات اشتغل عليها دوستويفسكي ونسج منها رواية “الإخوة كارامازوف” التي اعتبرها سيغموند فرويد أعظم رواية كتبت على الإطلاق، وجعلها منطلقا مهما لتحليلاته النفسية.
فرويد يُشرّح شخصية دستويفسكي
اهتم فرويد بدستويفسكي وبروايته “الإخوة كارامازوف” من خلال بحث عنونه بـ”دوستويفسكي وقتل الأب” بدأ كتابته سنة 1926 ولم ينته منه إلا سنة 1928 بعد تردد طويل. هو نص يعالج موضوعات قتل الأب، عقدة أوديب، والإحساس بالذنب.. ربط فيه فرويد فكرة قتل الأب بفكرة التماثل معه؛ فالكره الذي يجعل الابن يرغب في قتل أبيه يرتبط عموما بإعجاب خفي تجاه هذا الأخير. إن الطفل يريد أن يأخذ مكان أبيه ليس فقط لأنه يكرهه ويريد إبعاده وإنما كذلك لأنه معجب به وبمكانته ويريد أن يأخذها. ويرى فرويد أن ما يجعل الابن يتراجع عن فكرة القتل هو الخوف من العقاب المتمثل في الإخصاء، وأن التراجع عن هذه الفكرة يولد إحساسا بالذنب لدى الطفل.
أسقط فرويد هذه المفاهيم والأفكار على الكاتب فخلص إلى أن دوستويفسكي يملك شخصية إجرامية بامتياز، ذلك أنه اختار لروايته شخصيات عنيفة، مجرمة، هدّامة وأنانية (دمتري، سمردياكوف، إيفان)، وعزز رأيه هذا بوقائع مرتبطة بسيرة دوستويفسكي: الإدمان على القمار والاعتداء الجنسي الذي اتهم بارتكابه.
لم ينفذ دستويفسكي مشروع قتل الأب شخصيا بل أوكله إلى شخصيات روايته. تفنن الكاتب في الجريمة، فهو لم يسند مهمة تنفيذها إلى المتهم الرئيسي في الرواية فحسب بل جعل كل أبناء الضحية – باستثناء ألكسي كارامازوف – يشاركون فيها، فالشهواني اللاهث وراء نزواته، والملحد الساخر، والمجرم المصاب بالصرع مذنبون بنفس القدر ما دام أنهم جميعهم قد تمنوا حدوثها وتقبلوها بعد وقوعها.
دوستويفسكي.. صانع التعايش بين الأصوات المتعارضة.
نتعرف في رواية “الإخوة كارامازوف” على شخصية إيفان كارامازوف، شاب في الثالثة والعشرين من عمره، متعلم، يكره والده والعيش في بيته، يرغب في الهروب من أسرته ومشاكلها. روحيا؛ يشك كثيرا في وجود خالق للكون وبذلك يعتقد أن الإنسان هو من خلق الشيطان على صورته هو. له مشكلات عقدية وفكرية يسعى دائما إلى حلها. كان ينتظر مقتل والده وأبدى تقبلا واضحا لموته.
على النقيض منه شقيقه ألكسي، راهب صغير، يرتدي ثوبا أسود طويلا، يعيش في الدير، يحب والده رغم مساوئه، يأتي لزيارته كلما طلب منه ذلك. يؤمن إيمانا عميقا بوجود الله والملائكة والشياطين، يعتقد أن الله هو خالق هذين الأخيرين، يحب أحد شيوخ الدير ويؤمن بالخوارق والمعجزات، يظن أن شيخه يمكن أن يشفي الفلاحين وأبناءهم من الأمراض. لا يعيش أية أزمة عقدية؛ فبمجرد إيمانه حلت جميع مشاكل روحه.
نجد أنفسنا هنا أمام شخصيتين متعارضتين، لكن ما يثير الانتباه هو قدرة الكاتب على مزج أصوات هذه الشخصيات المتعارضة داخل بناء فني واحد، هو لا ينحاز إلى صوت معين بل يترك كل صوت يعبر إلى أقصى الحدود عن آرائه ونظرته إلى محيطه وحياته. هذه الخاصية في إبداع دوستويفسكي هي ما أسماه ميخائيل باختين بالنمط “المتعدد الأصوات”. نمط جعله يعتبر الكاتب أحد أهم الروائيين المجددين في ميدان الشكل الفني.
الكاتب وأبطاله.. حيوات متقاطعة
تصف الرواية دمتري كارامازوف بالمبذر الكبير حينما يقع المال بين يديه، وهي صفة تنطبق على دوستويفسكي الذي خسر في مرحلة من حياته كل ماله بسبب إدمانه على المراهنات والقمار. لقد غذى الكاتب فنه من تجربته.
ينتمي دوستويفسكي إلى أسرة غنية؛ فوالده يملك ضمن ممتلكاته قرية بأكملها، وحين نقرأ الرواية نكتشف أن والد دمتري هو الآخر رجل ثري يملك قرية بأكملها.
حُكم على دمتري بالسجن مع الأعمال الشاقة في سيبيريا بسبب تهمة قتل الأب، وهو نفس المصير الذي لقيه دوستويفسكي بسبب آرائه وانتماءاته السياسية.
إذا كان دمتري يِؤمن بأن “الجمال لا وجود له إلا في الخطيئة والضياع” لذلك يعيش تيهه ويرتكب خطاياه غير نادم على كثير منها، فإن دوستويفسكي قد استطاع أن يستغل الخطيئة والضياع كتيمة لإبداع تحفة أدبية متميزة.
إن الصرع الذي عانى منه الابن غير الشرعي سمردياكوف والذي استغله لإخفاء جريمته، عانى منه كذلك دوستويفسكي الذي كان يلقب نفسه بالمصروع بسبب نوبات الصرع التي كانت تصيبه.
يظهر إذن أن هناك تشابها واضحا بين حياة الشخصيات وحياة الكاتب، لقد زرع الكاتب كثيرا من سماته وسلوكاته في شخصيات روايته.
كيف نقل دوستويفسكي حيثيات الفاجعة أسلوبيا؟
ينقل وقائع الرواية سارد منكشف يخاطب القارئ خطابا مباشرا، يعبر عن مشاعره تجاه الشخصيات، يعرف كل التفاصيل، يحكي القصة وهو يعرف نهايتها. هو سارد ينقل الأحداث دون أن يشارك فيها أو يؤثر في مسارها، يريحه الكاتب من حين لآخر من مهمته عندما يجعلنا نقرأ الرسائل التي يرسلها دمتري إلى النساء المرتبطات به عاطفيا.
وللغة الفرنسية حضور مهم في الرواية، فمواطنو الدرجة الأولى يطعمون كلامهم بعبارات وجمل فرنسية الهدف منها إظهار نبلهم وثقافتهم بل حتى مواطنو الدرجة الثانية يلهثون وراء تعلمها: الابن غير الشرعي يضع تحت وسادته في المستشفى كتابا لتعلم الفرنسية، لم ينس تعلمها رغم المرض والصرع. هو أمر مفهوم باعتبارها لغة العلم والثقافة والتحضر في زمن كانت فيه باريس مركز أوروبا.
كما أن الكاتب يستثمر تقنية الحلم لنقل هواجس الشخصيات ورغباتها الدفينة، هو وسيلة لاكتشاف نفسيات الشخصيات، ففي الجزء الثالث من الرواية نصادف حلم ألكسي بلقاء شيخه الذي مات في حفل يحضره المسيح. الحلم هنا يكسر قواعد الزمن ويكشف عن تقديس الشاب المتدين لشيخه.
كان باختين موفقا عندما قال إن “القص عند دوستويفسكي هو دائما قص بلا أفق”، تقرأ لدوستويفسكي ولا تتوقع ماذا سيحدث لاحقا. هو بارع في تكسير أفق انتظارك.
نجح دوستويفسكي في هذه الرواية في تصوير المجتمع الروسي في القرن التاسع عشر وما آل إليه من تفكك وتمزق، صور مجتمعا مشتتا يهرب أفراده من بعضهم، وكل همهم أن يخفوا ثرواتهم عن بعضهم، مجتمع يعيش جزء مهم منه البؤس في أكواخ حقيرة تثير رؤيتها في النفس الجهامة والبؤس. وكان هذا مقدمة ونبوءة لما ستعيشه روسيا في بداية ق20.
ويبقى الإبداع الأهم في الرواية هو قدرة دوستويفسكي على جعل الإنسان محور إبداعه؛ يحس قارئ الرواية أن هدف الكاتب ليس التعبير عن فكرة معينة بل خلق أبطال مستقلين قادرين على التعبير عن أفكارهم بحرية رغم الاختلاف أو الخلاف الواقع بينهم.