زفرة على نزع كتب
كان الذي معي من الكتب يوم نفيت إلى هذه (الصحراء) كتاب عن مذهب داروين الإنجليزي في النشوء والارتقاء، كنت تناولته من خزانة الأخ الأستاذ الحمداوي يوم هجم علينا البوليس في داره، و به كنت أزجي الأوقات أوائل هذا الشهر الأول في المنفى، ثم أرادت الرحمة الإلهية أن ترسل لي كتاب (دلائل الخيرات) في اليوم الخامس من نزولي هنا على يد بعض الأعوان ، أسره إلي، ففرحت به غاية الفرح ، فأكببت عليه، حتى ختمت فيه 75 ختمة، وما أحلاه وما أمزجه بالروح، ثم وصلتني كتب أرسلت اليها، وهي (تفسير الكشاف) ، و(المصحف المجرد) و(تفسير الجلالين) ، فسلمها إلى المراقب اللطيف بلا تردد، فانفسح المجال أمامي للمطالعة، ثم أرسلت إلى كتب أخرى كأحكام ابن العربي المعافري والاتقان والمنجد ، فحين وصلت لفافتها إلى المركز . قال المراقب : أفي كل يوم كتب جديدة ؟ فقلت له : إن كل هذه الكتب دينية حول القرآن، ونظر الى المنجد فرأى من الصور ما عرف به أنه ليس من القرآن في شيء ، فقال : لا يمكن أن أبت أنا في هذا، فلا بد أن أرفع ذلك إلى من هم فوقي في (كلميمة) فاردد إلي حتى الكتب التي عندك، فعزم في ذلك، فبعثت إليه بتفسير الزمخشري المتكون من أربعة أجزاء، فلم يبق عندي إلا المصحف المجرد، فلا تسأل عما خامرني اليوم من جراء ابتعاد كتبي التي هي وحدها أنسي الوحيد، فلم أملك نفسي وأنا تحت سحابة الهموم الكثيفة أن قلت هذه القصيدة الآتية التي لا تمت في نظري إلى الشاعرية الحق بأي سبب، ولكن تلهيت وقتا بإنشائها، فالا تكن إلا نظماً مهلهلا، وهراء محضا ، فإنها على كل حال كانت لي نعم المرهم في هذا الوقت العصيب :
عني فما في من صبر ولا جلـــــــــــد فالكتب يا أيها الأقوام من كبــــــدي
إنى أرى من بصيص في الحياة ولم آخذ من الكتب ما أشتاقه بيـــــــدي ؟
كل له مدد تحلو الحياة بـــــــــــــه أفي حياتي بغير الكتب من مــــدد ؟
إني صبور، ولكن كيف مصطبـــر متى يحاول سل الروح من جســدي ؟
أضحي وأمسي ولا كتب تؤانســني وارحمتا لغريب الكتب منفـــــــــــرد
أوحدة من صباح للمساء؟ فيـــــــــا للناس للوحدة الفتاتة العضـــــــــــــد
أنى التفت أرى الأشجان هاجـــمة من كل صوب على طرائق قـــــــدد
والغم يأخذ من صدري تلابــــبــه حتى الهواجس قد حجرن من خلدي
أجثو كأني لا سمع ولا بصــــــر ولا فؤاد بأحداث طفت جـــــــــــــدد
ـ ـ ـ ـ ـ ـ
كتبي فلا عيش لي من دونها أو لم تدروا بأن ليس الا الكتب ملتحدى ؟(1)
فالكتب سؤلي وأمالي ومنتعشـي وأنس قلبي ومنها وحدها جلــــدي
فحبها خامرت مني بشاشتــــــــه ما كان بين شراييني وفي غددي (2)
بها مزاجي وتمييزي فإن ذهبـت تذهب بتمييز ما باليوم أو بغــــــد
حتى القريض يواتي منه أروعه ما بينها مثل زهر في الرياض ندى
فمذ تولت تولى الشعر يتبعهــــا فالآن خد نظم شوك، خذه منجــرد
نظم کدردی زیت إن تذقه ، وإن تنظر تجده كصخر في الفلا نضــد
وافی به غثيان يستثار فلــــــــم أطق له الرد إن يصدر أو أن يــرد
وقد يكون هراء النظم مأنســـــة لنازح عن سرور الكتب مبتعـــــد
10 شعبان 1372 هـ
(1) الملتحد : الملتجة
(2) جمع غدة بالضم : وهي العقد الصلبة في الجسم ليست بلحم ولا شحم ولا عصب ولا عظم ، وظيفتها افراز سوائل تنقى الدم وتحفظ توازن وظائف أجهزة الجسم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
محمد المختار السوسي، معتقل الصحراء، ج 1 ص 37/38