مجرد رأي

قفازات للمستعمِر..أبناء المهاجرين في قلب السلطة الأوروبية: معكم ضد بلادنا!

فؤاد غربالي

قفازات للمستعمِر..أبناء المهاجرين في قلب السلطة الأوروبية: معكم ضد بلادنا!
عنصريون، قساة، وأكثر لؤماً على أبناء بلادهم الأصلية من المستعمِر نفسه. من كيمي بادينوك إلى بريتي باتيل ورشيدة داتي. لماذا يصبح أبناء المهاجرين في بلاط السلطة الأوروبية أدوات قمع؟

فازت كيمي بادينوك، وزيرة التجارة البريطانية السابقة من أصل نيجيري، برئاسة “حزب المحافظين” البريطاني في تشرين الثاني/نوفمبر 2024، متغلبة على منافسها روبرت جينريك (المتزوج من إسرائيلية)، لتصبح بذلك زعيمة المعارضة الرسمية أمام زعيم “حزب العمال”، كير ستارمر.
لكن الذي يهمنا هنا، ليس فوز بادينوك، بل دعمها اللا مشروط لــ “إسرائيل”. إذ صرّحت أن “إسرائيل” أظهرت “وضوحاً أخلاقياً في التعامل مع أعدائها”، خلال العدوان على غزة ولبنان. وأضافت أنها “ستهنئ رئيس الوزراء (بنيامين) نتنياهو” على تعامله مع “أعداء الغرب”.
وقالت قبل انتخابها: “إذا أصبحت زعيمة لحزب المحافظين، فسأستمر في تعزيز علاقاتنا مع إسرائيل، واستئصال ظاهرة معاداة السامية المأساوية في المملكة المتحدة. وسنكون مخلصين لقيمنا”.
قد تبدو هذه المواقف المعادية لشعوبنا مفهومة حين تصدر عن مسؤولين أوروبيي المولد والنشأة، لكنها تصبح “غريبة” حين ينطق بها مسؤولون من أصول مهاجرة، مثل كيمي بادينوك، التي تحمل في عروقها “دماء نيجيريا”.
ولمن لا يعلم، فإن نيجيريا تعرضت لاستعمار بريطاني قاس منذ العام 1807 وفرضت عليها “الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس”، نظاماً اقتصادياً استعمارياً عمّق من تخلف البلاد وحوّل شعبها إلى “مجموعة من العبيد” الذين استخدموا في الأعمال القاسية مثل مشاريع السكك الحديدية والمزارع.
وبريطانيا، ككل القوى الاستعمارية، خلّفت تاريخاً قاتماً في قمع الثورات المحلية ضد الاستعمار، مثل حركة المقاومة التي قادتها “مملكة إيبو” في القرن العشرين، علاوة على نهب بريطانيا الممتلكات الثقافية للشعب النيجيري، كما تظهر قطع وآثار مملكة بنين المشهورة.
من المؤكد أن بادينوك ليست وحدها من تتوخى خطاباً معادياً لشعوب “عالم الجنوب”، رغم أن أصولها “جنوبية”. فقد سبقها إلى ذلك كثيرون، كرشيدة داتي، وزيرة العدل الفرنسية من أصول مغربية في عهد نيكولا ساركوزي، والتي دافعت بقوة عن سياسات الهجرة التي تريدها فرنسا ضد المهاجرين.
وكذلك الأمر بالنسبة إلى بريتي باتيل، وزيرة الداخلية البريطانية السابقة من أصول هندية، التي تزعمت سياسات صارمة ضد الهجرة أثناء فترة “بريكست”، بما في ذلك خطط ترحيل المهاجرين وطالبي اللجوء إلى رواندا.
حالة من الاستلاب النفسي
يعيد المسؤولون من أصول مهاجرة، على غرار بادينوك، إنتاج السياسات الاستعمارية وترسيخها في الخطاب والممارسة. الأمر الذي يدعونا إلى التفكير في هذه المسألة من زاوية ما بعد كولونيالية، كتلك التي يذهب إليها كل من فرانز فانون وألبير ميمي وآخرون، الذين درسوا تأثيرات الكولونيالية على البنية النفسية للأفراد والمجموعات التي تعرضت للاستعمار، أو أبناء المهاجرين الذين ولدوا في أوروبا وتربوا في “أحيائها الصعبة” والفقيرة.
يرى فانون في كتابه الشهير “بشرة سوداء، أقنعة بيضاء”، أن الأفراد من أصول مستعمَرة، أو من خلفيات مهاجرة، غالباً ما يعيشون حالات استلاب نفسي. إذ كثيراً ما يسعون إلى أن يصبحوا مقبولين في مجتمع الاستقبال (مجتمع المستعمِرين)، عبر تكيّف هويتهم وإعادة تشكيلها وفق مقتضيات السردية الاستعمارية بوصفها خطاباً مهيمناً.
هكذا يغدو الخطاب الاستعماري، كخطاب مبني على علاقات القوة والهيمنة، بمنزلة قناع الثقافة الاستعمارية، الذي يسمح لأبناء المهاجرين الذين وصلوا إلى السلطة للاعتراف بهم والقبول بهم لدى الدوائر المتنفذة.
ويتم ذلك طبعاً على حساب إقصاء وتهميش جماعات المهاجرين الأصلية، ما يجعلهم “يتماهون مع المعتدي”، بعبارة فانون، من خلال تبني أفعال المستعمِر وخطابه كآلية دفاع نفسي.
ويعتقد هؤلاء أنهم بخطاباتهم المتطابقة مع النظرة الاستعمارية يحصلون على نوع من القوة والتقدير على نحو يمكنهم من تجاوز عقدة الشعور بالنقص، وهي عقدة راسخة لدى بعض أبناء المهاجرين من الجيلين الثاني والثالث التي رسختها خطابات العنصرية.
وكذلك أيضاً سياسات الاستبعاد الاجتماعي من الناحية الاقتصادية والثقافية، ما يجعل الأفراد من أصول مهاجرة يدخلون في ديناميكية “اندماج عكسي”، فيصبح الفرد منهم أشد قسوة من المستعمِر نفسه، تجاه جماعته الأصلية سواء كانت عرقية أو دينية، وذلك في محاولة منه لتعزيز موقعه داخل السلطة.
وهنا، كما يجادل فرانز فانون، بالقول إن الاستعمار لا يعود مجرد هيمنة فحسب، بل عملية بناء لنفسيات خاضعة تمكّن الخطاب الاستعماري من إعادة إنتاج نفسه عبر المستعمَرين السابقين وأبنائهم من المهاجرين الذين يتحولون إلى “اليد القاسية” للاستعمار الجديد.
يحصل هذا بعد أن عاش أبناء المهاجرين، وفق منظور ألبير ميمي، حالة من التمزق الهوياتي التي كثيراً ما تنتهي بهم إلى التخلي عن هويتهم الأصلية، وتبنّي قيم الاستعمار وسياساته، حيث تبرز الحاجة الدائمة لدى هؤلاء المستعمَرين القدامى إلى ضرورة إبراز التفوق على مجتمعاتهم الأصلية.
هذه تحديداً الغاية الرئيسية لسياسات إدماج المهاجرين التي تتبناها كثير من الدول الغربية والتي لا ترتبط بإدماج اقتصادي، بل بإعادة تشكيل هويات المهاجرين، على نحو يتوافق مع خطاب الهيمنة. هكذا يندفع أبناء المهاجرين أحياناً إلى إعادة إنتاج خطاب يسم مجتمعاتهم الأصلية بالتخلف والبربرية وإنتاج ممارسات عنصرية ضد المهاجرين الجدد.
تناقضات مواسم الهجرة إلى الشمال
حين نقرأ رواية السوداني الطيب صالح “موسم الهجرة إلى الشمال”، يمكن أن نجد فهماً روائياً عميقاً لتأثير البنى الثقافية للاستعمار على هوية الأفراد. حيث تظهر حالة التماهي مع الاستعمار كرغبة ومحاولة للانتقام.
نقرأ عن بطل الرواية مصطفى سعيد الذي يسافر إلى بريطانيا محاولاً السيطرة على المجتمع الغربي عبر تأكيد فحولة منتهكة، من خلال ربط علاقات عاطفية يغلفها بنزعة انتقامية تعكس ألماً من الاستعمار. لكن بدلاً من الانتقام المباشر يصل سعيد إلى حالة تماه مع ثقافة المستعمِر.
إنها حالة التمزق التي تؤدي إلى “انتقام عكسي” كما نرى في رواية الطيب صالح، وهي نفسها حال من يتبوأ مسؤولية من أصول مهاجرة. إذ لا يتورعون عن تبني سياسات استبدادية أو استعمارية تجاه مجتمعاتهم الأصلية. الأمر الذي يجعلهم في حالة فصام مزدوج يتداخل فيه الولاء للمستعمر والتخلي عن الهوية الأصلية.
أبناء المهاجرين كرافعة للشعبوية في أوروبا
تعيش أوروبا والغرب عموماً حالة من القلق المتزايد والتوعك المرتبط بالأزمات الاقتصادية، وتسارع التغيرات القيمية والاجتماعية التي أفرزتها الديناميكية القاسية لحركة العولمة، علاوة على التدفقات الكثيفة للمهاجرين الهاربين من جحيم النزاعات والتحولات المناخية.
من ناحية أخرى، تعيش جلّ المجتمعات الغربية “خيبات الديمقراطية” التي طالما حملت وعوداً تبيّنت حدودها في الواقع، وهو ما أدى إلى تآكل الثقة بها وازدياد الشعور بخيبة الأمل لدى المواطنين وهو أمر، مثلما عملت دومينيك شنابير، على توضيحه في كتابها الصادر حديثاً بعنوان “الخيبة الديمقراطية”، ترى أن الخيبة المذكورة إنما هي نتاج وعود لم تتحقق وارتفاع سقف التوقعات حول العدالة والمساواة.
ومع تزايد التوترات الاقتصادية والاجتماعية، يجد العديد من الأفراد أنفسهم يبحثون عن حلول سريعة ومباشرة. من بين هذه الحلول ما تقدمه التيارات الشعبوية التي تحاول سد الفراغ عبر تبني خطاب عاطفي واحتجاجي ضد النخب والمؤسسات القائمة، فيعتمد قادتها في أوروبا مثلاً على تحفيز مشاعر الاستياء والتخلي عن التعقيد لصالح إجابات مباشرة وبسيطة تتجاهل عمق التحديات الاجتماعية والسياسية.
في هذا السياق نجد أن المسؤولين من أصول مهاجرة هم جزء من هذا الخطاب الشعبوي الذي يغريهم تبنيه، ليس فقط للحصول على الدعم السياسي من القاعدة الشعبية المحكومة بمشاعر الإحباط والخوف، لكن أيضاً لإثبات ولائهم لــ “القومية الجديدة”. فالشعبوية تتأسس أيضاً على معاداة المهاجرين والأقليات باسم الصفاء العرقي والأخلاقي وهو ما يمكّن هؤلاء المسؤولين، من خلفيات مهاجرة،من التأكيد أنهم ليسوا “غرباء”، بل جزءاً من “الشعب” الذي يحمي “القيم الوطنية”.
هنا تصبح الشعبوية لدى المسؤولين من أصول مهاجرة، آلية لترسيخ شرعية شعبية قوية تسعى إلى استعمال “لغة الجماهير” القائمة على أسلوب التعبير “البسيط والمباشر”، من أجل الوصول إلى السلطة، وأحياناً رغبة في تقليص الهوة والفجوة الثقافية بينهم وبين المواطنين الأصليين.
كما أن من أساسيات “شعبوية اليمين” الصاعدة في أوروبا هو حالة الاستقطاب التي تخلقها داخل المجتمعات الغربية بين “مواطنين حقيقيين” وبين “الآخرين”، أي الغرباء، أو كما يقول جون مولر بين “الشعب الجيد” و”الشعب السيئ”، أي المهاجرين والأقليات.
على هذا الأساس يضحي خطاب اليمين الشعبوي المعادي للمهاجرين جاذباً لأنه يوفر “نموذجاً للنجاح” السياسي، حيث يمكن لأي مسؤول من أصول مهاجرة استخدامه للتقرب من “المواطنين الأصليين” و”الشعب الحقيقي”، وإثبات أنه جزء من النظام وليس تهديداً له. الأمر الذي يمكنهم من “الاندماج” مع النخب السياسية المهيمنة والمعادية للفئات المهمشة.
الخوف من “معاداة السامية”
في كتابه الأخير “الهزيمة الغريبة” الذي يعالج فيه الفرنسي ديدييه فاسان، فكرة الهزيمة الأخلاقية للغرب الذي يدعم الكيان الصهيوني في حرب الإبادة على غزة، يرى أن هذه الحرب عززت خوف المسؤولين الغربيين وحتى بعض المثقفين الداعمين لــ “إسرائيل” من اتهامهم بـ “معاداة السامية”.
ويتناول فاسان مفهوم الخوف كأداة قوية في السياسة، مستلهماً من التاريخ المعاصر الذي يشهد صراعات هوياتية متعددة، بما في ذلك تهم الخوف من “معاداة السامية”، حيث يُستغل هذا الخوف سياسياً لإضفاء شرعية على توجهات وسرديات قد تتعارض مع قيم العدالة والمساواة.
في هذا السياق، نجد أن أصحاب القرار من أصول مهاجرة يعبّرون عن دعمهم للكيان المحتل من أجل تأكيد فكرة عدم “معاداة السامية”، التي تعدّ في أوروبا بشكل خاص، تهمة ثقيلة تؤدي غالباً إلى إقصاء سياسي واجتماعي. وبالتالي يصبح الخوف من “معاداة السامية” ليس مجرد موقف بقدر ما هو إستراتيجية تمكن من شرعية سياسية إضافية، وتساعد على بناء صورة المسؤول “المخلص” الذي يقف في صف “قيم الغرب” ضد كل أشكال المقاومة من أجل التحرر من الاستعمار.

المراجع
Shnapper, Dominique. La désillusion démocratique. Paris : Fayard, 2022
Muller, Jean-Werner. Liberté, égalité, incertitudes . Paris : Premier parallèle 2023.
Fassin, Didier. Une étrange défaite Sur le consentement à l’écrasement de Gaza. Paris. La découverte 2O24
صالح الطيب، موسم الهجرة إلى الشمال. بيروت: دار العودة، 1966م.
فانون فرانز ، بشرة سوداء ، أقنعة بيضاء ، ترجمة محمود الشرقاوي. الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، 1986م.
ميمي، ألبير. صورة المستعمر والمستعمر، ترجمة صالح علماني. بيروت: دار الفارابي، 2003
موقع: الميادين الثقافية
فؤاد غربالي
أستاذ في علم الاجتماع السياسي من تونس

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى