رد نقدي على الانتاج السينمائي الهابط والسافل
.بقلم: عزيز مردي.
القرآن يعطينا نماذج قصصية من خلالها يرسي قواعد اخراج ما هو واقع ويحبكه في مشاهد وقوالب فنية عبر مخيالنا للاعتبار والاتعاض. ويحدد مخرجات نقل الناس من لحظة الضعف والسقوط الى لحظة المعافاة والعودة السوية للاندماج في الحياة الاجتماعية، ففي التصوير الفني لقصة يوسف ، تُشغًِل كل لفظة َوجملة وآية شاشة مخيالنا، فتترأى لنا القصة باشخاصها واحداثها فتطوف بوجداننا لقطة من بعد لقطة ومشهدا من بعد مشهد، فنحن العاكس (ديطشاو) لذواتنا الشخوصٓ والاحداث، و نحن المتابعون بعمق أطوار القصة، و نحن المستوعبون في آن، لمخرجاتها التوعوية و التربوية، هكذا تجعلنا ايات القصص متتبعين من داخلنا ودواخلنا المشاهدٓ والوقائع لا متفرجين من خارجها.
ففي قصة يوسف عليه السلام وامراة العزيز يبدأ العرض من لقطة واقع لا زال يمتد في الازمان، لحظة الضعف الانساني، لحظة استحكام الغرائز، الى درجة انها تقلب كل العلائق الاسرية والاعراف المجتمعية في جنوح، وُفرت فيه كل ضمانات التستر لتفويت امكانية الضبط تلبسا بالجرم. يبدأ السيناريو لا لتسويغ الفعل الجرمي وتكريسه، وإنما لتهذيب الجانح وإشفائه عبر حلقات القصة.
وهكذا قوبل الجنوح للتحرش وتهيء المسرح للرذيلة والخيانة الزوجية، بعفة وسمو ووفاء، معززان بثلاث دفوعات قال تعالى: وَرَٰوَدَتْهُ ٱلَّتِى هُوَ فِى بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِۦ وَغَلَّقَتِ ٱلْأَبْوَٰبَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ ۚ قَالَ مَعَاذَ ٱللَّهِ ۖ إِنَّهُۥ رَبِّىٓ أَحْسَنَ مَثْوَاىَ ۖ إِنَّهُۥ لَا يُفْلِحُ ٱلظَّٰلِمُونَ) الاية 23
المرافعة الاولى: استندت إلى الاحتماء بالله والتعوذ به من هذه الدعوة الفاجرة ورفض الاستجابة.(معاذ الله)
المرافعة الثانية: اعتمدت على الاعتراف بفضل زوجها عليه ووفاءه له، وكان الاحرى بزوجة ان تكون أوفى لزوجها، واحرص على نظافة فراشه، من عبد اشتراه بثمن بخس،قال (إِنَّهُۥ رَبِّىٓ أَحْسَنَ مَثْوَاىَ) .
المرافعة الثالثة: التبصرة بعواقب الظالمين ظلم النفس بمجاراتها في هواها و الاعداد التام لمسرح جريمة الخيانة وهذا هدر النفس لكرامة نفسها اولا، ثم ظلم للزوج بخيانته، وايذائه (إِنَّهُۥ لَا يُفْلِحُ ٱلظَّٰلِمُونَ)..
ثم ينتقل التصوير لمشهد، التسابق الى الباب لاصرارها على الاغلاق، ولاصراره على الانسحاب من محيط التحرش و محاولة الإيقاع ( وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ ۚ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (25)
استعمال القوة بالجر من القميص، وأمام مفاجئة حضور الزوج، تم اسراع الدنس في اتهام الطهر والنقاء، وتكييف الملابسات كجناية مع اصدار الحكم، على وجه النفاذ المعجل.
ادلى يوسف عليه السلام بتصريح جوابي.. ولعل معرفة الزوج بطينة وحسن خصال المتهم جعلته يتريت، وكان بإمكانه تنفيذ العقوبة، فهو رجل دولة.
لكنه أحضر الى جلسة البث احد من أهلها، فشهد ولم يصرح، و الاشهاد غير التصريح، فالاشهاد الادلاء بقرائن مرجحة للبث في القضية، فكانت القرينة داَمغة(قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي ۚ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (26) وَإِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (27) فَلَمَّا رَأَىٰ قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ ۖ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28)
فتم حفظ الملف بعدم المتابعة (ابتدائيا) : (يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَٰذَا ۚ وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ ۖ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ (29)
لكن مع تدخل اطراف اخرى اتسع الخرق على الراقع، إذ اصبحت المسألة قضية رأي عام يمس شرف احد رجالات الدولة ( وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ ۖ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا ۖ إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (30)
وهنا في حضرة جموع النسوة إشارة خفيفة للحب والعشق، ساقها التصوير الفني في سياق الامتعاض و التشفي والاستهجان، ولم يجريها على لسان زليخة في خلوتهما، لان مقاربة السرد القصصي مقاربة علاجية تربوية تروم تعزيز العفة والسمو وتزكية ضعف النفس البشرية. فساق ذلك في سياق لا يترك آثارا جانبية، على عكس الاخراج السنيمائي المبتذل، المعتمد على نقل ولصق coupier _ coller لما شذ واقعا في القالب الفني فيقف عند فجور الخلوات وسقطات الكلمات لتصبح له انعكاسات في حياة الناس عبر شحن العقل الباطن بتلك المحتويات السافلة للمسلسلات السمجة.
لكن القرآن أجمل احداث التحرش والمراودة في: “غلقت الابواب،” “هيت لك” “وقدت قميصه من ذبر”، فلم يفتح ولو لقطة للتلذذ المرَضي والهوس الشبقي اثناء عرض المشاهد ولو لأصغر جزء من الثانية.
اخرج الملف من الحفظ لمواصلة المتابعة، فالقضية تجاوزت حدود أطرافها.
وواصلت المرأة اصرارها ونقلت ذلك من السرية الى العلنية. وجعلت من المتهم وسيلة للتبرير امام حشد النسوة لتخفيف حدة انتقادهن ولومهن (فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ ۖ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَٰذَا بَشَرًا إِنْ هَٰذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ (31).
و صرحت علنا باصرارها على الإيقاع بيوسف او سجنه. ولعلها تستند في جرأتها وقتها بانها ستنفذ احد الخيارين، واطمئانها وعدم خشيتها منهن ان يصبحن شاهدات لتبرئة المتهم، ولعل هذا كله سببه ما يعتري الكثيرين من أصحاب الجاه والنفوذ داخل دوائر السلطة.
قَالَتْ فَذَٰلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ ۖ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ ۖ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِّنَ الصَّاغِرِينَ (32)
وفعلا سجن يوسف في ظروف غامضة للمحاكمة الاستئنافية، وبقي في السجن نسيا منسيا. وحاول إيصال قضيته الى الملك عبر وسيط يعمل في المحيط الملكي لكنه فشل لنسيان الوسيط، الا ان وعد الله آت، فقد جعل من منام الملك، عامل توجيه الانظار الى السجن، فهناك سجين دون محاكمة، وهو خبير اقتصادي، فبعدما عرضوا عليه ما رأى الملك في المنام، فك تشفيرة رؤيا المنام بل واعطاهم الخطة الاقتصادية المنجية من سبع سنين من الجفاف والقحط، وطلب اعادة المحاكمة في درجة النقض (وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ ۖ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَىٰ رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ ۚ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50)
هنا تصرف يوسف بحكمة وذهاء لم يشكي له زليخة، وانما أثار حادثة النسوة في مسعى للبحث عن دليل البراءة فكانت النتيجة باهرة (قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ ۚ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ ۚ قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51) ذَٰلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ (52)
أدلى الشهود بشهادتهن واعترفت الظنينة بالمنسوب إليها من قبل يوسف، ، وسواء ارادت من قولها (لم اخنه بالغيب) التخفيف عن زوجها وهو في موقف محرج امام ملإ من رجالات الدولة بأنه لم يحصل الا مجرد المراودة والمعاكسة او الإقرار بأنها معترفة في غياب يوسف في السجن بجريمتها وأنها لم تنكر فعلتها، المهم، هنا أن مخرجات سيناريو القصة في صراع الضعف والدنس والطهر والعفاف والوفاء، النجاحُ الباهر للطرفين، الدنس والضعف صعد وارتقى من الهاوية بالاعتراف العلني الصريح وبالاقرار جازم بالعبرة الايمانية الرائعة، (وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ (52) والعفة والطهر والوفاء البريء المتهم في القضية يتألق ويعلو نجمه، فمن غياهب السجن الى وزارة المالية والاقتصاد وأصبح احد ركائز النظام من لحظتها، لإدارة البلاد.
هذا سيناريو قصة من واقع لكن بمنحى تربوي خال من المضاعفات الجانبية. وبحمولة تربوية اشفائية للنتوءات والجروح والخدوش النفسية وتجفيفها من الجنوح للاجرام.
اما هواة الرذيلة والانطواء على النصف الاسفل فلا يكتبون الا سيناريوهات، ولا يخرجون الا مسلسلات مشبعة بالسفالة و الرداءة، فيتنمر السفه والسخف على القيم الفاضلة، وتعطى جرعات من التجرؤ على الثوابت، وقواعد حفظ القيمة الاعتبارية و التقدير لشريك الحياة، وتُقحم المجتمع في مواجهات ساخنة من ردود الافعال تزيد من اتساع الهوة بين فئاته