معركة غزة أول إنتصار على التتار

✍ د.راغب السرجاني
كان السلطان المظفر قطز يتحرك على تعبئة.. بمعنى أنه يتحرك وقد رتّب جيشه الترتيب الذي سيقاتل به لو حدث قتال، وذلك حتى إذا فاجئه جيش التتار يكون مستعدًا.
ووضع على مقدمة جيشه ركن الدين بيبرس القائد العسكري الفذ، ليكون أول من يصطدم بالتتار، فيحدث نصرًا -ولو جزئيًا- مما سيرفع من معنويات المسلمين بالتأكيد.
وكان قطز -أيضًا- قد سلك في ترتيب جيشه أمرًا لم يكن يعهده المعاصرون في زمانه، وذلك على سبيل التجديد في القيادة والإعداد حتى يربك خطط العدو، فكوَّن قطز مقدمة الجيش من فرقة كبيرة نسبيًا على رأسها ركن الدين بيبرس، وجعل هذه الفرقة تتقدم كثيرًا عن بقية الجيش، وتظهر نفسها في تحركاتها، بينما يتخفي بقية الجيش في تحركاته، فإذا كان هناك جواسيس للتتر اعتقدوا أن مقدمة الجيش هي كل الجيش، فيكون استعداد التتار على هذا الأساس، ثم يظهر بعد ذلك قطز، وقد فاجأ التتار الذين لم يستعدوا له.
⚔ غزة.. أول النصر
وهكذا اجتاز ركن الدين بيبرس الحدود المصرية في 26 من يوليو سنة1260 ميلادية، ودخل حدود فلسطين المباركة، وتبعه قطز بعد ذلك في سيره.. واجتازوا رفح وخان يونس ودير البلح واقتربوا جدًّا من غزة.
وحدث ما توقعه قطز، واكتشفت عيون التتار مقدمة الجيش الإسلامي بقيادة ركن الدين بيبرس، واعتقدت أن هذا هو جيش المسلمين كله، ونقلت الأخبار إلى حامية غزة التترية، وأسرعت الحامية التترية للقاء ركن الدين بيبرس، وتم فعلًا بينهما قتال سريع، هذا كله وجيش قطز الرئيسي ما زال يعبر الحدود الفلسطينية المصرية.
ولكن كما ذكرنا كانت مقدمة الجيش المسلم مقدمة قوية وقائدها ركن الدين بيبرس قائد بارع، والحامية التترية في غزة صغيرة نسبيًا، والجيش التتري الرئيسي على مسافة كبيرة من غزة، فقد كان جيش التتر بقيادة كتبغا يربض في سهل البقاع في لبنان على مسافة ثلاثمائة كيلومتر تقريبًا من غزة، فتم اللقاء في غزة بمعزل عن الجيوش الرئيسية للمسلمين والتتار، وبفضل الله استطاعت مقدمة الجيش المسلم أن تنتصر في هذه الموقعة الصغيرة.. وقُتل بعض جنود الحامية التترية، وفرّ الباقون في اتجاه الشمال لينقلوا الأخبار إلى كتبغا في لبنان.
مفاجأة غير متوقعة:
لقد فوجئت الحامية التترية في غزة! وكانت المفاجأة سببًا لهزيمة قاسية لهم، وليست المفاجأة الوحيدة في وقعة غزة هي مفاجأة المباغتة أو الخطة العسكرية أو الأبعاد الإستراتيجية في اتخاذ المواقع المناسبة أو غير ذلك من مفاجآت فنون الحرب.. إنما المفاجأة الحقيقية للتتار كانت اكتشاف أن هناك طائفة من المسلمين ما زالت تقاتل، وما زالت تحمل السيوف، وما زالت تدافع عن دينها وعن أرضها وعن شرفها وعن كرامتها.. لقد ألِفَ التتار أن يجدوا جموع المسلمين يفرون ويهربون، وألِفَ زعماء التتار أن يجدوا زعماء المسلمين يطلبون التحالف المخزي والركوع المذل.. وما توقعوا أن تظل هناك طائفة مسلمة تدافع عن حقها.
لقد كان هذا هو ظن التتار، وهو ظن ليس في محلّه حتمًا، فإن هذه الأمة مهما ضعفت فإنها لا تموت، ومهما ركع منها رجال فسيظلّ فيها آخرون يدافعون عنها ما بقيت الحياة.
روى الإمام مسلم عن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لاَ تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الحَقِّ لاَ يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللهِ».
وسبحان الله! ففي رواية الإمام أحمد عن أبي إمامة رضي الله عنه هناك زيادة مهمَّة، وهي أن الصحابة سألوا عن هذه الطائفة فقالوا: «يا رسول الله وأين هم؟» قال: «بِبَيْتِ المَقْدِسِ وَأَكْنَافِ بَيْتِ المَقْدِسِ»
فلسطين أرض الانتصارات:
ومع أن الذين قاتلوا التتار في غزة، ثم بعد ذلك في عين جالوت لم يكونوا -في المعظم- من أهل بيت المقدس ولا فلسطين، فإن الله -سبحانه- قد جعل هذا المكان الطاهر «فلسطين» موطنًا لانتصارات المسلمين.
نعم قد تحدث هنّات وسقطات.. لكن حتمًا يكون هناك قيام.
على أرض فلسطين وما حولها من أرض الشام وُجهت ضربات إسلامية موجعة للإمبراطورية الرومانية في أجنادين وبيسان واليرموك وبيت المقدس.
وعلى أرض فلسطين وما حولها وجهت ضربات إسلامية موجعة للصليبيين في حطين وطبرية وبيت المقدس.
وعلى أرض فلسطين وجهت ضربات إسلامية موجعة للتتار في غزة ثم في عين جالوت كما سنرى ثم في بيسان.
وعلى أرض فلسطين وجهت ضربات إسلامية موجعة لبقايا الصليبيين بعد ذلك في عكا وعسقلان وحيفا.
وعلى أرض فلسطين وجهت ضربات إسلامية موجعة للفرنسيين في عكا.
وعلى أرض فلسطين كذلك وجهت ضربات إسلامية موجعة للإنجليز في الثورات المختلفة وأشهرها ثورة 1936 والتي استمرت قرابة أربع سنوات.
وعلى أرض فلسطين وُجِّهَت – وما زالت تُوَجَّه – ضربات إسلامية موجعة لليهود.
وسيكون هلاك اليهود -بإذن الله- على هذه الأرض.