السينما الإيرانية وسر التفوق

إعداد :عبد الرحيم بن بوشعيب مفكير
يمكن تلمس مفردات اللغة السينمائية الإيرانية في العصر الحديث، وبالأخص سينما التسعينات ما بعد الثورة الإسلامية في إيران، عبر قائمة المحظور في مفردات سينمائية معروفة في لغة السينما، إلا أن التحول السياسي من حكم الشاه لحكم الملالي ألقى بظلاله الثقيلة على اللغة السينمائية، لنجد أولها الحضور المشروط للمرأة سينمائيا عبر حجاب شرعي، فضلا عن منع مشاهد العناق أو التقبيل كونها تشكل إخلالا بالأدب العام وتطور كبير تحصد معه السينما الإيرانية أفضل الجوائز حتى في الديار الأمريكية، وتتفوق على العديد من التقنيات الحديثة والسينما العالمية وهي بذلك رسمت لنفسها مسار التفوق والتميز عن غيرها.
ولا بد من التأكيد ابتداء على أن السينما الإيرانية بالرغم من حراس المعبد الجدد بعد الثورة، استطاعت الانبعاث والانعتاق، حيث وظفت الرموز وتجاوزت حواجز السوق، وتناولت المعيشي اليومي للشعب الإيراني. ورسمت معالم سينما مؤثرة وفاعلة في محيطها وحول العالم.
بدايات السينما الإيرانية:
ظهر اهتمام الشاه مظفر الدين بالسينما جليًا، وتجلت نتائج هذا الاهتمام، عندما قرر أوفانيس أوهانين – الإيراني الأرمني – والذي درس في أكاديمية السينما بموسكو، العودة إلى إيران ليبدأ مشروعه السينمائي هناك، وليشهد عام 1930 تأسيس أوهانين لأول معهد لتدريس السينما في طهران، ويخرج معه إلى النور الفيلم السينمائي الإيراني الأول «آبي ورابي» في نفس العام. وهو فيلم صامت، مدته 35 دقيقة، ويحكي قصة كوميدية لمغامرات رجلين أحدهما طويل والآخر قصير، واستلهم أوهانين قصته من أحد الأفلام الدنماركية. وأخرجه أوهانين بمساعدة طلبة وخريجي معهد السينما الذي أنشأه هو. وبعد 5 أشهر فقط، أخرج الفيلم الثاني له «حاجي أغا» وقام أوهانين نفسه ببطولة الفيلم إلى جانب إخراجه. بعد ذلك بثلاثة أعوام، سيشق عبد الحسين سبنتا طريقه إلى الجمهور الإيراني ليصبح الأب الروحي للسينما الإيرانية الصوتية بإخراجه للفيلم الإيراني الأول الذي يحوي خطابًا بين أبطاله، وهو فيلم «The Lor Girl». وسيُخرج عدة أفلام تالية يحاول فيها التمسك باتجاه أصيل للسينما الإيرانية وسط اتجاهات من غالبية صُناع السينما في إيران لتقليد الغرب سواء بترجمة أو دبلجة الأفلام الغربية، أو بصناعة أفلام إيرانية تشبه في محتواها الأفلام الأجنبية. استطاع المخرج عبد الحسين سابنتا إنتاج أول شريط إيراني سينمائي ناطق تحت عنوان “بنت اللور” عام 1933، وبين عامي 1930 و 1936م، كانت الأشرطة المنتجة تسعة أفلام من بينها خمسة أفلام أنتجت في الهند، إلا أن تلك البداية الواعدة تعثرت بفعل الأوضاع السياسية الداخلية التي رافقت الحرب العالمية الثانية.بعد الحرب العالمية الثانية كانت هناك نتاجات أعمال ميلودرامية وكوميديا إلا أنها اتسمت بسمة واحدة هي السطحية والسذاجة، وكانت هناك أعمال نادرة اتسمت بجديتها، كأعمال المخرج والممثل إسماعيل كوشان، الذي أخذ حقبة صناعة الأفلام في إيران بعد الحرب العالمية الثانية، وكانت إنتاجاته الأولى فيلم “طوفان الحياة” ثم فيلم “سيرة الأميرة الفتاة الكردية”. شجع الجو الراديكالي في ظل حقبة رضا بهلوي في الأربعينيات، على إعادة نشاط المرأة خلال هذا العقد، كما أنه أسس مجلس الرفاه الاجتماعي للنساء والأطفال، فكانت وجهة الدولة في ذلك الوقت التركيز على المشكلات الاجتماعية المعاصرة كالنساء والطفولة، وتجاهل الانهيار السياسي. شهدت السينما الإيرانية فترة ركود تسبَّبت بها الحرب العالمية الثانية، وانتشرت الأفلام الوثائقية في ذلك الحين بشكلٍ كبير، إلا أن السينما الإيرانية سرعان ما استردت عافيتها، خاصة بعد تولي الشاه محمد رضا بهلوي، خلفًا لوالده. كانت سياسة محمد بهلوي تهدف لجعل إيران غربيَّة الطابع، وفي سبيل هذا قام بعدَّة إصلاحات كان منها ما يخصُّ السينما الإيرانية، حيث أنشأ العديد من دور السينما وأنفق على إنتاج الأفلام، فشهدت إيران في فترة حكمه طوفانًا من الأفلام ذات الإنتاج البخس، والتي كانت في مجملها تحمل الطابع الأمريكي أو الهندي. في هذه المرحلة وفي الستينيات، تأسست مرحلة جديدة للسينما الإيرانية اتجهت للتركيز على الصراع بين الحضر والريف، إذ تميزت تلك الفترة سياسيًا بفترة الثورة البيضاء التي أطلقها الشاه محمد رضا بهلوي، وما تبعها من مراحل للتحديث والتغريب. ويصور فيلم “قبعة من القطيفة” لإسماعيل كوشان ذلك التوجه، فهناك تجاور بين الريفي القروي وساكن المدينة ولغة حوار تعبر عن الفجوة الاجتماعية الظاهرة بينهما، وقد ظهرت بالتوازي مع تلك الفترة أفلام الأكشن التي تجاري السينما الغربية وهي أفلام الفتوات التي كان بطلها ناصر ملاك، إلا أنها لاقت نقدًا لاذعًا، فلم تكن تمثل المجتمع الإيراني.وظل ذلك حال السينما الإيرانية وحذرها من تناول الموضوعات السياسية تجاه الشاه، حتى عام 1969 بالتوازي مع إرهاصات الثورة وإشعال النار في ثلاثة دور للعرض السينمائي، حين أطلق المخرج داريوش مهرجوي فيلمه “البقرة-كاو” وهو الفيلم الذي شكل انطلاقةً حقيقيةً للسينما الإيرانية نحو جيل جديد. جاءت أهمية فيلم “البقرة” كونه أشار إلى حالة اجتماعية تقبل التأويلات السياسية من خلال تتبع حياة يوميات قرية تموت بقرتها الوحيدة، ما يدفع بصاحبها إلى الجنون، وقد عرف الفيلم طريقه إلى العالمية، فاقتنص إحدى جوائز مهرجان البندقية، وألهم الفيلم مجموعة من الشباب الحالم الذين كونوا “جماعة السينمائيين التقدميين” الذين احتلوا مكانةً مرموقةً في المشهد السينمائي الإيراني فيما بعد، هذا الجيل الذي شكل سينماه تحت ضغط رقابتين مختلفتين: رقابة زمن الشاه الاستبدادية السياسية، ورقابة الثورة الإسلامية المتشددة تجاه بعض المواضيع والمشاهد.
وكان اتجاه صناع السينما في تلك الفترة في إيران يتجه نحو تحقيق الربح المادي دون الاهتمام بالمحتوى المُقدم للجماهير.على الرغم من هذا، فقد أحدث فيلم «جنوب المدينة» للمخرج الإيراني فرخ جعفاري ضجة هائلة عندما منع الشاه عرضه. وهو الفيلم الذي يُعد الأول من نوعه في السينما الإيرانية، تم تصويره في أحد الأحياء الفقيرة في طهران، وكان يستعرض الحياة التي تعيشها الطبقة الإيرانية المعدمة، والذي يُعتبر مخرجه هو أحد مؤسسي «الموجة الجديدة» في إيران. ولم تكن الموجة الإيرانية الجديدة سوى محاولة لمجموعة من المخرجين الإيرانيين اتخاذ أسلوب بديل لعرض الواقع الإيراني، ففي الوقت الذي كان جل الاهتمام يتركز على أصحاب الطبقات الغنية وأصحاب النفوذ. اتجهت الموجة السينمائية الجديدة للطبقات الدنيا، وركزت على عرض صورة واقعية لتفاصيل حياتهم، وبسبب الضغط الذي فرضه الشاه على هذه النوعية من الأفلام، اتجه أصحابها للتعبير الرمزي عن القضايا الهامة، عن طريق تمثيل أفلام شعرية، وعرض القضايا من منظور طفولي والاستعانة بالحكايات الرمزية لإيصال فكرتهم.تركزت قضايا هذا الاتجاه في عدة موضوعات كالاغتراب، والتمدن في المجتمعات الريفية، وكُللت جهود المخرجين الإيرانيين في هذا الوقت بإنشاء معهد التنمية الفكرية للأطفال والشباب عام 1965، وكان للمعهد أثره الجلي على السينما الإيرانية لاحقًا، فمنه تخرج أمير نادري وعلي أكبر صادقي، وأيقونة السينما الإيرانية عباس كيارستمي. لم يستتب الأمر للسينما الإيرانية كذلك هذه المرة، فقد شهد عام 1979 قيام الثورة الإسلامية في إيران، وكانت نتيجتها الأساسية أن هرب الشاه محمد رضا بهلوي، وتولى الخميني حكم إيران. وقد اعتبر الخميني وأتباعه السينما رمزا للـ«انحطاط» الغربي، وأغلقت في بداية حكمه دور السينما، وتم تخريب العديد منها وإشعال بعضها الآخر، فقد شهد أغسطس (آب) لسنة 1979 حرق سينما ريكس والجمهور بداخلها، وهو ما تسبَّب في مقتل المئات من الإيرانيين. إن سينما ما بعد الشاه، بدأت بداية مهددة للسينمائيين داخل إيران، فأغلقت 180 دار للعرض، وسحب 2200 فيلم من السوق لإعادة فحصهم رقابيًا، وفي النهاية لم ينج منهم سوى مائتي فيلم بعد أن قصقص أجنحتها الرقيب، إذ فرض التوجه الرقابي الجديد على الشريط السينمائي أن يجتاز أربع مراحل قبل وصوله إلى المشاهد. وقد أُنشئت في ظل وزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي مؤسسة خاصة أطلق عليها مؤسسة الفارابي السينمائية، من خلالها حصرت عملية استيراد الأفلام الأجنبية، إلى جانب دعم السينما الوطنية، ما شكل مرحلةً لاحقةً كانت هي الأغنى والأكثر تحديدًا لهوية السينما الإيرانية في شكلها الحاليّ. وبعد أقل من عام ونصف على نجاح الثورة الإسلامية، وجد صناع السينما الإيرانيون أنفسهم في أتون حدث مهم سيطر ووجه كل شيء خاص بالدولة تجاه الحرب، وهي حرب الخليج الأولى ضد العراق، وكانت مهمة الإنتاج السينمائي في ذلك الوقت دعائية، بين الأفلام الدعائية الدينية أو الأفلام الحربية، وتأكدت في السينما الإيرانية صورة الطفولة، التي أصبحت علامة مميزة لمعظم الإنتاجات التي أنتجها عباس كيارستمي والمخرج مجيد ماجيدي، فمن خلال صورة الطفولة، كانت تستطيع أعمال المخرجين أن تنفذ من تحت مقص الرقيب بتجنب المجازفة في التعامل مع صور أخرى لا تأتي على مزاج الرقيب مثل الممثلات المتبرجات دون حجاب أو قصص الحب التي يسُمح فيها بالملامسة أو الاقتراب خاصة إذا كانت قصة حب دون زواج. لكن رغم التشدد الرقابي للسينما الإيرانية، استطاعت فترة الحرب أن تنفذ بعض التجارب الجريئة على أيدي مخرجات إيرانيات عالجن قضايا المرأة من وجهات نظر نسوية، كالمخرجة رخشان بني اعتماد ودارخشندة وتهمينة ميلاني وياسمين مالك ناصر، وكان هناك أيضًا توجه من بعض المخرجين الرجال لإنصاف المرأة كأفلام عباس كيارستمي ومحسن مخملباف. مرت عدة سنوات قبل أن تأخذ الجمهورية الإسلامية على عاتقها إعادة صناعة السينما الإيرانية من جديد، لكنها سينما تعكس القيم والتقاليد الإسلامية الإيرانية، فأُنشئ «معهد الأفلام الإيرانية» وهو مؤسسة تخضع مباشرة لسلطة الحكومة الإيرانية، وتتولى الرقابة على الأعمال السينمائية التي يتم إنتاجها وإخراجها داخل إيران كاملة. وتفرض هذه المؤسسة رقابة صارمة على المحتوى المُقدم من خلالها، وتُمنع المشاهد الجنسية والعنف غير المبرر وغيرها من القيود التي أثقلت كاهل صناع السينما، وتسببت في هروب الغالبية العظمى منهم خارج إيران.في نفس الوقت، ورغم القيود التي فرضها معهد الأفلام الإيرانية، إلا أنه المؤسسة الوحيدة التي سُمح من خلالها للمخرجين وصناع السينما بالعمل. ورغم القيود الصارمة التي فرضتها المؤسسة إلا أن مخرجين كعباس كيارستمي، ومحسن مخملباف وهما اللذان حصدا جوائز عالمية للسينما الإيرانية فيما بعد، وكانوا قد قرروا البقاء في إيران رغم القيود المفروضة عليهم، إلا أنهم قد وجدوا طريقتهم الخاصة خلال تلك القيود لإخراج ما لديهم للعالم في أفلامهم. تقول الجارديان في تقرير لها إن صناعة الأفلام في إيران الآن هي واحدة من الأكثر نشاطًا في العالم في هذا المجال، فهي تنتج أكثر من 100 فيلم في السنة، مع ملاحظة أن هذا الرقم يستثني الأفلام الوثائقية والأفلام التي تصنع بعيدًا عن أعين الحكومة وطوفان من الأفلام التي تنتج من أجل التلفزيون الإيراني نفسه. مع الوضع في الاعتبار أن فرنسا، وهي صانعة الأفلام الأكثر نجاحًا في أوروبا، تنتج 200 فيلمًا في السنة، بينما تنتج بريطانيا ما لا يزيد عن 100 فيلم سنويًا.وتمثل إيران حالة مثيرة للجدل – كما يخبرنا التقرير – ففي البلدان التي لديها صناعة أفلام كبيرة نسبيًا، فإن الأفلام صاحبة الأفكار البسيطة والمرتبطة بالعائلة، أو الـ «Art-house» تخسر أمام الأفلام التجارية أو بسبب الحملات الإعلامية الضخمة التي لا يكون لها منها نصيب. لكن، وفي دولة كإيران، حيث تعتبر الدولة هي المستثمر الأكبر في توزيع الأفلام، وحيث الرقابة صارمة على صناعة السينما، وحيث التوتر قائم بشكل دائم داخل المجتمع الإيراني بين التقاليد أو «المُثل الأخلاقية» وبين التطورات التي تفرضها الحداثة «المدنية/التحضّر»، نجد أن هذا الصراع المستمر هو ما يحفز الجمهور، وهو ما يمنح الأفلام الإيرانية ميزة على غيرها من الأفلام. تتجنب صناعة البطل، وتركز على تفاصيل شديدة الاعتيادية في الحياة اليومية، وتهتم كذلك بالأشخاص العاديين الذين لا يجذبون الانتباه، وهي كذلك تمتلك فن النهايات المفتوحة. كل هذا جعل السينما الإيرانية تختطف الأضواء في المهرجانات العالمية منذ التسعينيات وحتى الآن، وهي في كل هذا تحمل مميزاتها معها، تلك المميزات – كما يقول المخرج الإيراني خسرو دهقان – جعلتها، ليس فقط تنال تقدير النقاد وصناع السينما حول العالم، بل وتحفظ طريقها نحو الجوائز العالمية. وثائقي عن الفيلم الإيراني «انفصال»، الحائز على الأوسكار 2012 لأفضل فيلم أجنبي.وقد اشتعلت الأزمات في إيران مع الثورة الإسلامية وبعدها، فاحتجاز الرهائن الأمريكيين، والحرب العراقية الإيرانية، والخلافات الدولية والعقوبات على إيران بسبب الأسلحة النووية، كل هذا ألقى بظلاله على الساحة السينمائية، ففُرضت المزيد من القيود على الأفلام السينمائية، وشهدت صناعة السينما ركودًا تسبب في تهريب الأفلام الإيرانية للخارج، وبداية ظهورها على الساحة العالمية لتحتل مكانة سيشهد لها العالم فيما بعد.وكان فيلم «طرقات جليدية» للمخرج مسعود جعفري هو الفيلم الإيراني الأول الذي يحصد جوائز عالمية في مهرجان برلين الدولي الـ37. لحق به عباس كيارستمي عام 1997 عندما نال جائزة السعفة الدولية في مهرجان كان السينمائي عن فيلمه «طعم الكرز».
لقد كانت مرحلة الانفتاح عصيبة وصعبة للغاية، فلما تولى الرئيس محمد خاتمي شؤون البلاد عام 1997، شهدت السينما بعض الانفراج وانفتحت على السينما الغربية، وتم تخفيف القيود الرقابية إلى درجة تكاد تنعدم فيها، وقد وضع مسؤولية الفنان السينمائي أمام القضاء وليس أمام إدارة شؤون السينما بوزارة الثقافة. وكان مهرجان الفجر السينمائي الإيراني من أبرز تجليات تلك المرحلة، وعرفت السينما الإيرانية طريقها مجددًا للمهرجانات الدولية ووجدت سوقًا دوليةً لتلك الأفلام، ومن تلك الأفلام كان الفيلم المهم لعباس كيارستمي “طعم الكرز” الذي حقق جائزة السعفة الذهبية عام 1997، وفيلم “الدائرة” لمخرجه جعفر بناهي الذي حقق جائزة الأسد الذهبي وهي الأكبر في مهرجان البندقية السينمائي، وتوجت تلك المسيرة بمخرج شاب بارع اسمه أصغر فرهادي استطاعت أفلامه أن تصل للمهرجان السينمائي الأكبر “أوسكار” وتحقق جائزة أفضل فيلم أجنبي، ونال فيلماه “انفصال 2009″ و”البائع 2016” جائزة المهرجان. كان المخرج داريوش مهرجوني ملهمًا للسينما الإيرانية، لذلك الحديث عن السينما الإيرانية واتجاهاتها ينطلق من عنده، فكان لداريوش اتجاه واقعي يروي قصة واضحة ويطرح موضوعًا اجتماعيًا ملموسًا، وكان له اتجاه آخر سريالي يختلط فيه الخيال بالواقع ولا تخضع فيه القصص لمسار قصصي مألوف، بل تقدم مشاعر وأفكار وأحلام وحوادث تجتمع فيما يشبه الخليط الهجين، فأفلام البقرة وسارا وليلى تنتمي للتيار الواقعي عند مهرجوني، أما أفلام هامون وبري يمكننا أن نرى فيها تلك اللمحة السريالية. كما أن مهرجوني اهتم بشؤون المرأة المعاصرة وكان أبطال أفلامه من النساء، وركزت أفلامه الانتباه على مكانة المرأة وحقوقها في المجتمع وتجسيد لمعالجة أحد مظاهر تفضيل الرجل على المرأة والمرأة العاقر وخلافه من تلك المواضيع. “أطفال الجنة” هو عنوان فيلم للمخرج مجيد ماجيدي، والطفولة بشكل عام في إيران كما سبق الحديث تحظى بركيزة أساسية لتلك السينما، في أفلام مثل “باشو الطفل الغريب” لبهرام بيزائي و”العداء” لأمير ناضري مثلًا، يسمح الدور المنوط بالطفل أن يحيط جزئيًا ببعض الممنوعات المتعلقة بالكبار، ويعكس من جانب آخر تركيبة المجتمع الإيراني الذي لا يتجاوز نصف عدد سكانه سن الثامنة عشر. يبرز الطفل في أفلام السينما الإيرانية وسط الكبار الذين يتجاهلونه وقد استبد به القلق، ما يدفعه للهروب بعيدًا والاعتماد فقط على إمكاناته الخاصة، وهي الحبكة التي تظهر بوضوح في فيلم العداء لأمير ناضري. تركز أفلام أخرى على إدانة العنف الذي يتعرض له الأطفال، كفيلم “الجرب” الذي أخرجه أبو الفضل جليلي سنة 1988، وقد عاد المخرج بالزمن إلى عهد الشاه حيث أُلقي القبض على طفل صغير بتهمة بيع جرائد محظورة، وأرسل إلى إصلاحية في انتظار محاكمته، ومن خلال تلك القصة، يرسم لنا الفيلم لوحةً كئيبةً عن واقع السجون في عصر الشاه، بأسلوب شبه وثائقي، وقد لاقى هذا الفيلم قبول الرقابة بالطبع لأنه أدان بطريقة صدامية عصر الشاه وما كان يحدث فيه، أي أنه يناقش أحداثًا ولت بالفعل مع زمن الثورة. ويعرض أمير ناضري في فيلمه “الماء والرياح والغبار” صورة للطفولة المسلوبة، من خلال طفل يعمل في المدينة، ويعود ليجد أبويه ذهبا كباقي سكان القرية سعيًا وراء شربة ماء، وسيفقد الطفل الأمل في الالتحاق بوالديه اللذين ظلا يبحثان عنه، حيث سيتيهان في الصحراء، ويركز هذا الفيلم من خلال حكاية الطفل على قضية الجفاف التي لحقت وأتلفت محاصيل منطقة البلوشستان وهو الإقليم الأكثر نئيًا وتخلفًا في إيران. موضوع الطفولة مجرد ذريعة يتخذها صناع السينما الإيرانية من أجل التوثيق للمعيش اليومي للشعب الإيراني، وهو الوصف الذي تتخلله بعض الأفراح والمآسي الصغيرة، وستعيد تلك الأفلام ربط الاتصال بالتوجه الشعبوي التي تصور حياة الشعب الفقير في المدن، كما أن أفلام الطفولة ساهمت في بروز اتجاه آخر في السينما الإيرانية، سيتخذ السخرية والكوميديا أسلوبًا لمعالجة القضايا، الذي ظهر في أفلام كفيلم المستأجرون سنة 1985 وفيلم الأتوبيس لعبد الله صمد وأحذية ميرزا لمحمد متفاسلاني. وتعد الأفلام التاريخية الإسلامية أيضًا من المواضيع المهمة التي تركز السينما الإيرانية إنتاجاتها عليها، وتلك الأفلام بالطبع تركز على السردية الشيعية وزاوية نظرها للتاريخ الإسلامي في مظلومية بيت علي بن أبي طالب، وقد وصلت ذروة الإنتاج السينمائي الإيراني الديني في فيلم “محمد رسول الله” عام 2015 الذي أثار جدلًا كبيرًا عند ظهوره، وأيضًا في التاريخ الحاضر التركيز بصفة أساسية على الحرب الإيرانية العراقية التي تجلت بصورة خاصة في فيلم “تقطعت بهم السبل في العراق” عام 2002.وظهرت موجة أخرى في السينما الإيرانية، وهي موجة الفيلم المناهض لنظام الجمهورية الإسلامية وبالطبع ينتجها مجموعة من الفنانين المنفيين في الخارج، ومن أبرز هذه الأفلام فيلم “بيرسبوليس” 2007 الذي ترشح لجائزة الأوسكار. ورغم الإعاقات التي تعوق صناعة السينما الإيرانية بسبب السياسية في أحيان كثيرة، فإنها تستطيع فرض وجودها على السطح السينمائي العالمي، وقد استفادت السينما الإيرانية من التقنيات الحديثة، ومن عمل مخرجيها في الدول الأوروبية، فأصبحت تقدم الموضوعات الإيرانية الاجتماعية بأسلوب حداثي وتقني حديث، وأفلام تسترعي انتباه السوق التجارية والنخبة النقدية في جميع أنحاء العالم.
سر تفوق السينما الايرانية: في الوقت الذي نجد فيه الدول العربية ولاسيما الخليجية منها والتي تطل على سواحل إيران تستنسخ المركبات الرياضية العملاقة وناطحات السحاب الشاهقة وتتباهى بها, نجد إيران تستثمر في الثقافة والفكر والفن الذي يرفع من شأن شعبها.. وفي الوقت الذي نجد فيه المخرج المبدع العربي يقف لوحده في عراك مستميت لإنتاج فيلم واحد، وربما الانسحاب بعد ذلك من الساحة الفنية إلى الأبد, نجد إيران تتخذ إستراتيجية تلقي بكل ثقلها المادي والمعنوي وراء مخرجيها وتجعل من السينما نافذة يطل عبرها الشعب الإيراني على العالم قصد التواصل مع الثقافات والحضارات الأخرى. وتتخذ إيران أهم خطوة مسؤولة فتعين مفكرا وفيلسوفا على رأس وزارة الثقافة من سنة 1982 إلى سنة 1992, أي عشر سنوات. وتضم وزارة الثقافة مؤسسة الفارابي السينمائية, وتعهد هذا المفكر بالنهوض بالمشروع السينمائي الإيراني وتهيئ الأرضية اللازمة وإعادة الثقة والاعتبار إليها خلال السنوات العشر. فكان هذا الرجل بمثابة الأب الروحي للسينما الإيرانية. ولإيران عمق حضاري قديم وجذور متأصلة في الفلسفة وفي مجال الأدب والقصص والحكايات والإنجازات الفنية كافة، ما مكنها من نقل هذا السر إلى أفلامها في أبهى إبداعاتها. فالرصيد الإيراني الثقافي ضخم وذو قوة تأثيرية هائلة تصل إلى حدود الدهشة. ولم يبق لهذا المفكر إلا أن يوظف السينما بطريقة ذكية لاستغلال هذا الإرث الثقافي لإشعاع الثقافة الراقية والفنون الهادفة. فالسينما مرآة عاكسة للمجتمع والحياة تزداد قيمتها بازدياد ما تعكس. وأنجح الأفلام هو ما عبر عن حقيقة أو هوية مع احترام مفاهيم التراث من تقاليد وأصالة وعادات حتى يسمو لأعلى المراتب. فأول ما قام به هذا الفيلسوف هو إعادة الثقة إلى نفوس المخرجين الإيرانيين الذين حرموا أن ينهضوا بوطنهم على عهد الشاه. وكوّن جيلا جديدا وعددا كبيرا من الجنسين يتعامل مع الإخراج السينمائي من منطق الثقة والقدرة. نشير هنا أن في إيران أكثر من 500 مخرج ويتخرج من معاهدها 20 امرأة مخرجة سنويا وبذلك تتفوق حتى على الدول الغربية. إلا أن رؤى هذا المفكر وزخمه الثقافي أظهر ثماره في غضون ثلاث سنوات فقط. ففي سنة 1985 فاز أول فيلم إيراني “العداء” لمخرجه أمير نادري بأول جائزة دولية كبرى لأفضل فيلم في مهرجان القارات الثلاث في نانت بفرنسا.هذا المفكر هو محمد خاتمي, الذي أصبح فيما بعد رئيسا للجمهورية الإسلامية سنة 1997. كان خاتمي على قناعة, وارثه الثقافي يشهد بذلك, أن حرية التعبير هي الطريق الوحيد للنهوض بالمهمة الثقافية السينمائية. وهذه الحرية تتمثل في استقلالية الإنتاج السينمائي. فأنشأت وزارة الثقافة الإيرانية “مدينة سينمائية” جندت لها كل الطاقات ورؤوس الأموال وآخر المكتشفات التقنية والتكنولوجية المتطورة، كما هي الحال في استوديوهات هوليود. بذلك تكون وزارة الثقافة أعدت الأرضية اللازمة للسينما الإيرانية خلال السنوات التالية كما أنها أتاحت الجو اللائق للمخرجين حتى يبدعوا في انتاجاتهم. وفتحت وزارة الثقافة هذه المدينة لكل المخرجين الإيرانيين دون استثناء وبأرخص الأثمنة في العالم. ويقوم بالإنتاج السينمائي المخرجون بصفتهم منتجين منفذين ويحصلون على الدعم لأول ثلاثة أفلام ويتم شراؤها وتقوم شركة توزيع كبيرة أنشأتها الدولة بتوزيع الأفلام داخليا وخارجيا. وبنت أرقى واكبر عدد ممكن من دور السينما (في الوقت الذي تغلق فيه السينما أبوابها في المغرب-آخرها سينما الحرية بالدار البيضاء أغلقت وتعرض للبيع- وسينما بالاص ( (Palaceوالرجن (Regent)بمراكش، أصبحتا مكان استقطاب للتبول على حيطانها) ونجد أن في طهران لوحدها أكثر من 100 قاعة سينمائية كما أن هناك مركبات قيد البناء تتسع ل1200 متفرج. كما دشنت وزارة الثقافة مهرجان الفجر السينمائي الذي لا يكتفي في نشاطه بدعوة ضيوف أجانب، ويقيم لهم الحفلات الصاخبة, وتهدر الأموال الباهظة بدون فائدة, بل الغرض أن يكون وسيلة لإنجاز إنتاجات مشتركة ودفع عملية تعاون أوثق مع المهرجانات الأخرى وتبادل الآراء على المستوى العالمي. وأصبح يعد تظاهرة فنية عالمية تستقبل أكثر من 45 دولة من بينها أمريكا, فرنسا, اليابان, بريطانيا, ايطاليا, الصين, ألمانيا, هولندا, ودول أمريكا الجنوبية وغيرها. وتوافد على المهرجان في السنة الماضية أكثر من 200 وكيل من 47 بلد و123 موزع ومنتج عالمي بما فيهم الولايات المتحدة, كما حضر 91 موفدا من المهرجانات العالمية (لوكا رنوا, كان, البندقية, برلين, تورنتو) هذا بالإضافة إلى 141 وكيل من 39 شركة إنتاج إيرانية حيث تم تبادل الأفلام الهامة المنتجة. بقي أن نشير أن إيران تنتج 130 فيلما سنويا والإقبال عليها داخل إيران ضخم. ففي سنة 1992 حج إلى السينما 54 مليون متفرج وفي سنة 1994 صعد الرقم إلى 56 مليون ومنذ ذلك الحين وهو في تزايد. صحيح أن إيران دولة غنية وكذلك الدول الخليجية المحيطة بها ومع ذلك لم تنتج السعودية في تاريخها الحديث إلا فيلما واحدا “كيف الحال” وكان خسارة كبيرة! هكذا وضع محمد خاتمي الحجر الأساس للمشروع السينمائي الإيراني الذي بات يرقى سنة بعد أخرى إلى المستوى العالمي وأصبح نموذجا يمكن أن يحتدى به حقا على مستوى الإنتاج. واقتنع أن الارتقاء بالموهبة السينمائية رهين باستقلاليتها وحريتها. هذه الاستقلالية وحرية القرار سبب مباشر في ظهور عدد من الروائع السينمائية وتكوين رؤية خاصة لكل مخرج دفعت بالفيلم الإيراني أن يرقى وبفترة قصيرة ونموذجية إلى مكانة عالمية. وبسبب هذه الاستقلالية شهدت السينما الإيرانية مخاضا ثقافيا وفكريا وسياسيا مهد لظهور الفيلم الإيراني الرائد خلال الثمانينيات حققت خلالها إنجازات هامة تجسدت من خلال أفلام استطاعت أن تفرض وجودها في المشهد السينمائي العالمي وتحقق نجاحات طليعية. ويمكن القول إن السينما الإيرانية قد حصلت على اعتراف عالمي بمميزاتها الخاصة انطلاقا من إمكانيات مادية محدودة عوضتها بجمالية الصورة وبساطة الخطاب الذي استطاع أن يلمس جوهر القضايا الإنسانية وينفذ إلى اكبر عدد ممكن من الجمهور. وفي عام 1997 جاء محمد خاتمي إلى السلطة وأكمل مشواره الثقافي، كما أسلفنا، وكان من أهم برامجه الحوار بين الحضارات ومن بينها الحوار الثقافي والفني، وأصبحت السينما الإيرانية حديث المهرجانات الدولية كافة.
إحصائيات عن السينما الإيرانية:
تقيم إيران مهرجان فجر السينمائي الدولي منذ 40 عاماً، إلى جانب عشرات المهرجانات السينمائية التي تقام على مدار السنة، وهذا ما شجع على تفعيل صناعة السينما في البلاد، إذ أن التداول المالي في السينما الإيرانية يصل لحوالى 300 مليار تومان، ما يعادل 10 ملايين دولار سنوياً، وهذه البساطة في السينما الإيرانية والميزانيات القليلة تدلنا على أسلوب سينمائي يميز المخرجين الإيرانيين عن الآخرين في رسم حبكة درامية جذابة تجعل المشاهدين يعيشون أجواء الأفلام متفاعلين مع شخصياتها. منذ عام 1930 إلى 2022، تم إنتاج 4 الآف فيلم سينمائي إيراني، كما تمتلك البلاد نحو 650 صالة سينما، إلى جانب نشاط عشرات المعاهد التعليمية في مجال التمثيل وبقية الوظائف السينمائية، فضلاً عن كلّيات العلوم السينمائية والثانويات المخصصة للفتيات والفتيان. وعلى الرغم من أنها بارعة في النوع الاجتماعي، إلا أن السينما الإيرانية تتنوع في إعداد الأفلام البوليسية والكوميدية والرعب والرسوم المتحركة والشاعرية، كما يتعاون بعض نجومها مع هاليود. ولكن مازال يشتكي نجوم الفن من الرقابة الصارمة التي تطال أعمالهم، فبينما أهدى مهرجان البندقية السينمائي جائزته إلى المخرج جعفر پَناهي لأحدث أفلامه “لا أعباء”، يخضع الرجل للحبس منذ تموز/ يوليو الماضي، ليقضي عقوبة بالسجن لستّ سنوات بعد إدانته بتهمة “الدعاية ضد الجمهورية الإسلامية”.
خصائص السينما الإيرانية:
تمكن السينمائيون الإيرانيون بفضل كفاءتهم وجرأتهم وحبهم للفن السابع من العمل وتقديم أفلام واقعية تحمل رسائل إنسانية ومسحة جمالية وتحترم القيم ولا تشتم في ثوابت التراث, ولا تتاجر بجسد المرأة ومن دون أن تكشف حتى غطاء رأسها، ولا تغطي بالضجيج والعنف الغير الواقعي والنماذج البطولية المزيفة تفاهة المضمون ولا تعتمد على ميزانية الديكورات الضخمة. إنها سينما بالغة البساطة, ملتزمة وهادفة, وبذلك تكون قدمت مجموعة من روائع الأفلام ونماذج عظيمة للفن الإنساني الراقي. وأبرع ما في ذلك أنها تعتمد في تصوير الكثير من الأفلام على كاميرا الفيديو الرقمية المحمولة على الكتف (أغلب الأفلام الإيرانية تنتج بأقل من200 ألف دولار أي حوالي 180 مليون سنتيم مغربي وتحصد الأرباح الكثيرة مثل فيلم “أطفال الجنة” الذي حقق أرباحا تتمثل في المليون دولار من أمريكا وحدها!). والاهم من ذلك أنها ليست سينما نجوم, فمعظم أبطالها ليسوا ممثلين محترفين. أما السيناريو فهو يحمل عمقا مدهشا ولغة ثرية متنوعة ومكتوب بنكهة الإبداعات القصصية الراسخة في الثقافة الإيرانية الشعبية وتشم من خلاله رائحة حافظ الشيرازي وعمر الخيام وجلال الدين الرومي. ونظرا لطبيعته التأملية والفلسفية وقيمة مادته الجمالية ولغته التعبيرية يصبح السيناريو واحدا من أهم خصوصيات وميزات السينما الإيرانية. فالطابع الشرقي المحلي حاضر, والهوية الثقافية مستمدة من الواقع الاجتماعي وقمة التمثيل تدهش المشاهد ومهارة الكاميرا وتحكمها في المشاهد ودقة اختيار مواضيعها والتركيز على الحس الجمالي في أرقى مستجدياته حتى تحس أنك أمام السجاد الإيراني المفعم بروعة الفن وجمال النقوش والألوان التي تعبر بدورها عن شاعرية الإنسان الإيراني ودفئه العاطفي وحبه للفن.
والسينما الإيرانية مختلفة من خلال تأكيدها على هويتها وخصوصياتها وتفردها وعدم تشبهها بأي سينما أخرى. ومعروف أن أهم ما يميز السينما الإيرانية يتمثل في بساطتها العميقة في مضامينها ورمزيتها مما جعلها تنافس المستويات العالمية. وشكل الرهان على المحلية الذي اعتمدت عليه الأفلام الإيرانية أهم خطواتها نحو العالمية إذ اهتمت بتوثيق مشاغل مجتمعها وهمومه وتخلت في المقابل على الإكسسوارات الزاهية واهتمت بالمواطن الإيراني وآلامه وهواجسه. وبذلك تكون السينما الإيرانية قدمت استعراضاً راقياً يصل إلى الجمهور المحلي والعالمي يستحق كل الإعجاب والتقدير. والسينما الإيرانية, كما اشرنا سابقا, مثل السجاد الإيراني: لوحة بديعة تنبض بالجمال وبشاعرية فياضة. وكان لزاما على المتفرج أن يدقق بعين ثاقبة لان السينما الإيرانية بها غموض غريب وإثارة لا يستطيع معها المتفرج الإمساك بالمعنى الذي يريد المخرج التعبير عنه. فالتفاصيل فيها مهمة لأنها تحمل الكثير من ألوان الطبيعة الشعرية والقصصية التي تزخر بها الثقافة الفارسية المليئة أيضا بالرموز الروحية والتعبيرات والإيحاءات الخفية. فهم يحكون قصة لكنهم لا يكشفون كل جوانبها ويتركون هذه المهمة للمتفرج ليتفاعل معها. فيكون الفيلم بديعا في تفاصيله وألوانه, مليئا بالفلسفة والعمق والتناغم الشعري، غنيا بالمشاعر الإنسانية المستلهمة من الهوية والكرامة والحضارة الإيرانية.( انظر السينما الإيرانية نموذجا في العالم الإسلام لندة واضح، وهند عبد الحميد سينما النهايات المفتوحة لمحات من تاريخ السينما الإيرانية).
سينما بلا جسد:السينما الإيرانية نموذجا:
شكل الجسد أساسا في الرؤية النسوية الناقدة للسينما وكذلك لصناع السينما والمخرجين، ولكن ماذا إذا أصبح الجسد محرما في السينما هل يمكن عندها إبداع سينما تتوجه إلى شخصية المرأة كانسان ، يستمد أهمية وحضوره من دوره لا من جسده.
لا يبدو هذا الطرح ضربا من التخيل في السينما الإيرانية وخاصة الأفلام التي قدمتها مخرجات إيرانيات، وهي أفلام تصلح نموذجا لمناقشة إشكاليات حضور المرأة المسلمة في السينما، ومدى القدرة على طرح موضوعات مثل:المساواة والحرية والدور الاجتماعي في سينما محكومة بقوانين إسلامية صارمة فيما يتعلق بالجسد وجسد المرأة على وجه الخصوص.
ففي ساحة يغيب عنها التنظير ببعده الأكاديمي البحت على هذا الصعيد تظهر التجربة النسوية الإيرانية في صناعة السينما ملفتة للانتباه، ففي مجتمع محكوم بأنظمة صارمة تتواجد أكثر من عشرين مخرجة إيرانية من فئات عمرية مختلفة، بعضهن استطاع أن يحفر لاسمه مكانة مهمة داخل إيران وخارجها.
مارست السينمائيات الإيرانيات عمليات تحايل طويلة وصعبة ،فيها ابتكار وتحد للتغلب على قيود غياب الجسد في السينما، وأفرز هذا “التحايل” نوعا من السينما تتواجد فيه المرأة كشخصية قوية مؤثرة ، متعلمة، مستقلة تكتسب حضورها وتأثيرها من خلال عوامل عديدة، اجتماعية وثقافية دون أن يكون للجسد تأثيره ، لتتحول المتعة البصرية إلى مسارات أخرى تحضر المرأة فيها وتغيب في الوقت ذاته.
تختلف وجهة نظر المخرجات الإيرانيات في نظرتهن لقضية غياب الجسد في السينما، وفيما تعتقد تهمينة ميلاني أنها معضلة كبيرة دفعتها أخيرا للجوء إلى الهند لتصوير فيلمها “شهرزاد” الذي يستحيل تصويره في إيران كما تقول، تقلل رائدة السينما الإيرانية رخشان بني اعتماد من هذه المسألة وترى أن المعضلة لا تكمن في القيود الصارمة على حضور المرأة الجسدي بقدر ما تتجلى في الحيلولة دون تناول الكثير من الموضوعات الاجتماعية وإدراجها في قائمة المحظور ، و تميل مخرجة فيلم “سجن النساء” منيجة حكمت إلى مشاركة بني اعتماد في هذا التوجه،وترى أن المهم هو أن يبقى هناك مجال ل”التحايل” ، وتذليل الصعوبات قانونيا و اجتماعيا. ومن الجيل الشاب ، يحضر الجسد في شكل أسئلة حوارية ملحة، مصبوغا بصبغة نسوية عند المخرجة مانيا أكبري ، التي لا تحبذ وصفها بالنسوية.
تبدو طريقة المخرجات الإيرانيات في التحايل على محظورات الجسد ابتكارية، فقد قدمت المخرجة منيجة حكمت ، بطلتها في فيلم “سجن النساء” حليقة الرأس متغلبة بذلك على “حرمة كشف الشعر” ، لتتشكل في السينما الإيرانية ظاهرة “حليقات الرأس” ، ورغم التوظيف الدرامي لذلك في هذا الفيلم والأفلام الأخرى، إلا أنها تمثل في حقيقتها خطوة احتجاجية على هذا المحظور. ونجحت بني اعتماد في تقديم مشهد رقص مؤثر في واحد من أفلامها، وهو الفيلم المهم “نرجس” الذي ناقش للمرة الأولى بصورة عميقة موضوع المرأة التي تبيع جسدها..وفي فيلم آخر هو “سيدة أيار” غيبت بني اعتماد الرجل كحضور جسدي بالكامل وجعلته يتواجد من خلال صوته فقط في نص عميق ومؤثر لتتمكن من تصوير علاقة بين رجل وإمرأة مطلقة.وذهبت أول مخرجة إيرانية بعد الثورة الإسلامية وهي بوران درخشنده إلى الاستعانة بممثلة أجنبية و التصوير خارج إيران لتتمكن من تقديم صورة واقعية للمرأة.
في هذه السينما التي يعد تقديم لقطة قريبة “close up” لوجه المرأة محظورا بنص قانوني، وتبدو نتائج تحليل محتوى الأفلام الذي أجريته على السينما الإيرانية منذ عام 1979 وإلى عام 2009 مفاجئة ، فالسينما النسوية الإيرانية ورغم محظورات الجسد هي سينما تقوم في محورها على المرأة (النوع الاجتماعي) ، وشخصية البطل في جميع الأفلام كانت (امرأة) ومن بين 639 مشهدا كان البطل متواجدا فيها وصلت نسبة المرأة البطل الى 92.5%. وقدمت المخرجات الإيرانيات صفات جديدة لشخصية المرأة في السينما:امرأة مستقلة جريئة، متعلمة(90% من الشخصيات النسوية في الفيلم متعلمات )تتحمل مسؤولية الحياة بمفردها، وتستمد حضورها من نفسها لا من أب أو زوج .
قامت المخرجات الإيرانيات بمعالجة قضية المرأة من منظورين:
قدرة المرأة : وتستمدها من بعض الأدبيات النسوية.
الدور الاجتماعي : وهو دور ناشئ عن التغيير الواقعي والملحوظ لدور ومكانة المرأة في المجتمع الإيراني,
وعليه لا يعد مفاجئا الاهتمام الذي تبديه المنظرة مالفي بالسينما الإيرانية فالمخرجات الإيرانيات قمن بتغيير نظريتها الشهيرة “التحديق” ، بحیث أصبحت الكاميرا تنظر إلى المرأة بوصفها إنسانا فاعلا وإلى المرأة الفنانة كالدور الذي تؤديه امرأة قوية و مستقلة .و لا تضع نظرة المشاهد في مجال المشاهد الذكر .. وفي هذه السينما تكون المرأة مشاهدة و مشاهدة في الوقت نفسه, ويمكن القول أن السینما النسویة أو “النسائية” الإيرانية في مجموعها هي رواية للقصة من وجهة نظر النساء.( انظر فاطمة الصمادي : باحثة وأكاديمية أردنية ، دكتوراة في السينما الإيرانية من طهران)
جميلات ورقيقات: نساء يخرجن أفلامًا:
عباس كياروستامي “أستاذ في العاطفة العميقة” حصل على العديد من الجوائز السينمائية مثل النخلة الذهبية في مهرجان كان السينمائي عن فيلمه “طعم الكرز”.وكذلك شكَّلت فترة التسعينيات التي كلِّلت بالنجاح حقبة الأفلام النسوية الإيرانية؛ وأهم مخرجات هذه الحقبة هما تامينه ميلاني Tamineh Milani وراخشان بني إعتماد Rakhshan Bani-Etemad. واتَّبعت الأعمال المتنوِّعة الخاصة بتامينه ميلاني والتي تعتمد في موضوعاتها على سينما هوليوود – من ميلودراما أو فكاهة أو كوميديا – نمطًا واحدًا، كثيرًا ما تظهر فيه امرأة مثقَّفة يسيطر عليها رجل عادي تعطيه الأسرة والبنى الاجتماعية ذات الفكر الذكوري الحقّ في فعل ذلك.ولكن مقابل هذه النمطية الأنثوية التي انتشرت حتى ذلك راهنت راخشان بني اعتماد على عرض صور شخصية دقيقة وواقعية لنساء يتحتَّم عليهنَّ النجاح في حياة يومية متعبة (على سبيل المثال نساء وحيدات يتولين تربية أطفالهنَّ أو فنَّانات.وهؤلاء المخرجات اللواتي كان يسخر بهنَّ في البدء زملاؤهم المخرجون أصبحن بعد فترة قصيرة يحدِّدن شكل السينما الإيرانية، حيث كان يثبت ذلك من خلال حجم مبيعات تذاكر أفلامهنَّ في دور السينما؛ إذ حقَّق الفيلم الكوميدي الذي أخرجته تامينه ميلاني بعنوان “Cease Fire” أعلى نسبة عرض في دور السينما على الإطلاق.
وصار يوجد في هذه الأثناء عدد متزايد من المخرجات الإيرانيات، مثل سميرة مخملباف ومرزة مشكيني ومانيجة حكمت ومانيا أكباري. وقد أصبح بعض الممثِّلات الإيرانيات قدوة ونموذجًا بالنسبة لجيل الشابَّات الإيرانيات؛ إذ تجسِّد نيكي كريمي وهدية تهراني وغولشفتة فرحاني الشابات الجميلات بنات المدن اللواتي كثيرًا ما يكنَّ رقيقات وعاطفيات ودائمًا واثقات بأنفسهنَّ. وفي عهد “الرئيس الإصلاحي” خاتمي أصبح الأطفال الصغار شبابًا ناشئين كانوا يرغبون في المشاركة بشكل فعَّال في العولمة وفي ثقافة موسيقى البوب المصبوغة بصبغة إيرانية.
إيران تهزم البحرية الأمريكية في فيلم رسوم متحركة: “معركة الخليج الفارسي 2”.
في ظل تصاعد التوتر في منطقة الشرق الأوسط نتيجة الخطاب المتشدد الذي يستخدمه الرئيس الأمريكي الجديد دونالد ترامب تجاه إيران، تشهد دور السينما الإيرانية قريبا عرض فيلم الرسوم المتحركة “معركة الخليج الفارسي 2” الذي تحدث فيه مواجهة عسكرية بين إيران والولايات المتحدة ينتهي بهزيمة الأخيرة هزيمة منكرة.
يبدأ قريبا عرض فيلم رسوم متحركة طويل يصور مواجهة مسلحة بين الحرس الثوري الإيراني والبحرية الأمريكية في دور العرض بإيران في ظل تفاقم التوتر بشأن لغة الخطاب المتشددة التي يستخدمها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ضد طهران.
وقال فرهاد عظيمة مخرج فيلم (معركة الخليج الفارسي 2) إنها صدفة مذهلة أن يتزامن عرض الفيلم – الذي استغرق صنعه أربعة أعوام – مع وصول رئيس يريد إشعال حرب إلى البيت الأبيض.وقال في مقابلة هاتفية من مدينة مشهد في شرق إيران “آمل أن يظهر الفيلم لترامب كيف سيلاقي الجنود الأمريكيون هزيمة مذلة إذا هاجموا إيران”.ويبدأ الفيلم الذي تبلغ مدته 88 دقيقة بهجوم من الجيش الأمريكي على مفاعل نووي إيراني ومن البحرية الأمريكية في الخليج على مواقع إستراتيجية في جميع أنحاء البلاد.ويرد الحرس الثوري الإيراني بكامل قوته ويطلق صواريخ باليستية على السفن الحربية الأمريكية. ويقول عظيمة “تغرق (كل السفن) وينتهي الفيلم وقد تحولت السفن الأمريكية إلى أحواض لأسماك في قاع البحر.”وقال ترامب إنه لن يكون “عطوفا” على إيران مثل سلفه باراك أوباما محذرا من أن الخيارات العسكرية مطروحة على المائدة فيما يتعلق بالرد على الجمهورية الإسلامية.
*القائد قاسم: رُسمت شخصية القائد الإيراني الرئيسي في الفيلم مثل قاسم سليماني قائد الحرس الثوري الإيراني، استشهد مؤخرا، الذي يشرف على العمليات العسكرية الإيرانية ضد الإسلاميين المتشددين في سوريا والعراق. وذكر عظيمة أنه سعى للتواصل مع سليماني لضمان أنه لا يعارض ظهوره في الفيلم لكنه لم يتلق ردا. لكن شخصيات بارزة مقربة من سليماني طلبت من المخرج أن يحتفظ بالشخصية لكن أن يسقط اسم قاسم في النسخة النهائية من الفيلم.وقال المخرج البالغ من العمر 35 عاما “هوليوود أنتجت الكثير من الأفلام ضد إيران. هناك الكثير من ألعاب الكمبيوتر التي يهزم فيها جنود أمريكيون بلادنا. هذا الفيلم هو رد على هذه الدعاية. “لكنه أضاف أنه على النقيض من الموارد الهائلة المتاحة في هوليوود فإن أستوديو فاطمة الزهراء للرسوم المتحركة به فريق صغير ويعمل بميزانية محدودة. وأضاف أنهم لم يتلقوا أي تمويل من الحكومة وليسوا مرتبطين بالحرس الثوري الإيراني.وتابع “رسامونا لا يعملون من أجل المال لكن من أجل معتقداتهم وحبهم لبلادهم. والحمد لله الكل متفاجئ لأننا تمكننا من إنتاج فيلم بهذه الجودة العالية في ظل هذه الظروف الفقيرة”. وذكر أن العرض سيبدأ بمجرد حصول الفيلم على التصاريح اللازمة من السلطات الثقافية.وأثار الإعلان التسويقي للفيلم بالفعل ضجة على مواقع التواصل الاجتماعي ونشره آلاف الأشخاص. ويعتقد المخرج أن الشبان الإيرانيين أبدوا اهتماما بالفيلم لأنهم “يريدون أن يريهم شخص ما قوة بلادهم”.
خلاصة: عاشت السينما الإيرانية تحولات وتجاذبتها توجهات، وأثرت فيها خيارات حكامها، وتعامل مخرجوها ومخرجاتها، والمبدعون بحكمة وفنية راقية لتقديم أعمال إنسانية، حازت أفضل الجوائز، ورسمت مسارا مخالفا للسينما العالمية تميز بخصائص ومرتكزات إبداعية وإنسانية وقدمت خدمة للإنسانية، بالرغم من الرقابة والقيود التي فرضها النظام. يقف الإبداع مهما كان نوعه وخاصة في السينما والمسرح والأدب على يقين تلك المفاهيم ويقاس بسمك تفاوتها ليمنح شهادة التميز والمعنى الحقيقي للإبداع ؟فهناك من يرى الإبداع بالتحرر البعيد عن المفهوم العقلي وربما الديني للحرية، وهذا هو القيد المقصود في اختلاف المفاهيم، لأنه لا يوجد تضاد آخر، أو بالأحرى عدو آخر، يمكنه أن يخلق إشكالية الإختلاف والتفاوت بين العقول وبما ان السينما الإيرانية مرتبطة بدولة إسلامية فحتما سيكون الإبداع قاصر في نظر المريدين للتحرر للتفسخ إذ لا يمكن أن يكون استبداد السياسة على الحريات قيد في رقابة السينما في دول العالم والتي تحد في الواقع من السمو الإبداعي بقدر الإسلام لحمله المفهوم الأثرى للحرية . هناك حريات ترنو التفسخ الأخلاقي الذي هو ركيزة الإبداع في مفاهيمها مهما كانت سطحية الأفلام وعروض الإثارة فما يفهمه القانون الرقابي في إيران الإسلامية يمضي عكس تيار الانفتاح مما يكسر مجداف الإبداع للسينما الإيرانية كما يفهم المتحذلقون.
لكن ما يؤكد جمال القيد الديني في الأفلام السينمائية الإيرانية قد بصم أفلامها بإبداع القيم والذي شد انتباه العالم بنجاحات السينما والتي حصدت الكثير من الجوائز العالمية مما يؤكد أن الإبداع قيمة أرحب من أن تحصرها الأديان أو تقوسها المفاهيم.