الكتابة والسفر
مصطفى لغتيري
الكتابة سفر والسفر كتابة، بهذا المعنى يمكن للمرء التفكير في علاقة الكتابة بالسفر، التي تبدو غير بسيطة حتى إن حاولنا النظر إليها من زاوية ذاتية، تتعلق بنظرة الكاتب الخاصة إليها. فالثابت في هذه العلاقة أنه ما إن يأخذ المرء القلم بين يديه أو يشرع في مداعبة ملامس الحاسوب ليخط بعض الكلمات، التي غالبا ما تصبح اللبنة الأساسية لبناء نص إبداعي جديد، حتى يجد نفسه قد انتقل من حال إلى حال، انتقال ذهني ووجداني ونفسي، يشعر به ويعيش تفاصيله، ولا يتخلص منه حتى ينهي كتابة نصه، لهذا فالكتابة سفر، لأنها انطلاق حر نحو عوالم متخيلة، تكاد لا يحدها زمان ولا مكان، وحتما حين يكون الكاتب مندمجا في حالة الكتابة يشعر بذلك التحول، يخالجه إحساس بأنه يتنقل في عوالم الخيال البهية، يتنقل في الزمن ذهابا وإيابا، أفقيا وعموديا وبشكل دائري، يحكمه في ذلك الزمن الفيزيائي حينا والزمن النفسي أحيانا.
في تلك الأثناء تحديدا يسترجع الكاتب بكثير من الشغف طفولته البعيدة المضمخة بروح البراءة والأمل، ويستشرف شيخوخته المقبلة، تلك التي تزحف نحوه حثيثا بلا ريب ولا مواربة وبالمثل يفعل مع حيوات أخرى متخيلة وواقعية. وهكذا يظل الكاتب ينوس في ما بين طفولة مفتقدة وشيخوخة زاحفة، بعد أن يطفو على سطح لحظته الآنية المربكة والمرتبكة.
الكتابة سفر في الواقع والخيال، توغل في العوالم العجائبية والغرائبية، التي ترسم بالكلمات تلك الفضاءات المجنحة، التي قد تنجح في خلق واقع مواز للواقع المحايث، فتغني تجربة الكاتب والقارئ على حد سواء.
الكتابة بهذا المعنى المخاتل عمق السفر ونسغه، وكأنهما وجهان لعملة واحدة.
وبالمقابل فالسفر كذلك كتابة، إذ إن الانتقال من مكان إلى آخر يولد متعة الاكتشاف، كل أرض جديدة كل أناس جدد وتقاليد جديدة وعمران جديد، أكاد أقول كل تجربة جديدة وعد بكتاب جديد، وكما هو معلوم لا تتوقف الذاكرة أبدا عن تخزين كل ما يصادفها في طريقها من معلومات أثناء السفر، فيصبح كل ذلك المخزون احتياطا كبيرا وزادا متجددا، يمد الكاتب بمواد ولبنات قابلة للتوظيف من أجل بناء عالمه المتخيل.
السفر يفتح نافذة مشرعة على الكتابة، وكأنه الباب السحري الذي ينفتح على مصراعيه ليلجه الكاتب متأبطا أوراقه وأحلامه ومشاريعه.. شخصيا بعض من كتبي كتبتها خلال سفر ما أو غب ذلك السفر بقليل.. السفر تجديد للحياة، يزيح عن كاهلها ثقل الرتابة الذي ما يفتأ يخنقها.. الكتابة كذلك، أو في أحد وجوهها على الأقل، تجديد لذات الكاتب ولرؤيته للعالم ولعلاقته مع النصوص. عندما نسافر نصادف في طريقنا الكثير من المشاهد الجديدة، تتناسل كثير من الكلمات، وينتابنا العديد من الأحاسيس المتناقضة، في سفرنا نقابل كثيرا من الوجوه المختلفة، كل وجه يختزن حكاية، حياة، مشروع قصة أو رواية أو قصيدة.
في السفر تتدفق الحياة في شراييننا كشلال منهمر وسط غابة استوائية.. يطهرنا من جمودنا.. يزيل عن أنفسنا قشرة الكآبة التي تراكمت عليها في غفلة منا، فنشعر بأنفسنا متخففين من وطأتها، بل أكثر حرية وانطلاقا، أكثر قدرة على الخلق والعطاء.. ليس هناك ما يزعجنا.. في المكان الذي انتقيناه لسفرنا نكاد لا نعرف أحدا يمكنه أن يقطع خلوتنا، أو يبتر تيار الإلهام الذي يخترقنا فجأة وبدون مقدمات.
السفر كالحلم، لأن الحلم دوما موعد واعد مع اللامتوقع واللامترقب.. هناك تحديدا في تلك القارة المجهولة الغامضة المثيرة تنشط الكتابة، فتمد الورق بمادة حيوية يتداخل فيها الواقعي بالغريب والعجائبي، فيتشكل ذلك المزيج المدر لماء الإبداع، ليبلل الأرض العطشى بصبيبه، فترتوي لتعطي أكلها طيبا بعد حين.
اشتهر كثير من الكتاب في العالم بعدم قدرتهم على الكتابة إلا بعد أن يحطوا الرحال لوقت محدد في مكان معين، بعيدا عن المكان الذين يعيشون فيه، منهم من يرتبط الإلهام لديه بجزيرة ما أو قرية أو شاطئ، وغالبا ما لا يستجيب لهم شيطان الإبداع إذا لم يوفروا له هذا الظرف الاستثنائي.
تعودت على ألا أتدلل على الكتابة وبالمقابل لا تتدلل عليّ هي كذلك، فشروط كل منا قليلة، إن لم تكن منعدمة، لكن ومع ذلك يبقى السفر ـ إن حدث ـ بالنسبة لي واعدا، ومحفزا على اقتراف جريرة الكتابة، غير أني لا أربط الكتابة بالسفر ربطا ميكانيكيا، ربما لأن لي طرقي الخاصة الأقل كلفة، فقد أسافر وأنا لم أبارح مكاني قيد أنملة، فحين أكون في حالة كتابة، أشعر بحق وكأنني مسافر أو على أهبة السفر.
فالسفر إذن والكتابة مترابطان سواء بشكل حقيقي أو مجازي. وكلاهما شرط لازب للحياة على الأقل لدى الكتاب أو لدى عدد لا يستهان به منهم..