هذا مقال للمفكر والسياسي المغربي الدكتور عبد الهادي بوطالب رحمه الله بعنوان :
“الاعتمــاد على اليهــــود المغاربة لترجيح كفة السلام حديث خُـرافة”.
“ضمن الدستور العرفي المغربي القديم للمغاربة حق الاحتفاظ بهُويتهم دون انقطاع لأن الهُوية المغربية تعني الارتباط الدائم بالعرش المغربي وولاء المواطن المغربي للجالس على العرش. وهي تمتنع عن التجريد منها، ولا يفقدها المغربي ولو انقطع عن الإقامة في المغرب. ويحتفظ بها قانونا ولو اكتسب جنسية وطن آخر. ويظل يُعتبَر مغربيا كامل المواطنة كلما عاد إلى وطنه وإن حمل هُوية أو أكثر خارج بلاده. كما أن الهُوية المغربية تقوم على وحدة المواطنة بصرف النظر عن الانتماء الديني أو العرقي.
من هذه المنطلقات القانونية اعتُبِر يهود المغرب مغاربة كاملي المواطنة مرتبطين ببلادهم برابطة الولاء الدائمة التي لا تقبل الانفصام. وقد ضمن النظام السياسي المغربي لهم حقوقهم. ولم يفرق الدستور المغربي بين المواطنين في ضمان حق الانتخاب والانتخابية. ومنذ استقلال المغرب في أواخر سنة 1955 تمكن اليهود المغاربة من ولوج الوظائف السياسية، فكان منهم في حكومات المغرب المستقل وزراء، ونواب في البرلمان، وأعضاء في المجالس المنتخبة. ويوجد اليوم في حاشية الملك محمد السادس واحد منهم برتبة مستشار لجلالته.
وعندمـا احتـل النظام الـنازي فرنـسا في الحرب العالميـة الثانية – وكان المغرب آنذاك تحت الحماية الفرنسية – عارض السلطان محمد بن يوسف (الذي أصبح عند الاستقلال يحمل اسم محمد الخامس) أن تطبق في المغرب على اليهود المغاربة التدابير العنصرية النازية التي طُبِّقت على يهود فرنسا في عهد حكومة فيشي، مثيرا نقطة قانونية هي كون يهود المغرب هم رعاياه الذين تلقى عليه مسؤولية حمايتهم والحفاظ على حقوقهم، وأنه لا يقبل أن يُشرِّع في حقهم ما يخل بواجب هذه الرعاية. وكان تشريع القوانين في المغرب إنما يتم بإمضاء السلطان على ظهائر (مراسيم)، طبقا لعقد الحماية التي تبقى فيها الدولة المحمية (المغرب) تمارس سيادة الدولة ذات الشخصية القانونية. وبمقتضى ذلك تحتفظ بحق التشريع الذي هو من اختصاص الدولة ومظهر من مظاهر سيادتها الوطنية.
هذا الموقف التاريخي الشجاع من لدن بطل التحرير المغربي رسخ ارتباط يهود المغرب بهُويتهم، وطوَّق عنقهم بمنة كبرى حيث حافظ سلطان المغرب على أرواحهم وأموالهم وأملاكهم، وشدهم أكثر إلى وطنهم، وربطهم أقوى ما يكون الرباط بملكهم. وكان هذا الموقف في الوقت نفسه مثار إعجاب اليهود عبر المعمور بالمثال التاريخي الذي أعطاه سلطان المغرب عن صموده وثباته في الاختبار العسير الذي نجح فيه واختزنه التاريخ في ذاكرته ضمن أحداث التاريخ الكبرى.
وعندما أقيمت إسرائيل فوق أرض فلسطين نادت الصهيونية العالمية اليهود للنزوح عن أوطانهم واستيطان الأرض العربية فلبى يهود المغرب نداءها من بين اليهود العالميين الذين جاءوا لاستعمار الأراضي الفلسطينية المحتلة، وأصبح يهود المغرب يكوِّنون اليوم 700 ألف يهودي مغربي، أي أكبر جالية يهودية وافدة على إسرائيل.
لم يجد يهود المغرب صعوبة في اجتياز حدود وطنهم الأصلي لأن المغرب كان ولا يزال من بين الأقطار العربية النادرة التي لا يخضع فيها سفر المواطنين إلى تأشيرة خروج. ويحصل فيها المواطن على جواز سفر بدون تعقيد من لدن إدارة الأمن الوطني. وقد تمت هجرة اليهود المغاربة إلى إسرائيل في غضون عدة سنوات لتبلغ العدد المشار إليه.
وكان كبار يهود المغرب يؤكدون أن اليهود المغاربة سيظلون أوفياء في إسرائيل لبلادهم الأصلية، وأنهم سيكونون دائما معبئين لنصرة السلام العادل لإنهاء مشكل النزاع العربي الإسرائيلي بما يعطي لكل ذي حق حقه، بل إن بعض السياسيين من اليهود المغاربة كانوا يُسرُّون للحُكْم بالمغرب بأن اليهود المغاربة النازحين إلى إسرائيل يمتلكون مفتاح حل مشكلة النزاع، وأنهم سيؤثِّرون بقوتهم العددية وبنخبتهم المتميزة على توجيه السلام وجهة الإنصاف والعدل الذي لا يُجحِف بحق فلسطين . وقد عشت مع الملك الحسن الثاني ظروفا ولحظات كان يتطلع فيها إلى أن يرى رعاياه في إسرائيل وهم يضغطون على المتشددين الإسرائيليين لترجيح كفة السلام العادل. كما كنت بجانبه عندما زار “إسحاق رابين” الرباط بعد الإمضاء بواشنطن على خطة السلام بينه وبين الرئيس عرفات وقال للملك متوددا :” إن جلالتكم تحكم في سبعمائة ألف إسرائيلي، وصوتكم فيهم مسموع، وأبصارهم مرتدة دائما إلى جلالتكم”.
وعندما وقع اختيار حاخامات القدس على حاخام مدينة فاس (المغربية) ليمارس مهمة الحاخام الأكبر بالقدس وجاء لاستئذان الملك الحسن الثاني وتوديعه أثناء مُقام جلالته بفاس استقبله بحضور أحمد رضا جديرة وحضوري، وأكد عليه في أن يبلغ عنه اليهود المغاربة بأنه ينتظر منهم أن يضغطوا من أجل سلام لا يُجحف بحق الفلسطينيين، وأن عليه – يقول جلالة الملك – أن لا ينسى أن القدس الشرقية أرض عربية محتلة”. فطمأن الحاخام جلالته على حسن سلوك رعاياه اليهود في إسرائيل. وقال بالحرف :” أمر جلالتكم مطاع، وسترى مني ومن رعايا جلالتكم الأوفياء ما يسركم”. وقبل يده وانصرف.
وقد كانت ظاهرة ضخـامة عدد اليهود المغاربـة بإسرائيل إحدى خلفيات ما قام به الملك الحسن الثاني من مساع مخلصة لحل قضية فلسطين بضغطه المتوالي على إسرائيل لتنقاد إلى خيار السلام العادل، وما قدمه للفلسطينيين من معونة وتشجيع سواء بوصفه ملك المغرب أو رئيس لجنة القدس.
لكن اليهود المغاربة بعد استقرارهم بإسرائيل ومساهمتهم في تسيير الحياة السياسية لم يكونوا في مستوى واجبهم الوطني كمغاربة وطنيين فانغمسوا في الأطروحة السياسية الإسرائيلية بل اندمجوا في صف المتشددين المعارضين باسم الدين للحق العربي.
ولْنذكر هنا أن وفدا من هؤلاء اليهود حضر إلى المغرب عندما كانت إسرائيل تتهيأ لإجراء الانتخابات على منصب الوزير الأول التي تواجه فيها باراك مع نيتانياهو، وكان الأول يلوِّح في حملته الانتخابية إلى أنه سيحقق السلام مع العرب، فنصح الملك الحسن الثاني الوفد المغربي الإسرائيلي بالتصويت لصالح نزعة السلام. لكن يبدو أن اليهود المغاربة لم يصوتوا جميعا لباراك الذي أظهرت نتائج الانتخابات – رغم نجاحه -أن فارق الأصوات بينه وبين نيتانياهو كان ضعيفا جدا.
كان المفـروض في الوزيـر المغـربي الأصـل ” ديفيـد ليفـي” الذي استقال من منصب وزير الخارجية في آخر الأسبوع المنصرم ليزيد باراك إحراجا أن لا يتزعم نزعة التعصب والكراهية للعرب والفلسطينيين وهو من مواليد المغرب حيث قضى شبابه بين الرباط والدار البيضاء، وخاصة وهو يعرف ما يعلقه ملك المغرب من آمال على يهود المغرب الإسرائيليين ليقوموا داخل إسرائيل بترجيح كفة السلام، وليناصروه – بوصفه رئيس لجنة القدس – على تغيير اتجاه إسرائيل المتشدد في موضوع القدس، لكن الوزير “ليفي” لم يقنع بدور المتشدد، وإنما أصبح هو التشدد نفسه. أليس أنه هو الذي هدد شعب لبنان عامة وأطفاله خاصة بالمحرقة النازية؟ أليس هو نفسه الذي رفض مرافقة وزيره الأول إلى “كامب ديفيد” لئلا يتورط فيما سماه هو بتنازلات باراك؟. وأخيرا اختار مناسبة رجوع باراك خاوي الوفاض من “كامب ديفيد” ليطعنه في الظهر ويستقيل ويفجر أزمة حكومية راهن بها على أن يدخل أمر المفاوضات في خبر كان. “ديفيد ليفي” هذا جاء إلى المغرب منذ أسابيع فقط بوصفه وزيرا للخارجية واستُقبِل من المغرب استقبالا حارا بل من بعض المسؤولين بالعناق والاحتضان والقبل، وتفقد بيته القديم ووصل رحمه بأقربائه الذين مازالوا بالمغرب وقال عن نفسه إنه من أنصار السلام ثم عاد توا إلى إسرائيل ليغتال السلام ببهلوانيته التي تميز بها.
وهكذا يبدو أنه خاب ما كان ينتظر من اليهود المغاربة كوطنيين مرتبطين بالولاء الدائم لبلادهم وأن التفكير الصهيوني طغى عندهم على الولاء الوطني، وأن الحديث عن الاعتماد عليهم لترجيح كفة السلام إنما هو حديث خُرافة”.