أخبار دولية

تقارير المخابرات السورية… كل البلاد مصنفة في ملفات

عمّار فراس
موقع: العربي الجديد

تزامناً مع فرار الرئيس السوري المخلوع بشار الأسد، وتحرير المعتقلين من السجون والأفرع الأمنية، ظهرت إلى العلن وثائق الاستخبارات السوريّة، بكل أشكالها. بعضها حُفظ وأُرسال إلى المحققين الصحافيين والجنائيين، لكن كثيراً منها بُعثر على الأرض، وأمسى بمتناول الجميع؛ فمملكة الصمت الممتدة لأكثر من نصف قرن، تحولت بيروقراطيتها الأمنيّة إلى “محتوى” على وسائل التواصل الاجتماعي.
كشفت هذه الوثائق ليس عن جرائم وحسب، بل عن ماكينة مبتذلة وعتيقة للعمل الاستخباراتي، إذ تم تداول وثائق وصور عن أشكال تنكر رجال الأمن في سورية، وأدواتهم من شعر مستعار ومكياج، وطبيعة الأشخاص الذين يتنتشرون بين الناس، والذين للمفارقة كانوا معروفين للسوريين بمهنهم المتنوعة، لكن رؤية هذه الوثائق وأسلوب العمل، كسر عنهم جديتهم، بصورة أدق، سطوتهم لم تتأت من قدرتهم الفائقة على التنكر، بل من كون السوريين يعرفون قدرة هؤلاء على إخفاء أحدهم وراء الشمس.
وثائق متعددة عن جرائم تبدو مبتذلة، كوهن نفسية الأمة وأخرى عن “المُخبرين”، وغيرها عن عبدة الشيطان مثلاً، وكأن كل سورية مصنفة ضمن ملفات، ولكل سوري ملف يحوي من الأوصاف ما يثير الضحك. نقرأ في وصف أحدهم أنه “ثرثار” أو “متوسط الذكاء”، وغيرها من الأمور التي لا نعلم كيف تستفيد منها المخابرات السورية، وكيف تُصنّف الناس بناءً على ذكائهم. تكشف وثائق أخرى أيضاً عن طبيعة الرقابة التي تتبعها أجهزة المخابرات، بعضها على بعضها الآخر، وإكالة تهم كـ”إرهابي” لأي شخص قد ينتقد النظام، إلى حد اتهام الأطفال بها، إذ تم تداول صور لجوازات أطفال يبدو أنهم كانوا في أفرع الأمن.
نحن، إذن، أمام ماكينة لتكديس الكتل البشرية وضبطها وتصنيفها، ويفصل كل سوري عن المعتقل كلمة قد لا يعلم أنها لم ترُق لأحد ما.
اللافت أيضاً أن هذه الوثائق على رسميتها، تحمل خاصية مهمة تتعلق بكونها جزءاً من “أرشيف مزيف” بصورة ما. ينتج النظام السوري وثائق مزيفة للإدانة والاتهام من أجل الحفاظ على “ٌقانونيّة” ممارساته، على الرغم من أنها قائمة على التبلي والافتراء، هذا السؤال الذي لم يطرح بعد أمام كمية الوثائق المكشوف عنها. لكن، يبقى “المحتوى” هو المهيمن.
تحولت السجون ومراكز الأمن إلى مساحات لصناعة الفيديوهات الاستكشافية. نعم هي جزء من حق السوريين باستعادة بلدهم وامتلاك زواياه وغرفه وساحاته، لكننا في الوقت نفسه أمام “مسرح جريمة”، جريمة ما زالت مستمرة حتى الآن، في ظل الجهل بمصائر آلاف المعتقلين والمغيبين قسراً. الإشكالية أن “المحتوى” على اختلاف جودته وإتقانه ونوعه، يساهم في ابتذال الموضوع، وتمييعه، وتحويله إلى مادة استهلاكيّة، ننتهي منها بمجرد أن نلمس الشاشة انتقالاً إلى “ريل” جديد.
تكشف أمامنا وثائق المخابرات السوريّة عن ماكينة بيروقراطيّة، ماكينة بدائية ليست متطورة”: ملايين من المصنفات والوثائق، بعضها شديد السخافة؛ كأن نقرأ إحدى المحادثات التي تم التنصت عليها، وتدور حول وجبة طعام، أو أن نقرأ عن ضرورة شراء فاكس أو طابعة لأحد الأفرع. سريّة هذه الملفات لا تبدو منطقية، فما السر وراء شراء طابعة؟ ما الذي يجعل الأمر وثيقةً سرية؟
هذا الكم الهائل من المحتوى الذي أنتج خلال أيام أعاد إنعاش ذاكرة السوريين، وأعاد لهم القدرة على الكلام. لم يعد أحد بحاجة إلى إثبات أن نظام الأسد مجرم، وأن الدولة مهترئة حد الانهيار. كل سني القمع والقهر أصبحت الأدلة عليها متوافرة، متوافرة حد الضياع في تفكيك لمملكة الأسد وأجهزته الأمنية التي أصبحت محط النكات والقفشات. هذه الطريقة على عيوبها والأخطاء الكثيرة المرتكبة، هي تكسر هالة الأسد ونظامه، تكشف أمام العالم بأكمله تفاصيل نراها لأول مرة عن سورية، تفاصيل كانت للغالبية العظمى للسوريين مجرد إشاعات أو همسات.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى