فاطمة العسري : تأملات تشكيلية في غياب العنوان واستحضار الذات
بقلم محمد العاقل (تطوان)
في قلب العاصمة الرباط، وداخل رواق محمد الفاسي، تُطل الفنانة التشكيلية فاطمة العسري من نافذة “بدون عنوان”، معبرة عن حالة فنية استثنائية في معرض يمتد بين 4 و17 ديسمبر 2024. هذا الحدث الفني ليس مجرد عرض للوحات، بل هو بمثابة رحلة بصرية عميقة تتوغل في ثنايا النفس الإنسانية، حيث تتشابك الألوان وتتصادم الأشكال لتكشف عن مساحات من الهشاشة والبحث عن المعنى وسط عاصفة الحداثة المتسارعة .
وفي قراءة دقيقة لهذه التجربة، يصف الباحث في الفنون البصرية نورالدين بوركة أعمال فاطمة العسري بأنها “صرخة بصرية”. فهي تستدعي الغياب ليصبح حضورًا مثقلًا بالأسئلة، لتتحول اللوحة من مجرد سطح بسيط إلى تضاريس فكرية معقدة. تتجلى فيها العلاقات المتناقضة، حيث تلتقي الألوان لتبني جسورًا من التناغم، ثم تنفصل لتُبرز التوترات والانكسارات، كما لو كانت مرآة تعكس الهشاشة المتناهية للإنسان في عالم يُسرع خطاه نحو المجهول .
فاطمة العسري، القادمة من مدينة المضيق بشمال المغرب، تُعبر من خلال معرضها هذا عن حالة تتجاوز المألوف. العنوان الغائب ليس مجرد قرار شكلي، بل هو دعوة صامتة للتأمل، حيث تُجبر المتلقي على مواجهة العمل الفني كحالة مفتوحة على التأويل. في هذه المساحات، نلمح ارتباك الذات وانكسار الهوية في زمن تختنق فيه المعاني وسط طوفان الصور والهياكل البصرية. تتراقص الأشكال الهندسية في لوحاتها، متشابكة كأنها تغازل الفوضى أو تحاول كسر صرامة النظام، فتخلق بذلك حوارًا مستمرًا بين الامتلاء والفراغ، وبين الثبات والتحول .
تمتد تجربة فاطمة العسري الفنية لأكثر من عقد، وتُبرز شخصية استثنائية جمعت بين التشكيل والسينوغرافيا. فهي ليست فقط فنانة تحمل فرشاة وألوانًا، بل مبتكرة في فضاءات العرض والمسرح. عملت على سينوغرافيا العديد من التظاهرات الكبرى، مثل المهرجان الدولي للعود بتطوان سنة 2023 وملتقى الأندلسيات بشفشاون، إضافة إلى سينوغرافيا عروض مسرحية تحمل بصمتها الفنية الخاصة. كما شاركت في معارض فردية وجماعية داخل المغرب وخارجه، مما يجعلها واحدة من الأسماء البارزة في المشهد التشكيلي المغربي المعاصر .
“بدون عنوان” ليس مجرد معرض، بل حالة وجودية تتجاوز حدود الفن التقليدي. إنه فضاء يُعطي للصمت صوتًا وللفراغ حضورًا، ويُعيد تشكيل العلاقة بين الفنان والمتلقي. فلوحات العسري ليست إجابات جاهزة، بل هي أسئلة مفتوحة، تستدعي في كل زاوية منها تأملًا عميقًا وتفاعلاً داخليًا .
في هذا المعرض، تُقدم العسري تجربة بصرية غنية ومشحونة، تستلهم من هشاشة الإنسان وعوالمه الداخلية المضطربة لتخلق لوحات نابضة بالحياة والمعنى. هي دعوة للتوقف، للتأمل، ولإعادة التفكير في علاقتنا بالعالم من حولنا، وفي أنفسنا . من خلال “بدون عنوان”، تؤكد فاطمة العسري أن الفن الحقيقي لا يحتاج دائمًا إلى كلمات لتصل رسالته؛ أحيانًا، يكفي الصمت، واللون، والشكل .