مجرد رأي

حاجتنا إلى المحاسبة والتقويم.

وقفات للتأمل والتقويم: حاجتنا إلى المحاسبة والتقويم.

 بقلم :عبد الرحيم مفكير

إن دواعي اختيار الحديث في هذا الموضوع متعددة من أهمها حاجة النفس البشرية إلى التذكير، والتزكية، والمحاسبة . فالقرآن الكريم ذكر وتذكير ” فذكر بالقرآن من يخاف وعيد ” الذاريات 45 ، ” وفي آخر آيات سورة الغاشية قوله تعالى. ﴿ فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ(22)﴾ والإسلام في تربيته للنفس البشرية جعل لها لحظات يومية وسننا للحساب الفردي، والتنبيه الجماعي. إننا أمة الهداية ” اهدنا الصراط المستقيم” وأمة الخيرية بالتزام شروطها لآية: ﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾. آل عمران 110،وأمة التبليغ قال عليه السلام ” بلغوا عني ولو آية” رواه البخاري ، ونخن أمة الشهادة قال تعالى ﴿ فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا ﴾. النساء الآية: (41) وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ۗ ” وقوله سبحانه ” هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس ” الحج 78 . أمة الريادة والقيادة، وأمة الاعتصام بحبل وعدم التفرقة وخيانة العهد والميثاق، وأمة الالتزام بالعهود والمواثيق قال تعالى” وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ﴾. آل عمران الآية :103. وأمة المحاسبة والوقوف على الآفات والاختلالات. والقرآن الكريم حافل بأمثلة المحاسبة والمراجعة وتصحيح مسار وسير الصحابة رضوان الله عليهم. وقد تعجب عبد الله بن مسعود وقال لم أكن أعلم أن منا من يريد الدنيا ومنا يريد الآخرة حتى نزل قوله تعالى وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ ۖ حَتَّىٰ إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ ۚمِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الْآخِرَةَ ۚ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ ۖ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ ۗ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152). ولعل خوض العديد من أبناء حركة التغيير والصحوة الإسلامية غمار المجال السياسي والنقابي والمدني وما يصاحبه من تحديات وحاجة إلى الوقوف مع الذات وتحصين النفس من إغراءات مادية ومعنوية، يؤكد راهنية هذه الأوراق التي سيكون لنا فضل جمعها وترتيبها بالاعتماد على العديد من كتابات الدعاة والمفكرين الذين لهم بدورهم فضل التنبيه والتصحيح والتقويم. وليست غايتنا تتتبع عورات الناس وهذا منهي عنه شرعا وغير مقبول عقلا، ولا التهويل من ظاهرة الآفات والاختلالات بقدر ما نسعى إلى تنبيه أنفسنا وغيرنا لبعض الأمراض المصاحبة لكل من أراد خوض غمار التغيير والإصلاح، والذي لن يتأتى إلا بإصلاح النفس وعدم تزكيتها ” فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى ” ” قل هو من عند أنفسكم ” ” إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم” .

تقديم :

إن لكل عمل حتى يكتب له النجاح لا بد له من أسس يبتني عليها تكون هي مقومات نجاحه وأي خلل في هذه المقومات تستدعي هبوط مستوى العمل وإذا لم يتدارك هذا الخلل في الوقت المناسب لربما كان بداية انهياره إن لم ينهار بالفعل.
والعمل الدعوي شأنه شأن غيره من الأعمال يحتاج إلى التطوير والتقويم المستمر، واستدراك ما قد يوجد من الأخطاء التي هي من طبيعة البشر، فإن العمل الذي لا يتطور مع مرور الزمن هو في الحقيقة عمل جامد لا يتناسب مع ما يجب طرحه من مشروعات دعوية مختلفة، وبما أن العمل الدعوي بطبيعته ذو طبيعة ثابتة في مضمونها ومصدرها إلهي، فإن التطوير المطلوب لا يشمل المادة الدعوية التي هي أساس الخطاب الدعوي وهي الدعوة إلى التوحيد والتحذير من الشرك والبدع والأمر بطاعة الله تعالى والنهي عن معصيته ، بقدر ما يشمل آليات ووسائل الدعوة المعتمدة والبرامج والمخططات الإستراتيجية والمؤشرات ونوع الخطاب وغيرها مما هو متغير غير ثابت ومتطور بتغير الأزمان والأمكنة والمستهدفين .
إن غياب التقويم يصبح معه المشروع الدعوي ومن ورائه المشروع الإسلامي نشاطا ترفيهيا وثانويا، فاقدا معانيه الإستراتيجية ومكانته الأخلاقية، فلن يكون بوسع القائمين على المشاريع الدعوية التحقق فيما إذا كانوا قد حققوا أهدافهم أم لا، وبأية نسبة، في غياب تقويم علمي لنتائج المشروع وآثاره الواقعة، ففي حالات كثيرة يجتهد الدعاة في ضبط وإتقان كل شيء من الدراسة والتخطيط للفعل الدعوي، وانتهاء بالإنجاز والترويج، ويغفلون عن التقويم.

“أما الانتقاد الصحيح لما وقع فيه (يقصد العمل الاسلامي) من أخطاء، أو الاستدراك على ما فاته من كمال فيجب أن نقبله على العين والرأس، ولو كان النُقَّاد مدخولي النية، سيئي القصد؛ فسوء نيتهم عليهم وحدهم، وخير لنا أن ننتفع بما أجراه القدر على ألسنتهم من تصويب. ومن يدرى؟ لعل ذلك الانتفاع يكون أغيظ لنفوسهم المريضة، والعاقل يتسمع ما يقوله أعداؤه عنه؛ فإن كان باطلا أهمله فورا ولم يأس له، وإن كان غير ذلك تروى في طريق الإفادة منه”.
“جدد حياتك” محمد الغزالي
إن بناء آلية النقد الذاتي (النفس اللوامة) تضع الروح على المسار السليم للتصحيح والنمو بدون توقف، ولكن لا أحد يمارس هذه الوظيفة. ونحن نعلم من قانون التطور والوظيفة أن كل عضو لا يعمل يضمر. وهذا يعني أننا نعاني من شلل قاتل، ومن محق للبركة في أعمالنا بتعطيل جهاز النقد الذاتي. ويبقى العمل الشيطاني السهل في لوم الآخر. الكل يبحث عن كبش فداء يعلل به أسباب القصور الذاتي. إنه مرض قاتل لأنه لا يحرر الإرادة من العطالة طالما كان الآخر هو السبب. إنه دوما: الاستعمار، والماسونية، والصليبية، والاستخبارات المركزية الأمريكية، والموساد، وإذا فرغت كل الأسلحة يبقى السلاح الذي يخرس الجميع، اي سلاح التذرع بـ: إنها إرادة الله. ونحن نعلم أن الشيطان نفسه يتبرأ من هذه المقولة يوم القيامة فيقول، فلا تلوموني ولوموا أنفسكم. ونحن نعلم أن المشركين كانوا يعزون شركهم إلى الله «وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شيء». إن ثقافة الشيطان موجودة ايضا في زماننا هذا.
“النقد الذاتي ” خالص جلبي
وقد تعهد الله سبحانه وتعالى عباده بأفضل كتاب أنزله على أفضل نبي عليه السلام ليكون لعالمين نذيرا، ويزكي به الأنفاس، وترتقي إلى الدرجات العلى.
حاجتنا إلى المحاسبة والتقويم:
وإن من خصائص العمل الدعوي المحاسبة والمراجعة والتقويم والتسديد ما ورد عن عمر بن الحطاب رضي الله عنه قوله: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوها قبل أن توزنوا وتجهزوا للعرض الأكبر.
ولقد قوم الرسول صلى الله عليه وسلم قبله صلاة المسيء حيث ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه: { أن رجلاً دخل المسجد ورسول الله جالس فيه فرد عليه السلام، ثم قال له: ارجع فصل فإنك لم تصل. فرجع فصلى كما صلى، ثم جاء فسلم علي النبي فرد عليه السلام ثم قال: ارجع فصل فإنك لم تصل، فرجع فصلى كما صلى، ثم جاء فسلم على النبي فرد عليه السلام، وقال: ارجع فصل فإنك لم تصل ثلاث مرات، فقال في الثالثة: والذي بعثك بالحق يا رسول الله ما أحسن غيره فعلمني. فقال : إذا قمت إلى الصلاة فكبر، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئن راكعاً، ثم ارفع حتى تعتدل قائماً، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً، ثم اجلس حتى تطمئن جالساً، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً، وافعل ذلك في صلاتك كلها }.
وصحح عليه السلام أخطاء الكبار كما الغلمان ،وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم حريصا كل الحرص على تربية أصحابه وتوجيههم , وخاصة الغلمان منهم والصغار , فمع كثرة أعبائه صلى الله عليه وسلم ومشاغله الكثيرة , لم يترك توجيه الغلمان وتصحيح أخطائهم , لعلمه بأهمية هذا الجانب , وخطورة هذا الأمر, في إخراج جيل مؤمن قوي الإيمان , يميز الحلال من الحرام والصحيح من الخطأ , والصالح من الطالح , وبذلك فقط ينمو المجتمع ويتطور , ويصبح أنموذجا يحتذى به.واتخذ لذلك صلى الله عليه وسلم منهجا فريدا وعظيما في تصحيح الأخطاء التي يقع فيها أصحابه بشكل عام , اتصف باللين والرفق والرحمة , وكان لهذا المنهج أثر كبير في تقويم سلوك الصحابة الكرام و غيرهم الكثير ممن كان له شرف توجيه الرسول الله صلى الله عليه وسلم و إرشاده , وهذا واحد منهم يروي قصة تعلمه من خطئه ونكتفي بما أخرج مسلم في صحيحه عن معاوية بن الحكم السلمي قال :بينا أنا أصلي مع رسول الله صلى الله عليه و سلم إذ عطس رجل من القوم , فقلت: يرحمك الله فرماني القوم بأبصارهم , فقلت : واثكل أمياه ما شأنكم تنظرون إلي ؟ فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم , فلما رأيتهم يصمتونني سكت , فلما صلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فبأبي هو وأمي ما رأيت معلما قبله ولا بعده أحسن تعليما منه , فو الله ما كهرني ولا ضربني ولا شتمني , قال : إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن ) والأمثلة على ذلك كثيرة .
وإذا كان توجيه الكبار وتقويم سلوكهم ليس بالأمر اليسير , فإن تقويم سلوك الغلمان وتصحيح أخطائهم أخطر وأصعب , لأن الغلام يحتاج في التوجيه والتقويم إلى طريقة خاصة , وأسلوب تربوي يتناسب مع مداركه العقلية والنفسية , وهذا ما انفرد به رسول الله صلى الله عليه وسلم , الذي ورث العالم أعظم الوسائل التربوية والسلوكية , التي تصلح لكل زمان ومكان .
ولعل أهم مقومات النجاح وضع الأمور على الميزان، فبالميزان يمتاز العمل الناجح من العمل الفاشل ومن لا يمتلك الميزان فهو لا يدري عمله أفي شرق هو أم في غرب في الأعلى أم الأسفل وللأسف الشديد فإن الكثير من الأعمال ذات التوجه الإسلامي ينقصها هذا الميزان.
يحتاج العامل الإسلامي على تقويم عمله بين فترة وأخرى كي يصحح مساره في العمل ومن لا يمتلك النقد الذاتي يصعب عليه تحمل النقد الخارجي.
إن التقويم والمراجعات “عملية ” يجب أن تكون مستمرة في كل الأوقات، قد تقل في أوقات دون أوقات، ولكن لا يصح أن تغيب أو تختفي، ويجب أن يُختار أهلها ورجالها، فمن لم يتقدم يتقادم، ومن لم يراجع نفسه يتراجع، وما دمنا بشرا سويا، فإن المراجعة والاعتراف بالخطأ والرجوع إلى الحق متى ظهر من أخلاق الأسوياء والواعين
إن المراجعات والتقويم ليس دعوة للتمرد، ولا عبارات تصاغ للتفلسف والتعالم، ولا كلمة لنكران التاريخ والجهود والعطاء الذي لا ينكره إلا جاحد أو مكابر، وإنما هي دعوة لمزيد من البناء والرشد والعطاء والبقاء والاستمرار، ليس لصالح حركة إسلامية بعينها ، وإنما لصالح الوطن، ولصالح الأمة الإسلامية جمعاء.
إن المراجعة الشاملة واجبة في حق الفرد وفي حق المؤسسات والهيئات والمنظمات، فما بالنا بدعوة وحركة. وعلينا أن لا نخشى من الذي يدعو للمراجعة ويمارس النقد البناء فهذا أنفع للحركة والدعوة ويجب أن يُشجع وأن يُقبل وأن تفتح له مغاليق الأبواب، ولكنني أخشى على الدعوة والأمة ممن لا عقل له ولا رأي له، أينما تضعه تجده، وكيفما تكلمه يسمع، وحيثما تأمره يطيع، وأينما توجهْهُ لا يأت بخير، فلا وعي ولا إدراك ولا فهم؛ فهذا أخطر على الدعوة من أعدائها.[1]
واليوم إذ نقف وقفة للتأمل من أجل محاسبة أنفسنا، واتخاذ قولة الصحابي الجليل ” تعالوا بنا نؤمن ساعة ” نجد أنفسنا مضطرين لرصد أهم الاختلالات والآفات التي نعرفها باعتبارنا أعضاء في حركة مباركة، رغبة منا في التنبيه إليها أولا، والتعريف بأخطارها، وتقديم واجب النصح، والالتزام بما تعاهدنا عليه من خلال ميثاق حركتنا المباركة ثانيا، وقبلها ميثاقنا مع رب العزة الذي حملنا الأمانة التي أبت السموات والأرض والجبال أن يحملنها وأشفقنا.وليست غايتنا تعداد الآفات ولا تتبع السقطات والعثرات بقدر ما نتوخى إنقاذ أنفسنا قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلال، فاليوم عمل ولا حساب وغدا حساب ولا عمل. يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم،يوم تبيض وجوه وتسود وجوه،يوم تجد كل نفس ما عملت من خيرٍ محضراً وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا، يوم يجمعكم ليوم الجمع ذلك يوم التغابن يقول الله ((وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ)) الأنبياء:47،وقال تعالى: ((أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ)) الرعد:33.
إن الله سيحاسبنا على كل شيء على الصغير والكبير والفتيل والقطمير، فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره. لقد عرف أصحاب القلوب السليمة والعقول الواعية أن الله لهم بالمرصاد،وأنه لن ينجيهم إلا لزوم المحاسبة ومطالبة النفس ومحاسبتها على الأنفاس والحركات قال تعالى ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)) الحشر:18.قال الفضيل بن عياض : من حاسب نفسه قبل أن يحاسب خف في القيامة حسابه وحضر عن السؤال جوابه وحسن منقلبه ومآبه ومن لم يحاسب نفسه دامت حسراته وطالت في عرصات القيامة وقفاته وقادته إلى الخزي والمقت سيئاته وأكيس الناس من دان نفسه وحاسبها وعاتبها وعمل لما بعد الموت واشتغل بعيوبه وإصلاحها.
وينبغي للعاقل أن يكون له في يوم ساعة يحاسب فيها نفسه كما يحاسب الشريك شريكه في شئون الدنيا، فكيف لا يحاسب الإنسان نفسه في سعادة الأبد وشقاوة الأبد، نسأل الله أن يجعلنا من الأبرار والسعداء ،قال ميمون بن مهران: لا يكون العبد من المتقين حتى يحاسب نفسه أشد من محاسبة شريكه،ومن فوائد محاسبة النفس يا عباد الله إنها تعرِّف الإنسان بنعمة الله عليه فيشكرها، ويستخدمها في طاعة الله ويحذر من التعرض لأسباب زوالها قال تعالى ((وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ)) [إبراهيم:7]. فبداية المحاسبة أن يقيس العبد ويوازن بين نعم الله عليه من عافية وأمن وستر وغنى وبين ذنوبه فحينئذٍ يظهر التفاوت فيعلم العبد أن ليس له إلا عفو الله ورحمته أو الهلاك.على المؤمن أن يحاسب نفسه فالطاعة والفروض رأس المال والمعاصي هي الخسائر، والنوافل هي الأرباح. وليعلم أنّ كل نفس من أنفاس العمر جوهرة نفيسة يمكن أن يشتري بها كنز من كنوز الآخرة. فإذا أصبح العبد وفرغ من صلاة الصبح ينبغي أن يفرغ قلبه ساعة فيقول لنفسه مالي بضاعة إلا العمر ولو توفاني الله لكنت أتمنى أن يرجعني إلى الدنيا يوماً حتى أعمل صالحاً ومن ثم ينوي فعل الخيرات ليكون من الرابحين.فهذا الربيع بن خثيم كان له تحت سريره حفرة كلما رأى من نفسه إقبالاً على الدنيا نزل فيها وكأنه في قبره ويصبح ويبكي وكأنه في عداد الموتى ويقول رب ارجعون رب ارجعون ثم يصعد من الحفرة ويقول يا نفس ها أنت في الدنيا فاعملي صالحاً.ويقول إبراهيم التيمي مثلت لنفس كأني في الجنة أكل من ثمارها وأشرب من أنهارها وأطوف في وديانها وأعانق أبكارها ثم مثلت لنفسي وكأني في النار أكل من زقومها وأشرب من حميمها وأصيح بين أهلها ثم قلت يا نفس أي دار تريدين فقالت أعود إلى الدنيا فأعمل صالحاً كي أنال الجنة فقلت يا نفسي هاأنت في الدنيا فأعمل.لنستمع ونفقه هذه الآيات التالية. قال تعالى قال تعالى: ((وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ كِرَامًا كاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ)) الانفطار:10-12،وقال عز وجل: ((وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشّمَالِ قَعِيدٌ مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ)) ق:16-18وقال سبحانه وتعالى: ((وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ)) لجاثية:28، 29، وقال تعالى: ((وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذّبُ مَن يَشَاء وَاللَّهُ عَلَى كُلّ شَيْء قَدِيرٌ)) لبقرة: 284وقال تعالى: ((وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِى السَّمَاء وَالأرْضِ إِلاَّ فِى كتابٍ مُّبِينٍ)) النمل:75،وقال تعالى: ((يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِى الصُّدُورُ)) غافر:19،
وقال جل وعلا: ((يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِى صَخْرَةٍ أَوْ فِى السماواتِ أَوْ فِى الأرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ)) لقمان:16وقال تعالى: ((فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه)) الزلزلة:7، 8، وقال تعالى: ((يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوء تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدَا بَعِيدًا وَيُحَذّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءوفُ بِالْعِبَادِ)) آل عمران:30،وقال جل وعلا: ((وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا))لإسراء:13، 14،وقال تعالى: ((وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا)) الكهف:49 وقال تعالى: ((وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا)) النبأ:29.
وإن من فوائد محاسبة النفس:
الاطلاع على عيوب النفس ، ونقائصها ومثالبها ، ومن ثم إعطاؤها مكانتها الحقيقية إن هي جنحت إلى الكبر والغطرسة .
أن تتعرف على حق الله تعالى وعظيم فضله ومنه عليك .
التوبة والندم وتدارك ما فات من الأعمال الصالحة في زمن الإمكان .
مقت النفس والإزراء عليها ، والتخلص من العجب ، ورؤية العلم ، قال أبو الدرداء : (لا يفقه الرجل كل الفقه يمقت الناس في جنب الله ثم يرجع إلى نفسه فيكون أشد لها مقتا”[2]
الاجتهاد في الطاعة وترك المعاصي حتى تسهل عليك المحاسبة في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون .
تزكية النفس وتطهيرها وإصلاحها وإلزامها أمر الله تعالى قال سبحانه وتعالى : ” قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا”[الشمس:9-10] .وقال مالك بن دينار : (رحم الله عبداً قال لنفسه : ألست صاحبة كذا ؟ ألست صاحبة كذا ؟ ثم ذمها ثم خطمها ثم ألزمها كتاب الله عز وجل فكان لها قائداً)[3] “ومن فوائد المحاسبة تربية النفس وتنمية الشعور بالمسؤولية ووزن الأعمال والتصرفات بميزان الشرع .
معرفة كرم الله سبحانه وتعالى وعفوه ورحمته بعباده إذ إنه لم يعجل العقوبة على أهل المعاصي والذنوب ، وأنه أرحم بالعبد من الأم بولده.
[1] للإطلاع على مراجعات حركة التوحيد والإصلاح انظر مقدمة خصائص منهجية في مسار حركة التوحيد والإصلاح
الحركة الإسلامية وإشكالية المنهج عبد الإله بنكيران سلسة اخترت لكم 2.
” الحركة الإسلامية المغربية صعود أم أفول ” للدكتور الريسوني منشورات ألوان مغربية.
معالم في منهج التغيير رؤية إسلامية ” للدكتور أحمد العماري سلسلة أفكار 2
[2] ــ الزهد للإمام أحمد، ص196 .
[3] ــ إغاثة اللهفان لابن القيم، ج1، ص79.
بقلم: عبد الرحيم مفكير

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى