المغرب والحرب في غزة: معضلة المبادئ والمصالح.
بقلم: سعيد الصديقي.*
سيواجه المغرب تحديًا لإيجاد توازن بين الالتزام المبدئي بدعم الحقوق الفلسطينية، ومصالحه المترتبة عن الإعلان الثلاثي، والتعاطف الواسع مع القضية الفلسطينية، إذا استمرت الحرب لفترة أطول.
ملخص تنفيذي
يجد المغرب نفسه تجاه الحرب المستمرة في غزة بين مطرقة المصالح الجيوسياسية من جهة وسندان الضغط الشعبي والتزاماته التاريخية من جهة أخرى. اتخذ المغرب موقفا حذرا ومعتدلا، إذ أدان استهداف المدنيين، ودعا إلى وقف فوري لإطلاق النار، وشدد على احترام القانون الدولي الإنساني. وبالمقابل شارك عدد كبير من المغاربة في مظاهرات في مختلف المدن للتعبير عن تضامنهم مع القضية الفلسطينية وإدانة الهجمات الإسرائيلية على غزة. يهدف هذا المقال إلى استكشاف كيف يمكن للمغرب أن يحل هذه المعضلة بين المبادئ والمصالح، وإلى أي حد يمكن أن تعرض المسيرات الشعبية عملية تطبيع العلاقات بين المغرب وإسرائيل للخطر.
مقدمة
يجد المغرب نفسه اليوم في موقف دقيق تجاه الحرب بين إسرائيل وحماس، التي اندلعت في 7 أكتوبر 2023، لذلك يحاول المغرب اتخاذ مواقف حذرة، مستخدما لهجة معتدلة في بياناته الرسمية بشأن تطورات هذه الحرب، مركزا على إدانة استهداف المدنيين، والدعوة إلى وقف فوري لإطلاق النار وحماية المدنيين وإيصال المساعدات الإنسانية…
هناك ثلاثة عناصر أساسية تحدد موقف المغرب في هذه المرحلة: الالتزام المبدئي بدعم الحقوق الفلسطينية، ومصالح المغرب المترتبة عن الإعلان الثلاثي الذي وقع بين المغرب والولايات المتحدة وإسرائيل في 22 ديسمبر 2020، والتعاطف الواسع مع القضية الفلسطينية في أوساط الشعب المغربي الذي يعارض الكثير منه تطبيع العلاقات مع إسرائيل.
تساعدنا هذه العوامل المتضاربة في تفسير طبيعة تفاعل المغرب – ومعظم الدول العربية – الرسمي مع أحداث غزة حتى الآن. ويبدو أن المغرب سيواجه تحديًا حقيقيًا في الأيام القادمة في إيجاد توازن مناسب بين هذه العوامل الثلاثة إذا استمرت الحرب لفترة أطول، وأدت إلى مشاركة عدد أكبر من الجماهير في المسيرات التي تدين الحرب على غزة.
فكيف يمكن للمغرب أن يحل هذه المعضلة، وهل سيتكرر سيناريو 2002 عندما أدت الاحتجاجات الشعبية على السياسة الإسرائيلية تجاه الانتفاضة الثانية إلى إغلاق مكتب الاتصال الإسرائيلي في الرباط؟ وهل سيؤثر مثل هذا السيناريو على التطبيع الجاري للعلاقات بين المغرب وإسرائيل؟
المغرب وسياسة مسك العصا من الوسط
أعرب المغرب عن موقفه من من الحرب في غزة منذ اليوم الأول للهجوم المتعدد الأوجه الذي شنته حركة حماس ضد القواعد العسكرية والمستوطنات الإسرائيلية في المحيط الخارجي لقطاع غزة. واستخدم بيان وزارة الخارجية المغربية لغة معتدلة في بيانها حول الحدث. ورغم إدانته الصريحة لاستهداف المدنيين من قبل أي طرف، فإنه لم يحمل جهة معينة المسؤولية عن اندلاع هذه المواجهة الجديدة. وتجدر الإشارة إلى أنه لم تؤثر العلاقات الجديدة مع إسرائيل على علاقات المغرب مع الفصائل الفلسطينية، إذ لا يزال يحتفظ بعلاقات جيدة معها، بما في ذلك حماس، التي زارت قيادتها، وعلى رأسهم رئيس مكتبها السياسي حماس إسماعيل هنية، الرباط في يونيو 2021، وتمت استضافتهم في عشاء ملكي في قصر الضيافة بالرباط. وجدير بالذكر أن المغرب لم يواجه انتقادات حادة من الفصائل الفلسطينية، بما فيها حماس، بعد توقيعه الإعلان الثلاثي، مقارنة بدول عربية أخرى (مثل الإمارات والبحرين على سبيل المثال) عندما انخرطت في اتفاقات إبراهيم.
بعد أيام قليلة من اندلاع هذه الحرب الدائرة، دعا المغرب إلى عقد دورة استثنائية لمجلس الجامعة العربية على مستوى وزراء الخارجية بالقاهرة يوم 11 أكتوبر 2023. تضمن فحوى الكلمة التي ألقاها وزير الخارجية المغربي وشؤون ناصر بوريطة في هذه القمة التعبير عن التضامن مع سكان غزة، والتذكير بحقوق الشعب الفلسطيني في إقامة دولته المستقلة، والتحذير من التداعيات الإقليمية لهذه الحرب.
وفي أعقاب تصاعد المواجهات، ولا سيما بعد القصف المأساوي الذي تعرض له مستشفى المعمداني في غزة، والذي أدى إلى مقتل أكثر من 500 شخص، أصدر المغرب إدانة شديدة لهذا الهجوم. وأكد مجددا ضرورة الوقف الفوري للأعمال العدائية مشددا على وجوب احترام القانون الدولي الإنساني. ومع ذلك، لا بد من التأكيد على أن هذه المواقف لم تشكل تحولا جوهريا في السياسة العامة للمغرب تجاه الأحداث الجارية، كما أنها لم تكن مؤشرا على تحول في مقاربته تجاه إسرائيل على وجه التحديد.
وفي “قمة السلام” المنعقدة بالقاهرة في 21 أكتوبر 2023، حافظ وزير الخارجية المغربي على اللغة المعتدلة ذاتها، حيث لم يوجه انتقادات مباشرة لأي من أطراف النزاع. وبدلاً من ذلك، كرر الدعوة العاجلة لوقف التصعيد، مشددًا على ضرورة حماية المدنيين، وتسهيل إيصال المساعدات الإنسانية إلى سكان غزة، ومعارضة تهجير الفلسطينيين، وبدء “عملية سلام حقيقية“.
إن التحليل الدقيق للتصريحات الصادرة عن وزارة الخارجية المغربية ردا على الأحداث الجارية يكشف عن نهج متناسق، فعلى الرغم من تسارع الأحداث المركبة المرتبطة بهذه الحرب المتطورة، تمسك المغرب بموقفه الذي يمتنع عن تحميل المسؤولية لأي طرف في النزاع. فرغم تعديل المصطلحات والتعابير المستخدمة لتتناسب مع السياق المتغير وخطورة الصراع، فإن السمة الأساسية لموقف المغرب هي تجنب إلقاء اللوم على أي طرف بعينه حتى هذه اللحظة.
الجماهير تضع عملية التطبيع على المحك
أظهرت التظاهرات الشعبية التي تشهدها مختلف المدن المغربية منذ 7 أكتوبر 2023، ومن بينها المسيرة التي نظمت بالرباط يوم 15 أكتوبر 2023، أن الأغلبية الساحقة من الشعب المغربي تتضامن مع غزة، وتدين الاعتداءات الإسرائيلية. علاوة على ذلك، أكدت هذه الأحداث أن القضية الفلسطينية ومناهضة التطبيع لا تزال تشكل عناصر موحِّدة بين القوى السياسية المختلفة، وخاصة المعارضة الإسلامية واليسارية.
وقد أصدرت معظم الأحزاب السياسية، بما فيها تلك الموجودة في الائتلاف الحكومي الحالي، بيانات تضامن مع الفلسطينيين وأدانت الهجمات الإسرائيلية على غزة. إلا أن الحركات الإسلامية واليسارية تظل هي الأكثر نشاطا في حشد الرأي العام لصالح القضية الفلسطينية. وبالإضافة إلى المسيرات الشعبية، يستخدم المغاربة منصات وسائل التواصل الاجتماعي للتعبير عن التضامن ومشاركة الصور ومقاطع الفيديو لدمار الأحياء السكنية، والمدنيين، ومعظمهم من الأطفال، الذين لقوا حتفهم بسبب الغارات الجوية الإسرائيلية في غزة.
وبحسب الباروميتر العربي، فإن معظم المغاربة لا يدعمون تطبيع العلاقات بين المغرب وإسرائيل، ويعتبرون الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية يشكل خطرا كبيرا على الأمن الوطني. وقد أظهرت هذه الحرب أيضًا أنه على الرغم من وتيرة التطبيع التدريجية، فمن الواضح أن القضية الفلسطينية تظل أولوية قصوى ومحط اهتمام كبير لدى المغاربة. ومما بينته هذه الحرب أنه لا تزال هناك معارضة شعبية واسعة للتطبيع مع إسرائيل في كل الدول العربية، بما فيها المغرب، كما رأينا بوضوح خلال بطولة كأس العالم الأخيرة وأيضا في التظاهرات المؤيدة للقضية الفلسطينية في مختلف الدول العربية منذ اندلاع هذه الحرب الجديدة في غزة.
ويبدو حتى الآن أن تأثير هذه المظاهرات كان محدودا على الموقف الرسمي للمغرب. وعلى الأقل فقد أبدت السلطات تسامحا تجاه هذه المظاهرات، على عكس الأشهر السابقة عندما تم حظر بعض المسيرات المناهضة للتطبيع في الرباط. علاوة على ذلك، غادر موظفو مكتب الاتصال الإسرائيلي في الرباط في 18 أكتوبر 2023، بأمر من وزارة الخارجية الإسرائيلية عقب تصاعد الاحتجاجات ضد إسرائيل. لكن الحرب المستمرة في غزة قد تعزز بشكل كبير حملات مناهضة التطبيع والمقاطعة ضد إسرائيل في المغرب.
والجدير بالذكر في هذا الصدد أنه لا يوجد لوبي إسرائيلي في المغرب؛ وبدلاً من ذلك يمكن الحديث عن وجود أفراد فقط لديهم بعض المصالح. ويؤكد هذه الحقيقة أنه على الرغم من الضغوط التي مورست على المغرب خلال أشهر كثيرة للتوقيع على الإعلان الثلاثي، فإنه لم يفعل ذلك حتى الأيام الأخيرة من رئاسة دونالد ترامب، وبعد التوصل إلى صفقة جيدة: اعتراف الولايات المتحدة بسيادة المغرب على الصحراء الغربية. وعليه، لا يمكن اعتبار الإعلان الثلاثي بمثابة تأسيس لتحالف بين الدول الموقعة، بل يمكن فهمه من الجانب المغربي بالديناميكية الجيوستراتيجية في المنطقة المغاربية، وخاصة قضية الصحراء المغربية.
خاتمة
يجد المغرب اليوم نفسه تجاه الحرب في غزة بين مطرقة المصالح الجيوسياسية من جهة وسندان الضغط الشعبي والتزاماته التاريخية من جهة أخرى. ونظرا لعدم وجود مؤشرات على اقتراب الحرب من نهايتها، فإن المغرب سيظل تحت الضغط طالما استمرت الحرب. رغم أن المغرب اعتاد على اعتماد مقاربة واقعية وبراغماتية في مثل هذه المواقف المعقدة، فإن الجوانب الأخلاقية لهذه الحرب تشكل ضغطا كبيرا على صناع السياسة الخارجية المغربية، نظرا لأن التداخل بين الأخلاق والمصالح معقد للغاية في هذه الحالة.
ومع ذلك، يبدو حتى الآن أنه على الرغم من احتمال تباطؤ عملية التطبيع واحتمال تجميد بعض جوانب التعاون، مثل تأجيل قمة النقب التي كان من المقرر عقدها في المغرب، فإن هذا المسار لن يتوقف نهائيا. فقد وقع المغرب مع إسرائيل اتفاقيات مختلفة، بعضها أبرم برعاية أمريكية، ومن ثم فإن قطع العلاقات مع إسرائيل سيؤثر بشكل كبير على التزامات المغرب ومصالحه الناجمة عن هذه الاتفاقيات. ومع ذلك، إذا استمرت الحرب وتفاقمت آثارها الإنسانية أكثر، فقد يضطر المغرب إلى تجميد عملية التطبيع.
======================
* سعيد الصديقي
حصل سعيد الصديقي على الدكتوراه في القانون العام من جامعة محمد الأول بوجدة بالمغرب في مارس 2002، ويشتغل حاليا أستاذا للعلاقات الدولية والقانون الدولي بجامعة سيدي محمد بن عبد الله بفاس، وقد عمل بجامعة العين للعلوم والتكنولوجيا بمدينة أبوظبي بالإمارات العربية المتحدة من 2012 حتى 2019. نشر خمسة كتب من ضمنها كتاب باللغة الانجليزية بعنوان (عالم من الأسوار: بنية حواجز الفصل ووظائفها وفعاليتها) وكتاب (الدولة في عالم متغير: الدولة الوطنية والتحديات العالمية الجديدة). كما نشر أيضا العديد من الأبحاث في دوريات محكمة عربية ودولية في مواضيع تتناول القضايا المعاصرة (أسوار وسياجات الحدود الدولية، السياسة الخارجية المغربية، الهجرة الدولية، قضية الصحراء الغربية، الدولة-الوطنية، التصنيف الدولي للجامعات…). حصل سعيد الصديقي على بعض المنح الدولية وأهمها منحة فولبرايت لإجراء بحث بجامعة تكساس، ومنحة زميل بحث بكلية الحلف الأطلسي للدفاع بروما. كما حصل أيضا على الجائزة العربية للعلوم الاجتماعية لعام 2015.