ثقافة وفنون ومؤلفاتمجرد رأي

المخرج الاحتفالي صانع أحلام وفقيه احلام

عبد الرحيم مفكير

فاتحة الكلام

النفس السابق من هذه الكتابة تفاعل معه كثير من المسرحيين، سواء من داخل المغرب او من خارجه، ولأن هذا الاحتفالية التي ابحث ـ نبحث عنها جميعا، ليست احتفاليتي وحدي، فقد اسعدني ان اجد من يفكر معي، ومن يقتسم معي هذا الحلم الفكري والجمالي، والذي له بالتاكيد بداية، ولكنه يظل في اعين وقلوب وارواح الفنانين الصادقين بلا نهائية، ومن مصر المحروسة وصلتني الكلمة التالية، وهي للمسرحي محمد النزيه، يقول:
(حقا المسرح الاحتفالي عند الأستاذ عبدالكريم برشيد تعلمناه كطلبة عرب و مصريين في أكاديمية فنون القاهرة على يد الأستاذ عبدالرحمن الشافعي الذى عرفنا من خلاله عالم المسرح الاحتفالي عند عبد الكريم برشيد، كنوع من أنواع الفرجة المسرحية
ونذكر دوما اسمع يا عبد السميع، التى قدمت في معظم بلاد المشرق رحم الله الاستاذ عبدالرحمن الشافعي، واطال الله في عمر الأستاذ عبدالكريم برشيد)
وهذا العبد السميع طاف كل العالم العربي، وله في كل المسارح وجود مختلف، وهو سفير هذه الاحتفالية التي تبحث في كل الأوطان عن وطنها الحقيقي، والتي تبحث في كل الأزمان عن زمنها الحقيقي، والتي تبحث في كل المدن عن مدينتها الفاضلة، ونحن في هذه الاحتفالية مقتنعون بان ما نبحث عنه موجود، واننا في حاجة دائمة لأن نواصل هذا السفر السندبادي بحثا عنه.. وهذا هو قدرنا الذي كتب لنا او علينا، وهذا هو دورنا في مسرحية الوجود، اي ان نبحث عن اجمل اللحظات في الوجود، والتي بمثلها العبد الاحتفالي
وهذا صوت أخر، من بلاد المغرب هذه المرة، وصاحب هذا الصوت لا يفوت اي نفس من انفاس هذه الكتابة من غير ان يقراه قراءة جادة وجديدة ومتفلسفة، وهذا الصوت هو صوت المسرحي عبد الإله ميموني، وفي التعقيب على الكتابة الأخيرة يقول ما يلي:
(بوح جميل و مليح ما خطته ريشتك الاحتفالية بخصوص
” المخرج الاحتفالي” و هو يؤثت فضاء الاحتفال والعيدية بعيدا عن الآلية والقوالب الجاهزة والمحنطة, المعلومة والمعروفة في الاتجاهات والمدراس المسرحية الموجودة في عالم المسرح منذ ولادته عند اليونان إلى وقتنا الراهن ..
وعلى حسب ما فهمت كفنان عبد الإله أن المخرج الاحتفالي يقوم بعملية ” تفجير ” النص المسرحي على خشبة المسرح لحظة الإبداع بشكل ارتجالي وعفوي دون الاعتماد على قوالب جاهزة سلفا ..
بمعنى آخر المخرج الاحتفالي أثناء العرض المسرحي المقدم للجمهور يعيد كتابة ” النص المسرحي “؛ بصريا، جماليا، فلسفيا، صوفيا، إبداعيا، ارتجاليا .. طبعا بلغة الجسد والأضواء والظلال و المؤثرات التقنية والفنية .. وأيضا بروح التحدي ..)
المخرج الذي يحاكي الحياة:
والمخرج، في الرؤية الاحتفالية، ليس مجرد تقني، مهمته هي ان يشتغل على الفضاء المسرحي كما يشتغل اللاعب على رقعة الشطرنج، وان يكتفي بان يحرك القطع المادية، وان يحرك الأجساد الحية بذكاء، وان يعطي اي شيء من رؤيته ومن عقله ومن وجدانه ومن روحه ومن خياله ومن ذاكرته ومن ثقافته ومن تاريخه ومن وعيه الباطن..
والمخرج في المسرح الاحتفالي هو اساسا حكواتي بدرجة مهندس افكار، وبدرجة عالم اسرار، وبدرجة فقيه ارواح، وبدرجة حاكم حكيم، وهو في حكيه يحتكم إلى نص شعري، شفهي او مكتبوب، وهو لا ياتي باي شيء من عنده، وكل شيء يأتيه من عيشه ومن مشاهداته ومن علاقاته ومن ذاكرته ومن خياله، وهو فعلا صانع، وهو في صناعته يركب العناصر القديمة، او يعيد تركيبها بشكل تكون فيه اكثر جمالية واكثر اقناعا واكثر إمتاعا، وفي هذا المعنى يقول الحكواتي في احتفالية ( شكوى المهرج الحكيم) ما يلي:
(نعم أنا صانع ومبدع.. في الحدود التي يسمح بها النص طبعا، وتسألون صانع ماذا؟
انا صانع أحلام ومروض أحلام وتاجر أحلام وفقيه أحلام وعالم أحلام في سيرك الأحلام، وما هذا العيش إلا أحلام في أحلام في أحلام حتى ينتهى هذا المنام.. تسألون متى ينتهي، وأقول لكم ليته لا ينتهي ..
( تصدح موسيقى السيرك من جديد)
آه، نسيت أن أخبركم بأن هذا السيرك له اسمان: الأول هو سيرك الأحلام
والثاني؟
والثاني هو سيرك الأوهام..
وبين حد الأحلام وحد الأوهام أعيش أنا، وتعيش معي كل حروفي وكلماتي وعباراتي وأسمائي ومخلوقاتي العجيبة، والتي استعرتها من خالقها الحقيقي، وأكون سعيدا يا أحبتي لو أستطيع أن أقتسم كل شيء معكم، أقتسم معكم الأحلام والأوهام)
هو حكواتي بدرجة مخرج، او هو مخرج مسرحي بدرجة حكواتي، وهو حكواتي من سلالة امه الحكواتية الأولى شهرزاد، قاهرة الظلم و الاستبداد بسحر الكلام، وهل هناك سحر اكبر وأخطر من بلاغة الكلام؟
هذه الحكواتية المعلمة والملهمة، هي التي ياتينا صوتها من الغيب او من اللامكان، ليقول لكل فنان ولكل حكواتي ولكل كاتب، وان يبلغ كل واحد بالرسالة التالية:
(كن صادقا في القول والفعل، وفي الحلم والوهم، وعش مع الناس في زمن الناس، وتحدث إلى الناس بلغة الناس في كل ما يهم الناس..
(كان هذا صوت جدتي شهرزاد الأولى، المرأة التي قهرت الطغيان بسحر الكلام، والتي علمت الإنسان بأنه لا سلطة تعلو فوق سلطة الحكي والكلام)
ووجود مخرج مسرحي، يعرف شيئا في (علم) الصور، ولا يفقه اي شيء في بلاغة الكلمات والعبارات، لا يمكن أن يكون مخرجا حقيقيا ابدا
الإخراج في درجة السحر:
وهذا الفنان، الصادق في قوله وفعله، وفي فنه وفكره، وفي حلمه، هو الذي يبحث عنه الاحتفالي دائما، سواء في مسرحه الوجودي إو في مسرحه الإبداعي ايضا، وهو الفنان الذي يعيش قلق السؤال، ويحيا سؤال القلق بشكل دائم ومتجدد
ونعرف ان جدلية الداخل والخارج، تقابلها وتتقاطع معها جدليات أخرى كثيرة جدا، من بينها جدلية الكائن والممكن، وجدلية المحتمل والمحال، وجدلية الآني اليومي والآتي المستقبلي، وجدلية المحسوس والمتخيل، وجدلية الحلمي والوهمي، وانطلاقا من درجة التفسير الأسطوري وصلنا إلى التفسير العلمي، ومن الحلم بالمستقبل ظهر علم المستقبليات، وقد يكون هذا العلم مؤثثا بكثير من التصورات والتخيلات والفرضيات، ولكنه علم مع ذلك، علم من العلوم الإنسانية التي لا يمكن أن تستقيم إلا بالحلم الإنساني وبالحس الإنساني وبالحدس الإنساني وبالذوق الإنساني وبالعشق الإنساني، وفي مثل هذا المعنى يقول إدغار موران ( لكن الدراسات المستقبلية أنشأت مستقبلا خياليا انطلاقا من حاضر مجرد. لقد حل محل المستقبل، لديها حاضر مدعوم، مسموم بالهرمونات، والأدوات القصة المبتورة البائرة التي استخدموها في ادراك الواقع وتصوره اعمتهم كما يمكن، وليس فقط عما لا يمكن التنبؤ به)
وهذا الحاضر المدعوم بالهرمونات، بحسب تعبير إدغار موران، هو الذي لا يثق فيه الاحتفاليون، لأنهم يعرفون أن شحمه مجرد ورم، بحسب تعبير أبي الطيب المتنبي، ومع ذلك، فإن هذا الاحتفالي يؤمن بأنه سوف يموت وفي نفسه شيء كثير من الأحلام ومن العوالم التي لم يعرفها، ولم يصل إليها.
وهذا الواقع اليومي، بكل وقائعه وصوره الظاهرة و الخفية، كيف ان تراه العين الاحتفالية؟
وكيف يمكن ان تحياه الروح الاحتفالية؟
وكيف يمكن ان تظهر صورته الحقيقية في العين الاحتفالية الجوانية، والتي هي عين عاشقة للجمال والكمال والمطلق وللمتعالي؟
جوابا على هذه الأسئلة يقدم الاحتفالي الصورة المرعبة التالية عن الواقع الجديد، والتي اختفت فيه مدنية المدنية، وحلت محلها صورة الغاب الجديد، والذي هو اليوم غاب بغير أشجار، ولكن شريعة الغاب مازالت تحكمه.. هذا الغاب المقنع بقناع عمراني متطور هو الذي ( أصبح يزحف على العمران المادي والبشري في المدينة، وأن نزعة التقليد الحيوانية قد انتصرت على روح التجديد الإنسانية، وأن الغريزة المعتقلة، بحيوانيتها ووحشيتها في مجال الفن والأدب والصناعة، قد حلت محل العقل البشري الواعي والحر والمستقل والمسؤول، وأن الراي العام اليوم، في ظل الأساطير الجديدة والمعاصرة، قد أصبح غولا جديدا؛ له ملايين الرؤوس فعلا، ولكنه (بعقل) واحد أوحد، وأن الأصل في ها العقل أنه لا يفكر، وأنه مجرد جهاز آلي يلتقط فقط ما يذاع وما يشاع على الهواء، ومع وجود هذا الراي العام ظهر الذوق العام، وظهر الحس العام، وظهر النموذج العام، وظهر الزي الفكري العام، وبهذا أصبحت الخصوصية الذاتية معرضة للإلغاء و الإقصاء) وقد تكون البوم، وفي ظل ما يسمى بالذكاء الاصطناعي، معرضة للانقراض والفناء التام، ونحن لا ندري. او لا نريد ان ندري..
هناك خلل إذن، بين ما نريده وما يراد لنا، وبين قيمة الأشياء في ذاتها، والقيمة التي يعطيها السوق، ويعطيها التجار والسماسرة في هذا السوق، في هذا العالم الخارجي الخارجي، والذي اصبح يسكننا ويقيم بداخلنا، بدل ان نسكنه، وان نحافظ فيه على حريتنا وعلى عقلانيتنا وعلى استقلالية قراراتنا المختلفة
وفي هذا الواقع الاستثنائي يحتاج الإنسان إلى ملكات استثنائية، وإلى حواس فوق وافعية، وما فوق طببعية، وكل شيء بالنسبة للاحتفالي المفكر والمبدع يبدأ (من عين استثنائية، عين رأت ما رأت، ومن أذن مرهفة سمعت ما سمعت، ومن قلب كبير وعى ما وعى، ومن يد ساحر كتبت ما كتبت، ومن ذاكرة حية سجلت ما سجلت، وأيضا، من نفس إنسانية رقيقة وشفافة، نفس استغربت أمام كل غريب، واندهشت أمام كل مدهش)
وهذا الاحتفالي المتمرد، في تفاعله الصدامي مع الواقع والوقائع، وكما يقول عنه ذ.عبد النبي داشين ـ (عدته القلق الأنطولوجي الذي لا تمنحه الفرصة للتصالح مع العالم الذي يضيق به كل يوم، والذي يدفعه لجعل الكتابة تمرينا مستمرا في تطويع الواقع الحرون)
شعرية الواقع قبل شعرية الكلمات:
هذا الكائن الاحتفالي لا وجود له، في كل حياته إلا الشعر رالشعرية، وهو بهذا مخلوق شاعر، والشعر عنده أكبر من الكلمات وأخطر من العبارات، وهو أساسا رؤية ورؤيا، وهو حالة وجود يسكنها الوجد، وفي هذا المعنى يقول هذا الاحتفالي ( لقد عشت الشعر، واعتبرت حياتي قطعة شعر، واعتبرت أن هذا الشعر الذي في الوجود وفي الحياة وفي الطبيعة، أهم وأخطر من الشعر الذي في الكلمات وفي العبارات وفي المدونات، ولأنني اقتنعت بأن هذا الشعر المتكلم وحده لا يكفي، فقد عشقت الموسيقى أيضا، ولأنني رأيت أن هذه الموسيقى وحدها لا تكفي، فقد عشقت فن الحكي والمحاكاة أيضا، واقتنعت بأن كل الحقول المعرفية ـ وحدها ـ لا تكفي، وبأن كل الأجناس الأدبية والفنية ـ وحدها ـ لا تكفي أيضا، ولهذا فقد بحثت عن دنيا أخرى جديدة، دنيا تتعايش فيها الفنون والآداب والعلوم والمعارف، ويحضر فيها الفن إلى جانب الفكر، ويحضر فيها العلم إلى جانب الصناعة، ووجدت أن هذه الدنيا الأخرى تسمى المسرح، وقد دخلتها دخول العاشقين والمندهشين والحالمين، ولم يكن ممكنا سوى أن أتوه في شعاب هذه الدنيا، ولا أخفيكم أنني قد استعذبت هذا التيه الجميل والنبيل، وأنني قد استبدلت عالم الأشخاص الواقعيين بعالم الشخصيات المسرحية المتخيلة، ولا أخفيكم أن رفقة هذه الشخصيات المتخيلة أجمل من رفقة كثير من رفاق السوء)
وشخصية الشاعر، في الإبداع الاحتفالي، هي شخصية أساسية ومحورية، ويمكن أن نقرأ بعض عناوين هذه المسرحيات لنجد أنفسنا أمام الأسماء الشعرية التالية : عنترة ، ابن الرومي ـ امرؤ القيس ـ المتنبي ـ عبد الرحمن المجذوب، وما يميز هذا الشاعر الاحتفالي هو أنه مسكون بحالة غريبة تسمى الحمى، وأنه لا شعرية ولا شعر بدون عبقرية هذه الحمى، وبدون الهذيان الذي يأتي معها، ويمضي ساعة تمضي وتختفي، وعن هذه الحمى الخلاقة، يقول شخص الحكيم في (الرحلة البرشيدية) ( حمى الجسد دليل على وجود اختلال في هذا الجسد، وحمى الروح دليل على وجود اختلال في هذا الوجود)
وبخصوص هذه الحمى التي تصيب الوجود، يقول الاحتفالي (وهذه الحمى الثانية هي من نصيب المبدعين الخلاقين ومن نصيب المفكرين والشعراء والفنانين الصادقين، والذين قد تصيبهم فوضى العالم واختلال النظام في الوجود والموجودات بهذه الحمى الخلاقة)
وهذا الاحتفالي هو شاعر وحكيم، وهو ساحر وعراف، وهو حكواتي وكاتب عمومي من هذا الزمان، وفي مرات كثيرة يمكن أن يكون حكواتيا أيضا، ويسعد هذا الحكواتي الاحتفالي أن يحكي، وأن يحاكي حيوات الناس في عالم الناس، وأن يكون كل ذلك بالكلام الصادق، وهو في هذا لا يشبه صاحبه (أبو الكلام) والذي قال لي ذات لقاء افتراضي في ( الرحلة البرشيدية) لقد قال (ربحت من الصمت أكثر مما ربحت من الكلام، وإذا كان تجار الكلام يربحون قليلا، فإن تجار الصمت يربحون كثيرا جدا)
وبالنسبة للاحتفالي الصادق، فإن مثل هذا الصمت الجبان خيانة، او هو إعاقة أخلاقية اكثر منها إعاقة جسدية
وهذا الاحتفالي الشاعر هو من يعتبر أن هذا الوجود، في أصدق وأسمى درجاته، لا يمكن أن يكون إلا قصيدة شعر، أو هو ملحمة شعرية، أو هو دراما شعرية، وهو في هذا الشعر عاشق يحب الكلمة وسخرها وبلاغتها، ابتداء من أول كلمة مؤسسة للخلق، والتي هي كلمة (كن) إلى آخر كلمة في كل المعاجم الكائنة والممكنة الوجود، والتي يعترف الاحتفالي بأنه لا يعرفها كلها، وهذه الكلمة هي ( الكلمة التي لها مبنى ومعنى، والتي لها محرك وطاقة، وأرى أن الأجساد الناطقة أحسن من الأجساد الصامتة والخرساء والصماء)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى