الظواهر الخفية في الاحتفالية والعيدية

ــ بقلم: عبد الكريم برشيد
فاتحة الكلام
يقول الاحتفالي ليست كل الأشياء يمكن ان نراها، وأخطر كل الأشياء واصدقها كلها هي تلك التي قد يصعب ان نراها، والتي قد يراها العلماء والشعراء والحكماء وحدهم دون غيرهم, والتي قد يعرفها العارفون فقط، دون غيرهم، ونحن نعرف، كما كل العالم بعرف، أن انلعربات التي تتحرك، وان السيارات التي تسير، وان الطائرات التي تحلق في السماء، كلها تتحرك بمحرك يحركها، والذي يكون دائما غير ظاهر، وهذا هو حال العربة الاحتفالية، والتي لها محرك عاقل يحركها، ولها وجدان، ولها روح، ولها خيال يحلق بها في أعالي السماء
والاحتفالية ظاهر وخفي، وما خفي فيها اعظم واكرم مما ظهر، وهي حقائق حاضرة واخرى غيرها غائبة او مغيبة، وفيها اسئلة مطروحة للناس، وفيها اسئلة اخرى ومسائل أخرى مؤجلة
والاحتفاليون، في عربتهم الاحتفالية المتحركة مختلفون ومخالفون بالضرورة، وهم مختلفون من حيث طريقهم وطريقتهم، ومختلفون في وجهتهم الخاصة، وهذا هو قدرهم الذي اختاروه واختارهم, وبهذا فقد كان طريقهم مختلفا ايضا، وكانت وجهتهم مختلفة، وكانت سرعتهم مختلفة، وكان احساسهم بالوجود في الطريق الوجودي مختلفا ايضا، وكانت قناعاتهم الفكرية مختلفة، وكانت مواقفهم ايضا، مما يحدث ويجري، مغربيا وعربية ودوليا. مختلفا
وما يميز كل الاحتفالبين الصادقين، في عربتهم التي تسير بالطاقة العقلية والوجدانية، والتي هي طاقة حية، هو انهم قد مارسوا حقهم المشروع في الاختلاف الجميل والنبيل، وقبل هذا فقد مارسوا فعل البحث وفعل الاجتهاد، خدمة لمولاتنا الحقيقة، وليس لأي شيء آخر، ويمكن أن نلاحظ اليوم، تماما كما لاحظ الجميع من قبل، وعلى امتداد عقود طويلة جدا من تاريخ قرنين والفيتين، بأن هذا الاختلاف الفكري الجاد والصادق ـ ورغم شفافيته وبراءته ونبل مقصده ـ قد دفع الاحتفاليون ثمنه غاليا جدا، ولقد عرضهم لكثير من الخصومات ومن المعارك ومن الحروب المجانية الطويلة، والتي ليس لها اي معنى، ولقد كان ذنبهم الوحيد هو أنهم فكروا، بصدق وعفوية، وأنهم كانوا أنفسهم، ولم يكونوا غيرهم، وأنهم قد عاشوا أفكارهم، وأنهم تماهوا في هذه الأفكار لحد الحلول الصوفي، ولقد قالوا في المنتديات المفتوحة، وكتبوا في الكتابات، وبينوا في البيانات، وذلك على امتداد عقود طويلة جدا، بأن هذه الأفكار قد تكون ناقصة، كما يمكن أن تكون خاطئة، أو تكون غير ناضجة، ومن يدري، فقد تكون حالمة وواهمة وحمقاء ومجنونة أيضا، ولكنها بالتأكيد أفكارهم، والتي هي ظل وجودهم، وهي ظل لغتهم، وهي ظل ثقافتهم، وظل حضارتهم، وهي ظل جغرافيتهم الآن ـ هنا، والتي ليس لهم غيرها، ولقد رفضوا أن يعيشوا في جلباب ماركس أو في جلباب لينين أو في جلباب ماوتسي تونغ، أو في جلباب فرويد أو في جلباب داروين او في حلباب بريشت، أو في جلباب أية ايديولوجيا، وفي جلباب اية مدرسة فكرية أو مسرحية، أو أن ينطقوا بغير ما فكروا فيه، وبغير ما اقتنعوا به، وبغير ما وصلوا اليه في اجتهادهم الفكري والجمالي، واعتقد ان في كل هذا، لا وجود لشيء يمكن ان يكون ممنوعا او ان يكون حراما، او يكون ضد المنطق وضد العقل
الاحتفالية: الطريق قبل الرفيق:
ويمكن اليوم ان نتساءل، امام انفسنا وامام كل العالم، وان نقول ما يلي:
هذه الاحتفالية ( المشاكسة) والمشاغبة والمتمردة، والتي هي عنواننا في الوجود، والتي هي جلدنا الثاني، ماذا كان يمكن ان يكون مصيرها اليوم، في ظل كل هذه التحولات التي حدثت، لو أنها ـ لا قدر الله ـ كانت طيعة ولينة وهشة، وكانت متساهلة ومتسامحة في الحق، وكانت ( براغماتية) لحد الغباء، وكانت (مهادنة) بلا معنى، وكانت موسمية وعابرة في التاريخ، وكانت نمطية في فكرها وفنها وعلمها، وانها كانت (واقعية) وكانت في واقعيتها الشكلية ضد روح الواقع، وكانت اكثر واقعية من هذا الواقع، وكانت ( مادية) ايضا، وكانت بذلك شكلا برانيا بدون جوهر، وبدون روح داخلي، وكانت طبييعية ايضا، وكانت بذلك اكثر ضد روح الطبيعة، وكانت اكثر طبيعية من هذه الطببعة، وكانت مصلحية وانتفاعية في شبكة علاقاتها، وكان كل ما يهمها هي الأرقام وحدها، اكثر من الكلمات، وأكثر من العبارات، وحتى اكثر من كل المعاني، ولو انها كانت تريد أن تنجح وان تربح، وان يكون لها موقع في الطبيعة وفي الصفوف الأمامية في المجتمع، لادعت النضالية الحزبية، ولاختارت الملحمية واليسارية، وذلك يوم كان الزمن الثقافي والسياسي، مغربيا وعربيا وكونيا، زمنا يساريا في كل العالم بامتياز، ولاختارت مظلة من المظلات الوارفة الظلال، ولكان هذا قد جنبها كثيرا من المصاعب ومن المتاعب، ولكان قد هيأ لها جيشا من الهتافين ومن المصفقين، ومن التابعين، ومن تابعي التابعين، ومن المداحين، ومن شهود الزور، ولكن هذه الاحتفالية اختارت فلسفتها، واختارت ذاتها، واختارت طريقها، ورددت مع المسيح قولته المشهورة التالية :
ماذا يفيد أن يربح الإنسان العالم وأن يخسر نفسه؟
الأمر إذن أكبر من الأسماء، واكبر من كل المصطلحات البراقة، والتي قد ينخدع لها بعض الباحثين عن ضوء الإعلام او ضوء اصحاب السلطة والسلطان، ولقد بقي الاحتفالي دائما، بينه وبين نفسه، يردد ما جاء في شعر مولانا جلال الدين الرومي:
ما ضرك لو أطفأ العالم كل الأضواء في وجهك
وبقي لك نور الله الذي في قلبك؟
والاحتفاليون اختاروا الطريق قبل الرفيق، وأكدوا دائما على أنه لا يجوز ـ منطقيا ـ أن يكونوا الآخرين، في الأزمنة وفي الجغرافيا الأخرى، وفي هذا الطريق الاحتفالي ـ طريقهم ـ تقاطعوا، فكريا وجماليا وأخلاقيا، مع كل طرق الفكر الإنساني والكوني الصادق، ولكن من غير أن يمشوا في أي طريق غير طريقهم، والذي اختاروه أو اختارهم، أو الذي اختاره منطق التاريخ، أو اختارته حيوية الحياة لهم.
وفي نقده لهذه الاحتفالية يرى الكاتب المسرحي السوري سعد الله ونوس ( أنها نظرية مثالية وحالمة لم تستطع أن تبلور مسيرها بشكل يرقى إلى هذا المناخ الاجتماعي والسياسي)
وفعلا، فإن الأصل في الاحتفالية أنها مثالية، وأن مثاليتها تتجه من الكائن إلى الممكن، ومن الواقع إلى الحقيقة، ومن المحسوس إلى المتخيل، ومن الواقع إلى الحلم، ومن الحلم إلى ما وراء الحلم، ومن الاجتماعي إلى الإنساني، ومن المحلي إلى الكوني، ومن السياسي إلى الفلسفي، ومن اليومي إلى التاريخي، وإذا كانت ـ لحد ذلك الآن ـ لم تبلور ذاتها، بشكل فوري وسريع ونهائي، فما ذلك إلا لأن حلمها كان ـ وما يزال ـ أكبر من إمكاناتها المادية، وأن مشروعها الفكري والجمالي كان أكثر طموحا من هذا الواقع الراكد والجامد والمحدود، وعليه، فقد أمكن لهذه الاحتفالية أن تقول ما يلي، إنها ـ في اجتهادها وجهادها ـ ليست مسؤولة عن تخلف الواقع العربي، ولا هي مسؤولة أيضا، عن تخلف القراءات النقدية المحدودة، والتي تكتفي بأن تقارب في هذه الاحتفالية كائنها الظاهر، ولا تستطيع أن تتمثل ممكناتها الخفية والبعيدة والمضمرة فبها .
وفعلا، فإن هذه الاحتفالية لا (ترقى) إلى المناخ الاجتماعي والسياسي العربي، لسبب بسيط جدا، وهو أن هذا المناخ فاسد وموبوء وغير إنساني، وغير مدني، وغير ديمقراطي، وغير تاريخي، وغير اجتماعي، و خصوصا في جانبه السياسي والأيديولوجي، ولذلك فإنه لا يصح أن تقلب المعادلة، وأن ننتظر من الفن الجميل والنبيل أن يرتقي، وليصل لدرجة الصفر في سلم السياسة والتحزب والتمذهب ، والتي هي سلطة وهي تسلط وهي استبداد وهي تحكم، وهي قمع وهي منع وهي خوف وهي رعب. وهذه الاحتفالية، لم تكن في اي يوم من الأيام فكر ولا فن الحزب الشيوعي ولا حزب البعث، في سوريا او في العراق، ولم تكن لها مظلة الأسرة العلوية في سوريا، ولا مظلة الناصرية في مصر، ولا مظلة العسكر في ليبيا او في الجزائر، ولقد كانت حركة شعبية وجماهيرية فعلا، من غير ان تنسب نفسها الى جماهيرية القذافي، او الى الجملوكيات العربية الكاذبة والخادعة والمضللة
حلم بسعة الوجود وبيعة التاريخ:
وفي معنى هذا الحلم الاحتفالي يقول المفكر الاحتفالي بأن ( أسهل طريقة ـ وأضمنها ـ لتجميل الواقع أو تجاوزه تكمن في الحلم، فنحن ـ في حياتنا اليومية ـ نحلم بتجاوز قبح الناس، وقبح العلاقات، وقبح الأشياء، وقبح الممارسات المفروضة علينا فرضا) هكذا تكلم الاحتفالي في كتابه عن المثقفين المؤدنين الذين يؤذنون في مالطة
وترى الاحتفالية أن فعل الحلم هذا ـ في معناه الحقيقي ـ هو مرادف دائما لفعل أخر غيره، والذي هو الرفض، ولقد أكد الاحتفاليون كثيرا ـ في كل أدبياتهم ـ على أنه لا أحد يمكن أن يحلم بالعالم الآخر، وبالواقع الآخر، وبالفن الآخر الممكن الوجود، إلا انطلاقا من رفض هذا العالم الموجود، ومن رفض هذا الواقع الذي ينبغي أن يرتفع، ومن رفض هذا الفن، في صورته الكائنة، ويصف الاحتفالبون هذا الرفض بأنه رفض مؤدب ومحتشم، وبأنه مدخل أساسي لما بعده، وبأنه، وكما جاء في كتاب ( المؤذنون في مالطة) (يمثل درجة الصفر في سلم التمرد والثورة)
وما نظن أبدا، أن هذا الحلم، هو فقط حلم مجموعة من الناس في زمن معين، أو في جغرافيا محددة ومحدودة، ولكنه (حلم كل الإنسانية منذ آلاف السنين، حلمها المشروع بالديمقراطية، وبالحرية، وبالحياة والحيوية، وبالجمال والكمال، وبالتعبير الحر في المجتمع الحر، وإذا كانت هذه الاحتفالية، وعلى امتداد آلاف السنين لم تتوصل إلى تحقيق كل هذه الأحلام، فهل معنى هذا أن ندعوها إلى إلغاء كل أحلامها الجميلة و النبيلة، وإلى أن تتعايش مع القبح والجهل والظلم والظلام؟) هذا التساؤل ورد في رد ( شيخ الاحتفالية) على منتقديه في مجلة (المسرح) الإماراتية
هذا الحلم الاحتفالي الرافض إذن، لم يكن حلم ليلة واحدة عابرة ويمضي، ولم يكن حلم شخص واحد من الناس، ولكنه كان حلم أمة كاملة، وفرق كبير جدا بين أن يحلم فرد، وأن تحلم الجماعة، ولأن الاحتفاليين أمنوا بعبقرية هذا الإنسان، وبقدرته اللامحدودة على الخلق، وعلى الابتكار، وعلى الاكتشاف، وعلى التجديد المتجدد، فقد أوجدوا مشروعا فكريا وجماليا وأخلاقيا كبيرا جدا، ولقد كان هذا المشروع باتساع العين الاحتفالية، وكان باتساع طموح الروح الاحتفالية، وكان بنفس قيمة وقامة الحلم الاحتفالي اللامحدود، والذي لا يمكن أن تحده الحدود، وجوابا على سؤال صحفي: متى يتحقق هذا الحلم الاحتفالي بشكل كلي ونهائي، فقد قال الاحتفالي ما يلي:
( عندما يتحول الكائن البشري إلى شخص، وأن يرتقي هذا الكائن البشري إلى مرتبة الشخصية، وأن تصعد هذه الشخصية إلى درجة الرمز، وأن بتحول هذا الرمز إلى حرف وإلى كلمة من حروف وكلمات سفر الوجود، وأن يصبح العالم شاعرا، وأن يكون الشاعر حكيما، وأن يصبح الحكيم حاكما، وأن يكون الحاكم خادما، وأن يصبح هذا الخادم سيد كل الناس) وهذا ما ورد في كتاب ( المؤذنون في مالطة)
هو رهان كبير وخطير إذن، رهان بطموح واسع جدا، تضيق عنه اللحظة الضيقة العابرة، ولا يمكن أن يتسع له غير فضاء التاريخ الواسع والرحب، وبهذا فقد كان رهان الاحتفالي رهانا على هذا التاريخ، ولهذا فقد زرع الاحتفاليون بذور الاحتفالية، ولم يتعجلوا الحصاد في غير أوانه، ولقد آمنوا بأن هذه الاحتفالية ـ المشروع لن تكتمل غدا، ولا بعد غد، وبأنها لن تصبح واقعا محسوسا وملموسا (إلا عندما يسترد هذا الوجود احتفاليته، وعندما تقبض هذه الأيام المستنسخة على جوهرها، وتسترد جدتها وجديتها وعيديتها المضيعة، وعندما يصبح الكائن الإنساني في حجم الكون، ويكون المواطن ـ في هذا البلد أو ذاك ـ في حجم الوطن، وفي مثل عمقه وغناه، وعندما يكون الإنسان عالما وفاهما ومتفهما، وأن ينصهر، وأن يتوحد بعلمه ومعلومه، وعندما يكون الحاضر شاهدا، ويكون هذا الشاهد حرا وأمينا، ويكون جزء حيا وفاعلا ومنفعلا ـ في المشهد الذي يحياه، ويعيشه مع نفسه وذاته ومع الآخرين)
بهذا الطموح المشروع تقدم هذه الاحتفالية نفسها للحقيقة والتاريخ، وبخلاف ما قد يفهم النقد المسرحي، فهي أكبر من أن تكون مجرد شكل مسرحي، أو مجرد مدرسة مسرحية، أو مجرد حساسية فنية، أو مجرد منهجية في التمثيل المسرحي، أو في الكتابة المسرحية، وفن المسرح عندها ـ تماما كما هي كل الفنون والآداب ـ مجرد أوراق في ملف وجودي كبير وخطير، لأن الأساس في هذه الاحتفالية هو أنها ( مشروع وجودي جديد، وهي مشروع مجتمع آخر، هذا بالإضافة إلى أنها مشروع مدينة أكثر مدنية، ومشروع إنسان أكثر إنسانية، ومشروع حياة أكثر حيوية، ومشروع أخلاق كثر جمالية وحقيقة)
وما يهم الاحتفاليين أساسا هو مسرح الوجود، وهو مسرح الحياة، وهو مسرح التاريخ، وفي هذا المعنى نجد هذه الاحتفالية تقول، على لسان شخصية الممثلة في كتاب ( الرحلة البرشيدية) وقد كان ذلك جوابا على سؤال ( وماذا يعني لك هذا الذي يسمى المسرح؟ تقول (المسرح هو كل شيء، ومن بعده لا وجود لشيء)
الاحتفالي وعشق الحكمة؛
والأصل في هذه الاحتفالية هو أنها عشق عاشقين، وأنها حلم حالمين، وأنها سفر مسافرين، والاحتفاليون فيها حضروا وفكروا ونظروا وتفلسفوا وكتبوا وشاغبوا، ليس حبا في الظهور، او في الكلام والكتابة، كما قد يظن البعض، ولكن حبا في الحق وفي الحقيقة، وعشقا في المعرفة وفي الحكمة، وتعلقا بالجمال وبالكمال، وهم يعتبرون فعل التفكير شرطا أساسيا لوجودهم، فبفضله كانوا، وبدونه لا يمكن أن يكون لهم وجود، وأن يكون هذا الوجود حقيقيا وصادقا وجميلا ونبيلا، وفي هذا المعنى يقول الاحتفالي:
( نحن تفلسفنا من أجل أن نحلم بشكل جيد، ومن أجل أن نفكر بشكل جيد، ومن أجل أن نكتب مسرحا بشكل جيد، ومن أجل أن نؤسس بلاغة مسرحية بشكل جيد، ومن أجل أن نتمثل الجمال، في الفن والحياة بشكل جيد، ومن أجل أن نقرأ الواقع والتاريخ بشكل جيد، ومن أجل أن نتحاور ديمقراطيا في المسرح بشكل جيد، ومن أجل أن نتلاقى مسرحيا بشكل جيد، ومن أجل أن نؤسس الرؤية الإخراجية بشكل جيد، ومن أجل أن نعطي الممثل ثقافة تجعله يمثل بشكل جيد)
فيثاغورس (الحكيم) استكثر على نفسه أن يقال عنه بأنه حكيم، وقال بأنه فقط محب للحكمة، وبأن الفلسفة ليست هي الحكمة، ولكنها محبة الحكمة، وعليه، فإنه لا أحد من حقه أن يزعم بأنه يمتلك الحكمة، كل الحكمة، وبأنه يحتكر وحده المعرفة والحقيقة، ولكن من حقه بلا شك أن يكون محبا للحكمة، وأن يكون عاشقا للمعرفة، وأن يكون طالب علم وفهم، وأن يكون مفتونا بمولاتنا الحقيقة، وقياسا على هذا، فقد رأى الاحتفالي العاشق أن يقول دائما، بأنني أهوى المسرح، وبأنني في هذا المسرح أجد كثيرا من روح الفلسفة، وبأنني أعشق في هذا المسرح العام والشامل، مسرحي الخاص، والذي هو مسرح احتفالي عيدي بكل تأكيد، و إنني لا أزعم امتلاك مفاتيح العوالم الاحتفالية فيه، وبأنني فقط عاشق لهذه الاحتفالية التي أتخيل صورتها فقط، من غير أن أراها رؤية العين، وقد يكون هذا العشق من طرف واحد، أي من طرفي أنا العاشق المتيم لحد الجنون العاقل، وهذا شيء لا يضايق الاحتفاليين إطلاقا، لأنهم لسيوا تجارا، وهم لا يؤمنون بالمقايضة في مجال الحب، وفي مجال الإيمان والاعتقاد، ورابعة العدوية لم تشترط أن يحبها الله حتى تحبه، وكذلك كان حال الاحتفالي دائما في عشقه الصوفي لهذه الاحتفالية الحاضرة الغائبة، والكائنة والممكنة، والقريبة والبعيدة، والمتمنعة دائما وأبدا في دلال جميل ونبيل، دلال يليق بها وتليق به.
نحو فلسفة الحياة اليومية:
وبحسب ذ. هادي معزوز، فإنه لا يمكن ( حصر الفلسفة في كتب الفلاسفة، واعتبار صرامتها الفكرية وبنائها المنطقي المتطرف شيئا يبعدنا عن كنه هذا العلم وعن جوهره، إذ قبل أن تكون الفلسفة مبحثا يهتم بمشاكل وجود الله وبداية العالم وخلود النفس، كانت دعوة صريحة إلى الحياة وحفلا بهيجا من خلاله نولد من جديد وبروح أخرى.. الفلسفة فن عيش ورقص خارج منطق المألوف، إنها تريد منا أن نتمتع بخفة الله الراقص على حد قول نتشه، فنستحيل كائنات خفيفة لا تسعى إلى الوصول إلى الحقيقة على غرار ما يشاع على الفلسفة، وإنما إلى ربط علاقة حميمة بالحياة)
وهذا هو نفس ما يسعى إليه الاحتفاليون دائما، في التنظير الفكري والجمالي معا، فهم لا بهتمون بالصرامة الفكرية، ولا يهمهم أن تكون ( فلسفتهم) جادة ومتجهمة، وأن تثبت أن بها أشياء خطيرة، أو أن تستدل بها على وجود شيء ما، ويبقى الأساس هو أن تنزل التأمل من السماء إلى الأرض، وأن تنتقل من المجرد إلى المحسوس، ومن المطلق إلى النسبي، وأن تجعل من هذا التأمل تمرينا يوميا، أو تجعله صلاة يومية، وأن تقرب به إلى الحقيقة وإلى الجمال والكمال، وإلى كل القيم الرمزية الجميلة والنبيلة، وأن يصبح فعل هذا التفكيرـ الصلاة جميلا وممتعا ومبهجا في العيش، وأن يكون أقرب إلى الشعر والموسيقى منه إلى الفلسفة المجردة في معناها المدرسي.
ويؤمن الاحتفالي بأن فعل الاحتفال هو التلاقي، وبأنه لا معنى لفعل هذا التلاقي الوجداني والروحي والفكري إلا بالمشاركة وبالاقتسام وبالتكامل، وبهذا المعنى فقد آمن الاحتفاليون دائما بزواج العلوم والفنون، وبتكامل الأفكار والمعاني، واقتنعوا بأنه لا يمكن أن يكون الفرد شاعرا وكفى، أو أن يكون فنانا فقط، أو أن يكون عالما خالصا، وعليه، فقد عملوا من أجل أن تصبح الفلسفة الصعبة والشاقة في عيونهم فنا جميلا، وأن يكون الفن في عقلهم فلسفة، ويتجسد هذا المعنى في الاحتفالية المسرحية التي تحمل اسم ( عيشة قنديشة أو الجنية التي أرادت أن تصبح إنسية) وعيشة قنديشة، هي تلك الجنية العاشقة للفن، إيمانا منها بأنه في الفن يرتقي الإنسي إلى درجة ( الجن والملائكة) وفي هذا المعنى نجدها تقول ( إنني أحب كل الفنون، لأنها صناعة الجن، نعم أحبها كلها، وأجمل كل الفنون عندي فن العيش، وفي مدرسة الحياة درست علوم الحياة، وفي مدرسة الطبيعة تعلمت علوم الأرض والسماء وما بينهما، وأنا في الفن والعلم لست عنصرية، ولا أقول هذا الفن أحسن من ذاك، ولا أقول هذا العلم أفضل من غيره) هكذا تحدثت عيشة قنديشة بلسان الممثلة نجوى الفيدي في الاحتفالية المسرحية، والتي اخرجها المخرج الاحتفالي رضوان ابراهيمي
وبهذه الفنون والعلوم وحدها، أدرك الإنسان درجة إنسانيته الحقيقية، وابتعد عن حيوانيته، وطلق وحشيته، واستطاع أن يضيف اللمسة الفنية والجمالية إلى ما أبدعته الطبيعة
كلمة الختام المؤقت: ويسالني الأستاذ عبد الرزاق الربيعي في كتاب ( الحكواتي الأخير عبد الكريم برشيد) السؤال التالي( هل انت حقا فيلسوف المسرح العربي و حكيمه كما يقولون عنك؟)
وفي الجواب اقول له، واقول لكل الناس من خلاله ما يلي:
(ما اعرفه عن نفسي هو انني أمارس الإبداع المسرحي بروح المبدع الخلاق، وانني معه امارس فعل التفكير ايضا، والترفيه بوعي الفيلسوف، انني أحيا الشغب الفكري في مسرح الوجود وفي المسرح المسرحي معا، وارى ان الشغب هو حق من حقوقي الأساسية المشروعة، بل هو اقدس كل الحقوق، وانني اقول دائما بانني لست حكيما، ولكنني فقط أعشق الحكمة، واعشق ان أسأل وأتساءل، واعشق ان اصل الى اليقين، او ما يشبه اليقين، عن طريق الشك طبعا، واعشق ان ابدا بالمقدمات وبالفرضيات لأخلص الى النتائج، والمسرح الذي هو مجرد فرجة بصرية او مجرد تسلية لا يقول لي شيئا ولا يعني لي اي شيء
لقد اقتنعت منذ انتمائي لعالم هذا المسرح، انه لا يمكن ان اكون مسرحيا حقيقيا، من غير ان اكون مفكرا، ومن غير ان اكون ساحرا، ومن غير ان اكون عرافا، ومن غير ان أكون ساعي بريد، وان احمل للناس رسائل تهمهم، ومن غير ان اكون شاعرا، ومن غير ان اكون عاشقا للمعرفة، وان أسعى من اجل ان اعرف نفسي اولا، وان اعرف كل الناس، وان اعرف كيف تتاسس الظواهر الاجتماعية في المجتمع، وباي منطق يعبر الناس في الحفل التاريخي عن انفسهم وعن احلامهم وعن همومهم وعن اهتماماتهم).