ثقافة وفنون ومؤلفات

فوضى في الراس

مسرحية فوضى في الراس لفرقة كاين أرت من تأليف محمد زيطان و إخراج سعيد بكار

بقلم : رشيد بلفقيه
لا شك أن رمزية الحارس في العرض المسرحي “فوضى في الراس” مثيرة للاهتمام، بوصفه ذلك الشخص الذي ضيّع هُويته مرارا، بكيد عظيم من زائرته الغامضة زهرة وتدبير منها، ليفقد مكانة العساس، القانع بموقعه في ذلك الموسم، والحريص على أداء مهامه بأمانة وإخلاص، ليهوي في دياجير الوسواس الخنّاس الذي شككه في هويته وحوّله من “عساس” إلى و”ناس”، ليصيّره في النهاية مجرد جندي نكرة مات في حرب قديمة، ثم ينتهي معتقلا بسبب أعمال لها علاقة بالإرهاب.
للحارس دلالات مكثفة تجعل منه رمزا قابلا للتحليل، والتركيب، والتبديل والتعويض، بدل المرة الواحدة مرات متعددة، فهو في المعنى التقريري ذلك الفرد من المجتمع المكلف بالسهر عندما ينام الجميع، وصاحب السلطة والسطوة في رعاية شؤون من يغيبون ومساعدة من يحضرون، وهو الذي يملك ليل الناس الذين يملكون نهاره ونهارهم، فهو بهذه المعاني صمام أمان في الغياب والحضور، كما أنه ببعض الاجتهاد قد يغدو الضمير الحي الذي ما يزال صاحيا في حياة تحولت إلى “موسم” تهيمن على تفاصيله فوضى الاحتفالات التي لا تتوقف إلا لتبدأ من جديد.
لكن ماذا لو أصيب ذلك المجتمع، الغارق في فوضى احتفالياته ومواسمه وأطماعه وأحزانه وأفراحه وأفكاره الصحيحة والخاطئة، ماذا لو أصيب في حارسه؟ ماذا لو عبثت به أفكار موسوسة لا قاع لها ولا ضفاف سوى ما كان من تسخير هشاشة وضعيته ومشاعر الحرمان والكبت العاطفي التي يعيشها لجعله يقتنع اقتناعا راسخا بأنه قادم من حياة أخرى ليس عساسا بائسا فيها، ولكنه وناس ابن قبيلة الصفصاف، بل ابن شيخها وكبيرها ووريث مجدها، وسؤددها، وصاحب قصص مثيرة في عالم العشق والغرام؟
لا شك أن إصابته ستلقي بتفاصيلها على إخلاصه وأمانته، ولاشك أن يد الفوضى المتربصة، المنتظرة غفلته، ستتسرب بالتدريج لتعبث بالأخلاق، وبالمبادئ، وبالقيم، وبالحب وبالكره.
مع تصاعد الأحداث يهيم الحارس المُصاب في هويته على وجهه، باحثا عن الجرعات الثمينة التي تمنحها له زهرة الطّيف الغامض الذي يأيته من العدم ويختفي عائدا إليه دون أن يترك له سبيلا لملاحقته، مرددا اسمها كالمجنون، ويهمل واجبه الذي كان جزءا من تلك الهوية إلى عهد قريب، فتجد الفوضى سبيلها إلى حياة الجميع.
ليس “العساس” سوى جزءا من عوالم العرض المسرحي “فوضى الراس” التي كتبها محمد زيطان، وأخرجها باقتدار وأناقة سعيد بكار، وتألق في تشخيصها كل من صراح حمليلي، ونهيلة آيت بيهي، وزهير أيت بنجدي، وأمين تاليدي، وعبد الإله المين، وبقية أعضاء فرقة “كاين أرت”.
تكاد الرمزية الطافحة تكون مدخلا عاما لتلقي شخصيات العرض المسرحي جميعها بمن فيهم العطار الذي عجز عن إصلاح ما أفسده الدهر، فاختار السير معه حيثما سار باحثا عن ثروة متوهمة، وخلاص كاذب، كما يمكنها أن تكون مدخلا لتلقي شخصية صانع السروج الذي يُفترض أنه يعين الناس على امتطاء دوابهم لكنه، في حالة ضعف، لم يستطع مقاومة غواية حبه للنساء فركبته زوجته وأمها واجتهدتا معا في تسخيره لتحقيق رغباتهما.
بالإضافة إلى شخصية زهرة “الطّيف” الغامض الذي تسلل إلى حياة الحارس، وتسلل أيضا إلى الحكاية الناظمة للأحداث الدرامية، ليعيث عبثا بكل ما وصل إليه من شخوص وأحداث وأزمنة، ثم شخصية كاميليا المرأة الكاملة المكتملة، التي ترفض الخضوع لواقعها المتمثل في تقدمها في السن، رفضا شرسا لا يخلو من سخرية عميقة من عبثية الأقدار التي لم تضع يوما في طريقها رجلا يرضي أنوثتها الطافحة.
عرض احتفالي جميل، ينهل من التراث المغربي، ومن أجواء المواسم الشعبية المتسمة بالعرج والفوضى ليقدم صورة رمزية عن مجتمع أصيب في حارس نظامه ورأسه، فأصيب ب”فوضى في الراس.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى