قراءة للاستاذ احمد محمد طالبي
في قصيدة “على مرافئ البوح” للشاعرة نعيمة مفيد.
في عالم الشعر الحديث، تبرز نصوص تشكل انعكاسا عميقا للصراعات الإنسانية التي تعصف بالنفس بين رغباتها المكبوتة واندفاعاتها نحو التعبير.
نص (على مرافئ البوح) للشاعرة نعيمة مفيد ليس مجرد قصيدة؛ بل هو رحلة وجدانية تتنقل بين ظلال الليل وضوء الفجر، بين ضجيج الفكر وصمت الحواس. إنه نص يترجم البوح كفعل تحرر وجودي يمزج بين الألم والنشوة، ويحول الكلمات إلى مرايا تعكس مرارة الحبر وحلاوة البوح.
تأتي هذه القراءة كمحاولة للسياحة في النص، غايتنا معانقة جماليات البناء اللغوي والفني، والكشف عن عمق الفلسفة التي تتوارى خلف تلك الصور الشعرية. وبين غواية الكلمة ومرارة الصمت، يفتح النص أفقا للتأمل في جدلية الحياة، الحب، والخلق الأدبي.
★(على مرافئ البوح)
كلما ارتدى الليل
عباءة سوداء
توسد الكون
وأغمض عينيه
تخذلني صهوة الصبر
يتلاشى الكلام
تترصدني مشنقة الصمت
يصبح العقل تائها
بين المد والجزر
والجسم مسجى
على مقصلة الفكر
يستهويني البوح
ومرارة الحبر
تنفصل الروح عن الجسد
تتسكع في رضاب خباياك
تتهادى في عالمها
تشق غسق التباريح
أدخل محرابك
أجده صلدا باردا
لا تراتيل فيه
أتخلى عن كبريائي
وأعلن ثوبتي
بين يديك
لتفك طلاسمي
و تزف الروح للروح
يرسو مركبي
على مرفإ البوح
أتسلل إلى دجاك
أمارس غوايتي
تلفني شراشيف الهوى
تتقد نار العشق
أبحث عن بوح
علني أرتشف من دمع الحرف
ومخاض القلم
كأسا معتقا يثملني
ويطفئ صبابتي
إذا انبلج الصبح
أجمع بقاياي
بين رماد النبض والبوح
★ بــوابة النـص
يحمل عنوان النص (على مرافئ البوح) إيحاءات رمزية ودلالية عميقة.
توحي كلمة (مرافئ) بالاستقرار والراحة بعد عواصف الرحلة، بينما يشير (البوح) إلى الإفصاح عن مكنونات النفس.
يدمج العنوان بين الحركة (السفر والوصول) والسكون (الرسو)، مما يعكس ازدواجية في الحالة النفسية: التوق للبوح مقابل الاضطراب الداخلي.
★ البــنية المضــمون
يرتكز النص على الصراع بين البوح والكتمان، بين الرغبة في التعبير والخوف من تبعاته.
لما تنسج الشاعرة عالما داخليا مضطربا، تسكنه التناقضات، وبثنائيات ضدية:
الليل/الصبح
البوح/الصمت
الجسد/الروح
هذا التنازع يعبر عن تجربة وجودية تمزج بين الوجدان والعقل، والرغبة في التحرر من قيود الذات.
النص يعتمد على وحدة شعورية عميقة، تتجلى في سلسلة من الصور والمشاهد المتتابعة التي تتصاعد حتى تصل إلى ذروة الصراع، ثم تنخفض نحو الهدوء.
هذه البنية الشعورية المدروسة تضفي على النص عمقا وتأثيرا دراميا.
لغة النص تنتمي إلى الشعرية الحديثة، حيث تجمع بين التكثيف والرمزية.
المفردات مثل:
– مشنقة الصمت
– مقصلة الفكر
– غسق التباريح
تحمل شحنة وجدانية عميقة، وتشكل شبكة رمزية تعكس أبعاد الحالة النفسية للشاعرة. وتوظيف الاستعارة والتشخيص بأسلوب دقيق يعزز الصور الشعرية أيضا، مما يحول المفاهيم المجردة إلى كائنات حية تشارك في بناء العالم الشعري.
النص نجده غنيا بالصور الشعرية التي تعكس التوتر الداخلي للذات:
– (تترصدني مشنقة الصمت) تجسد الصمت كخصم قاتل يعبر عن صعوبة البوح.
ـ (الجسم مسجى على مقصلة الفكر) يدمج الجسد والفكر في صورة مروعة تعبر عن عمق الألم الوجودي.
ـ(تتسكع في رضاب خباياك) تشخص الروح كمتسكع، في تعبير عن التوق والضياع.
ورغم غياب الوزن والقافية التقليدية، وان كان هذا لا حجة،فالنص يمتلك إيقاعا داخليا ينبع من التكرار الموسيقي والعبارات القصيرة الموحية.
تتكرر صور الليل، الصبح، الروح، والجسد، مما يعزز الوحدة الشعورية للنص ويخلق تدفقا متجانسا في القراءة.
في النهاية، تجمع الشاعرة بين (رماد النبض) و(البوح)، لتوحي بانطفاء الحماس بعد لحظة الإفصاح.
الكأس المعتقة التي (تثمل) تعبر عن لحظة مؤقتة من النشوة، لكنها تتلاشى مع بزوغ الصبح.
النهاية المفتوحة تترك القارئ أمام تساؤلات عن جدوى البوح نفسه.
هناك توظيف للألوان التي تحمل دلالات بصرية: الأسود حاضر بقوة في النص (عباءة سوداء) للدلالة على/ الحزن واللايقين.
بينما الأبيض يظهر ضمنيا مع (انبلج الصبح). الانتقال بين اللونين يعكس حركة دلالية من العتمة إلى النور، وإن كان النور غير مكتمل.
وكل هذا داخل فضاءات تتوزع بين:
فضاء الليل (العزلة والقيود)
فضاء المحراب (محاولة الاتصال بالآخر).
ويبقى للنص رموز مركزية
– المشنقة: رمز للقيد النفسي.
– مقصلة الفكر: تصوير صادم للثقل الفكري.
– الشراشيف: تمثل دفء العشق، في تناقض مع البرودة العامة للنص.
أما إذا انتقلنا للحديث عن فلسفة النص نجده يظهر قلقا وجوديا يتمثل في صراع الذات مع الآخر ومع نفسها أيضا.
ويتخذ التصوف كحل محتمل، لكنه يظل غير مكتمل، إذ يظهر (المحراب الصلد) كرمز لفقدان الاتصال الروحي التام.
حديثنا عن النص (على مرافئ البوح) للشاعرة نعيمة مفيد يمزج بين الذاتية العميقة والرمزية الفلسفية، ويعبر عن صراع داخلي مليء بالتناقضات بأسلوب شعري حداثي وهذه ميزة تعطي للنص عالميته، ليجسد دعوة للتأمل في أعماق الذات، حيث يصبح البوح وسيلة للبحث عن المعنى رغم الألم.
النص له تأثير وجداني قوي من خلال الصور المكثفة، اللغة الرمزية، والبنية السردية المتشابكة، مما يجعله نصا يستحق التأمل والدراسة أكثر وأعمق للغوص في أعماقه
