طوفان اة في ميزان قوانين التاريخ.لأقصى:سؤال النصر والهزيم

بقلم: ماهر المـــــــــــــــلاخ
ملخص تنفيذي:
معركة “طوفان الأقصى” (2023–2025) تجاوزت كونها مواجهة عسكرية، لتمثّل محطة استراتيجية في مسار النضال الفلسطيني ضد العدو الإسرائيلي. فمن خلال تقييمها، وفق ثلاثة مستويات تحليلية، وبالاعتماد على ستة قوانين تاريخية، يظهر أن الحسم الحقيقي للصراع يكمن في التأثيرات الاستراتيجية طويلة الأمد، وليس فقط في النتائج المادية المباشرة للمعركة. فمع أن النتائج المادية قد أظهرت إبادة هائلة تجلت في استشهاد أكثر من 46,000 فلسطيني، إضافة إلى اكثر من 10 آلاف مفقودا، ودمار أكثر من 70% من البنية التحتية للقطاع.. إلا أن الاحتلال قد فشل فشلا ذريعا في تحقيق هدفين رئيسيين: تهجير الحاضنة الشعبية للمقاومة، التي ظلت متشبثة بأرضها، واجتثاث المقاومة التي استمرت في عملياتها النوعية. هذا الفشل جعل الاحتلال عاجزاً عن تحقيق “النصر المطلق”. وأما على المستوى التكتيكي المتوسط، فقد أظهرت المقاومة نجاحات بارزة، منها إثبات قدرتها العسكرية واستنزاف الاحتلال اقتصادياً وعسكرياً. بالمقابل، فشل الاحتلال في تحقيق أهدافه المعلنة، مثل القضاء على الأنفاق وفرض الردع الكامل وإنهاء حكم حماس.. هذه الحقائق التكتيكية مهدت الطريق لتكريس سيرورة تحولات استراتيجية عميقة، وهي المتعلقة بالمستوى الاستراتيجي، تجلت في النتائج بعيدة المدى في زعزعة بنيوية لشرعية الاحتلال، وإفقاده مصداقية سرديته التاريخية المبنية على مظلومية الهولوكوست، وتعرض الكيان لاستنزاف هائل لموارده، وتعميق الانقسامات الداخلية داخله.. وفي المقابل، تم تعزيز السردية الفلسطينية التي حازت تعاطفا عالميا واسعا، كما لم يحصل منذ أكثر من 70 سنة،
لقد أكدت القوانين التاريخية الستة، وبكل موضوعية، أن المقاومة الفلسطينية قد نجحت فعلا في تحويل عوامل الضعف إلى مرتكزات قوة. فقد شكّل المسجد الأقصى على الدوام، كرمز ديني ووطني، تجسيدا ماديا لتماسك الهوية الفلسطينية وتوحيد الشعب الفلسطيني. كما أظهر صمود المقاوِم الفلسطيني، في مقابل استنزاف وإنهاك المحتل الصهيوني، كيف أن الإرادة القوية تتفوق بالضرورة على القوة الجبارة. وقد كانت الجغرافيا حليفاً استراتيجياً للمقاومة، بالرغم من انعدام الجغرافيا الناتئة، ولكن طبيعة الأرضية الغزاوية قد مكنت من بناء شبكة معقدة من الأنفاق متعددة الخدمات. فيما مقابل أن انكشاف التفكك الداخلي للكيان، مع تصاعد انقساماته السياسية والاجتماعية. وكان تحالف الضمائر العالمية قد دعم القضية الفلسطينية عبر مظاهرات دولية وحملات مقاطعة. وأخيراً، استمر توارث القضية بين الأجيال ضمن استمرارية المقاومة وشرعيتها عبر الزمن، بتبني جيل جديد لأمانة القضية، سيطلق عليه قريبا اسم “جيل الطوفان”.
خلصت التوصيات التي تبناها المقال، إلى ضرورة تعزيز الوحدة الوطنية وتكريس الرموز الثقافية والدينية شعبيا، وتطوير التكتيكات العسكرية والميدانية للمقاومة، وتوظيف الإعلام المقاوم لتعزيز الرواية الفلسطينية. ولجهات الإسناد الدولية، يتعين توثيق جرائم الاحتلال وزيادة الضغط الدولي، مع تقديم الدعم الاقتصادي لتعزيز الصمود.. بهذا، تُظهر معركة “طوفان الأقصى” أن المقاومة ليست مجرد بندقية، بل هي فكرة ووعي، وأن النصر يُقاس بالرؤية الاستراتيجية العميقة، وليس باحتساب الخسائر المادية وحدها.
======================
بين يدي المقال:
منذ الأسبوع الأول من معركة طوفان الأقصى، كنت قد كتبت مقالا، لامني فيه حينها الكثير من الأصدقاء، تحت عنوان: “ماذا لو هُزمت المقاومة / تمرين نفسي.” باعتبار أننا في حاجة إلى رفع المعنويات، لا توقّع الهزائم، حسب قولهم.
وقد كان القصد من ذلك المقال، أن نتحرر، نحن أصحاب القضية، من عقدة أي هزيمة محتملة، في الوقت الذي كان احتمال حصولها كبيرا. ونعتقد أن ذلك التمرين قد كان مفيدا لكل من تبناه، إذ منحه القدرة على تحمل مشاهد الدمار والإبادة الجماعية لشعب غزة، وكذا تقبل لحظات تكبد المقاومة ضربات قوية في بنيتها، إضافة إلى لحظات استشهاد كبار رموزها، في مواجهة دامية، لم يشهد لها الشعب الفلسطيني مثيلا، منذ أول مواجهة له ضد الاحتلال، فيما سمي حينها ب “ثورة النبي موسى”، يوم 4 أبريل 1920.
واليوم، وقد وضعت المعركة أوزارها، ونحن على أبواب تنفيذ الهدنة المفضية لوقف الحرب، يوم غد 19 دسمبر 2025، على الساعة 08.30 صباحا، إذ نتساءل عن حقيقة انتصار المقاومة، فنحن نفعل ذلك، متحريين من تلك العقدة التي تفضي، في الأخير، إلى محاولة توهّم النصر، في حال حصول الهزيمة المتحققة. وبناء عليه، سنحاول أن نتعاطى مع نتائج هذه الحرب، بمعايير موضوعية، لا تقبل المحاباة ولا التوهم، قصدنا من ذلك أن نسهم بتعميق الوعي بحركة التاريخ، في صراع الحق ضد الباطل.
أولا. من الطوفان إلى الهدنة:
في صباح 7 أكتوبر 2023، اشتعلت شرارة معركة “طوفان الأقصى”، لتتحول إلى محطة فارقة أعادت تشكيل معادلات مقاومة الشعب الفلسطيني في مواجهة الكيان الصهيوني. لم تكن المواجهة مجرد تبادل للنيران، بل زلزالاً استراتيجياً كاملا، أعطى للمقاومة امتياز المبادرة الاستراتيجية في المعركة. وبين صمود الأرض، وحكمة التخطيط، وتحالف الشعوب، خطّت هذه المعركة فصولاً جديدة في تاريخ المقاومة، تاركةً تساؤلات كبرى حول ما يحمله المستقبل في ظل تغير موازين القوى.
فصول طوفان الأقصى والزلزال الاستراتيجي:
لقد قلبت المقاومة الفلسطينية الطاولة على إسرائيل، وأدخلت الكيان في حالة ذعر وارتباك غير مسبوق في تاريخ احتلاله لفلسطين. فأطلقت أكثر من 5000 صاروخ خلال الساعات الأولى، بينما اخترقت قوات برية حدود غزة، وسيطرت على مناطق داخل ما يسمى غلاف غزة، واحتجزت 240 رهينة. كان هذا الهجوم بمثابة زلزال استراتيجي أطاح بتوازنات القوة، وأجبر الصهاينة على رد عسكري هائل، استمر 470 يوما، واجهته المقاومة الفلسطينية عبر خمس مراحل:
مرحلة صدمة البداية (7-13 أكتوبر 2023): كانت المفاجأة عنصراً حاسماً، دامت سبعة أيام، استهدفت فيها المقاومة إحداث صدمة استراتيجية تخلخل قوة إسرائيل. في المقابل، أطلقت إسرائيل العنان لقوة نارية ضخمة، موجهة ضرباتها الجوية على قطاع غزة بشكل لم يشهده من قبل. كانت الأهداف واضحة لكلا الطرفين: المقاومة تسعى لكسر الحصار، بينما ركزت إسرائيل على استعادة السيطرة وفرض الردع.
مرحلة القصف المكثف والحصار (14 أكتوبر – نوفمبر 2023): لم يهدأ القصف الإسرائيلي 56 يوما متواصلة، حيث استهدفت الغارات الجوية والمدفعية البنية التحتية لغزة بكل قسوة. منازل تحولت إلى ركام، ومئات الآلاف من السكان أُجبروا على النزوح جنوباً، بعد دعوات إسرائيلية بالإخلاء. في مواجهة هذه القوة الغاشمة، واصلت المقاومة إطلاق الصواريخ، لتؤكد أنها لا تزال على تمتلك زمام المعركة، مستنزفةً الموارد العسكرية والنفسية لإسرائيل.
مرحلة معركة الأنفاق والاستنزاف (ديسمبر 2023 – يونيو 2024): خلال سبعة شهور، تحوّلت غزة إلى ساحة حرب خفية: الأنفاق، التي وصفتها إسرائيل بـ”شبكة العنكبوت”، أصبحت السلاح الفتاك للمقاومة. التوغلات الإسرائيلية واجهت مقاومة شرسة، واستنزفت القوات البرية الصهيونية، بينما استمرت الصواريخ والطائرات المسيّرة للمقاومة في إرباك العمق الإسرائيلي.
مرحلة المزاوجة بين السلاح والدبلوماسية (يوليو – ديسمبر 2024): مع استمرار المعارك، بدأت أصوات داخل إسرائيل تطالب بإنهاء الحرب، وذلك طيلة ستة شهور متوالية، خاصة مع ارتفاع الخسائر البشرية والمادية. ضغوط دولية وإقليمية أفضت طاولة مفاوضات غير مباشرة بوساطة مصر وقطر. ورغم ذلك، لم تتوقف الهجمات الانتقائية من كلا الجانبين.
مرحلة الحسم والهدنة (يناير 2025): منذ فوز ترامب في الانتخابات، بدأ الحديث حول هدنة توقف الحرب: مما أثمر، منتصف يناير 2025، إعلان الأطراف اتفاقاً لوقف إطلاق النار. كان الاتفاق مشروطاً بتبادل الأسرى، ورفع جزئي للحصار عن غزة، وإدخال المساعدات الإنسانية، فخفت أصوات صواريخ المقاومة وطائرات العدو الإسرائيلي.
بذلك تكون المعركة قد أفضت إلى نهاية مفتوحة: لتشكل معركة “طوفان الأقصى” أكثر من مجرد مواجهة عسكرية، فهي بالمعايير العلمية زالزال استراتيجي حقيقي، سيمثل محطة مفصلية فارقة في تاريخ الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي: فقد أثبتت المقاومة قدرتها على المفاجأة، ووضعت إسرائيل أمام تحديات عسكرية وسياسية غير مسبوقة. بالرغم من أن الثمن كان باهظا: فقد خلفت الحرب أكثر من 46,000 شهيد، إضافة إلى دمار غير مسبوق للبنية التحتية في غزة. إنها بكل تأكيد، ليست نهاية الصراع، بل بداية فصل جديد تُرسم ملامحه في الكواليس السياسية والعسكرية، حيث يبقى السؤال الأكبر: ماذا بعد هذا الطوفان؟
بين يدي الهدنة بعد الجولة:
شهد كل العالم، في 15 يناير 2025، تم إقرار اتفاق هدنة بين المقاومة الفلسطينية والاحتلال الإسرائيلي، لينهي، إلى حين، هذه الجولة الجديدة من الصراع.
شمل الاتفاق الذي انسحابًا جزئيًا للقوات الإسرائيلية من المناطق المكتظة بالسكان في غزة، وإطلاق سراح أسرى فلسطينيين، وفتح معبر رفح لنقل الجرحى، يمثل أكثر من مجرد تهدئة.
ورغم أن هذا الاتفاق يبدو في ظاهره تسوية مؤقتة، إلا أنه قد يحمل في طياته، كما سوف نرى، إشارات عميقة عن التحولات الاستراتيجية في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، ويثير تساؤلات كبيرة، من قبيل: كيف يمكننا فهم هذه التحولات من منظور قوانين التاريخ، ورؤى المفكرين والفلاسفة الذين تناولوا جدلية المقاومة والاحتلال؟ وهل دخل الاحتلال الإسرائيلي فعلا مرحلة التآكل الوجودي؟ أم أنه مقبل على مرحلة تقوية كيانه وتوسيع مشروعه، في ظل أجواء التماهي الجارية اليوم، لدمجه في النسيج الإقليمي إلى ما لا نهاية؟ في إطار مرحلةٍ جديدة، تبناها الواقع الرسمي العربي، مفادها: لا سلام ولا استقرار في ظل وجود فلسطين.
ثانيا. المستويات الثلاثة في تقييم النصر والهزيمة:
إن الإجابة على سؤال النصر والهزيمة لا تُقاس بالأساس بعدد القتلى أو حجم الدمار، بل ترتبط بتحليل أعمق يمتد عبر مستويات ثلاثة: المادي المباشر والتكتيكي المتوسط ثم الاستراتيجي البعيد. إن معركة “طوفان الأقصى“ ليست استثناءً في تاريخ صراع المقاومات مع الاحتلال، فقد كشفت أن الحسم الحقيقي للصراعات الكبرى لا يتم بالقوة العسكرية وحدها، بل عبر رؤية استراتيجية متكاملة تُعيد تشكيل مستقبل الصراع.
1.مستوى الخسائر والمكاسب المادية المباشرة:
تُظهر النتائج المادية الخسائر الملموسة من دمار وقتلى وجرحى، وهي المظاهر التي تُستخدم إعلامياً لخلق انطباعات فورية بالنصر أو الهزيمة. غير أن هذا المستوى، ورغم أهميته، لا يحسم الصراع في ذاته. فمهما بلغ حجم الدمار، يظل الاحتلال فاشلاً إذا لم يحقق هدفين رئيسيين:
تهجير الحاضنة الشعبية للمقاومة: يمثل صمود الشعب الفلسطيني في وجه العدوان العامل الأهم في استمرار المقاومة. ورغم محاولات الاحتلال المستميتة لتفريغ غزة عبر التدمير والنزوح، ظل الفلسطينيون متمسكين بأرضهم، ما أفقد الاحتلال أحد أبرز أهدافه الاستراتيجية. (مالك بن نبي،شروط النهضة، ص. 45)
اجتثاث المقاومة: استمرار وجود المقاومة، رغم كل الخسائر المادية، يعني أن الاحتلال، وإن دمر المباني وقتل القيادات، لم يتمكن من إنهاء النضال الفلسطيني، مما يحوّل المعركة إلى جولة غير حاسمة في صراع طويل الأمد. (فرانسيس فوكوياما، نهاية التاريخ والإنسان الأخير، ص. 122.)
2.مستوى الأهداف التكتيكية للمعركة:
يُظهر المستوى التكتيكي مدى تحقيق الأطراف لأهدافها المعلنة أثناء المعركة. هنا تتضح نقاط قوة المقاومة وضعف الاحتلال:
نجاحات المقاومة: أعلنت المقاومة أهدافاً واضحة، مثل كسر الحصار وإطلاق الأسرى، وقد نجحت جزئياً في تحقيق هذه الأهداف. استمرار عملياتها النوعية، حتى في ظل القصف المكثف، يؤكد فشل الاحتلال في تحييد قدراتها العسكرية، كما تجلّى في صمود الحاضنة الشعبية.
إخفاقات الاحتلال: فشل الاحتلال في القضاء على المقاومة أو تدمير شبكات الأنفاق، كما لم يتمكن من إعادة الردع الكامل أو تهجير الفلسطينيين خارج غزة. هذه الإخفاقات التكتيكية أظهرت محدودية استراتيجياته رغم تفوقه العسكري.
يتضح هنا أن تحقيق المقاومة لأهدافها التكتيكية، يعني تأسيساً لمراكمة مكاسب استراتيجية، فيما يعكس ضعفاً هيكلياً لدى الاحتلال، يُمهّد لهزيمته على المدى البعيد. (إدوارد سعيد، مسألة فلسطين، ص. 211)
3.مقياس المآلات الاستراتيجية والحسم النهائي:
إن المستوى الاستراتيجي هو العامل الحاسم في تقرير مصير الصراعات. يُظهر هذا المستوى التحولات طويلة الأمد، والتي تتجلى في:
زعزعة شرعية الاحتلال: جرائم الحرب التي ارتكبها الاحتلال أفقدته شرعيته في المحافل الدولية، كما عززت عزلة إسرائيل سياسياً وأخلاقياً. (جانبول سارتر، الوجود والعدم، ص. 321)
تعزيز القضية الفلسطينية دولياً: أثارت المعركة موجة من التضامن العالمي، مما أدى إلى تسليط الضوء على معاناة الفلسطينيين وعزل إسرائيل دبلوماسياً.
استنزاف الموارد الإسرائيلية: تكاليف العدوان المتزايدة، ماديًا ومعنويًا، أضعفت قدرة الاحتلال على خوض صراعات طويلة الأمد.
تعميق الشرخ الداخلي: أظهرت المعركة تفاقم الانقسامات داخل المجتمع الإسرائيلي بين النخب السياسية والشارع المدني، مما يزيد من هشاشة الاحتلال على المدى البعيد. (أرنولد توينبي، دراسة للتاريخ، المجلد 3، ص. 104)
لقد أثبتت معركة “طوفان الأقصى” أن الصراعات لا تُحسم بالنتائج المادية وحدها. فعلى الرغم من الدمار والخسائر، فإن صمود الحاضنة الشعبية واستمرار المقاومة يعنيان أن الاحتلال لم يحقق نصراً حقيقياً. كما أن نجاح المقاومة في تحقيق أهدافها التكتيكية يُمهّد لتحقيق مكاسب استراتيجية تُغير قواعد الصراع.
إن المستوى المادي يُبرز حجم الصراع، والمستوى التكتيكي يُظهر قدرة الأطراف على المناورة، أما المستوى الاستراتيجي فهو الذي يقرر مصير الصراع. ومن خلال قراءة القوانين التاريخية وتحليل نتائج معركة “طوفان الأقصى”، يتضح أن المقاومة الفلسطينية تقترب من تحقيق مكاسب استراتيجية، تُضعف الاحتلال وتُرسخ القضية الفلسطينية كرمز للصمود والعدل.
ثالثا. قوانين التاريخ الغائبة عن نشرات الأخبار:
كلما انتهت جولة من الصراع بين العدو الصهيوني وقوة من قوى المقاومة، إلا واستتبعتها موجة تضارب، بين من يبني مقولة: “لقد كبّدنا العدو خسائر كبيرة”، ومقولة: “وماذا ربحنا بعد كل هذا الدمار؟”. بطبيعة الحال، مهما طال السجال بين الطرفين، لا ينجح أي منهما في استقطاب الآخر إلى موقفه، فلكل طرف ما يكفي من شواهد الأخبار اليومية ليبرر موقفه، فالأحداث المتكررة تُفقد المراقب القدرة على النظر إلى الصورة الكاملة وتحبسه في دائرة التفاصيل اليومية. (إدوارد سعيد، خارج المكان، الصفحة 145)، فتغيب الرؤية الكلية في تفسير الأحداث. في حين لا يزعج أي من الأطراف نفسه لأخذ لقطة موسعة لاتجاه تلك الأحداث، كي يكوّن موقفاً أكثر نضجاً مما يتبناه. إن غياب الوعي الهيكلي بمسار الأحداث يُبقي الشعوب عالقة بين الآلام اللحظية، دون أن تدرك السياق الأكبر الذي يتحكم في حركة التحرر. (فرانتز فانون، معذبو الأرض، الصفحة 67)
القوانين التاريخية أدوات لاستيعاب مسار الأحداث:
إن المتأمل في حركة الأحداث يدرك بسهولة معتبرة أن هناك قوانين تاريخية تعمل في العمق لتحريك الوقائع، مراكمة إياها على مدى زمني معين، لتنبثق اللحظة التاريخية الفاصلة، في اللحظة المناسبة.
في هذا السياق، لا يحدث انهيار الإمبراطوريات فجأة، بل يكون نتيجة تراكم طويل، لظروف داخلية وخارجية، تُصنع عبر سنوات أو عقود. (أرنولد توينبي، دراسة التاريخ، الصفحة 234)
فعلى مر التاريخ، أخطأ الكثيرون في تفسير الأحداث الكبرى بسبب تركيزهم على التفاصيل السطحية دون الانتباه إلى القوانين التاريخية التي تحكم تطور المجتمعات وانهيار الدول. فالمجتمعات تتحرك بقوة دفع داخلية قائمة على صراعات مادية وفكرية، تؤدي في النهاية إلى لحظات التحول الجذري(كارل ماركس، المادية التاريخية، الصفحة 89).
نحو رؤية أعمق للأحداث:
في هذا المقال، سنحاول تلمس تلك القوانين الظاهرة الخفية، لنتساءل عن مدى تحركها خلال هذه المعركة، وما مدى ديناميتها في اتجاه تحقيق اللحظة التاريخية القادمة، وهي: التحرير الكامل لأرض وشعب فلسطين. إن قراءة الأحداث من خلال منظور القوانين التاريخية تمنحنا القدرة على تجاوز المواقف الانفعالية وتوجهنا نحو رؤية استراتيجية لتحقيق أهداف التحرر (إبراهيم أبو لغد، فلسطين في التاريخ، الصفحة 112). لذلك فنحن مدعوون لفهم تداعيات الطوفان وفق قوانين التاريخ: فمن خلال استقراء تجارب الصراع بين المقاومات والاحتلال، نجد أن هناك ستة قوانين تتحكم في مآلات كل منهما، وبتطبيقها على معركة الطوفان يمكن أن تتجلى لنا النتائج التالية:
القانون الاول: إرادة الصمود تهزم من قيد المحتل:
الاحتلال لا يُهزم بضربة قاضية، بل يتهاوى تحت وطأة الإرادة طويلة الأمد. ففي معركة طوفان الأقصى، جسّدت المقاومة الفلسطينية هذا المبدأ بوضوح، حيث أثبتت أن التفوق العسكري وحده لا يضمن النصر أمام إرادة صلبة تعتمد على الاستنزاف. بأسلوب مدروس، نجحت المقاومة في إنهاك الاحتلال عسكرياً واقتصادياً ومعنوياً، لتؤكد مرة أخرى أن الشعوب التي تصمم على التحرر تمتلك سلاحاً أقوى من أي قوة عسكرية. وكما أشار فرانتز فانونفي كتابه “معذبو الأرض“، فإن الشعوب المستعمَرة التي تتسلح بإرادة الصمود قادرة على تحويل ضعفها إلى قوة تفرض واقعاً جديداً على المحتل. (فرانتز فانون، معذبو الأرض، الصفحة 89)
حين انتصرت الإرادة على القوة:
هناك شواهد تاريخية متعددة على قدرة إرادة المقاومة لأجل الانتصار على الآلة العسكرية للمحتل، نورد عليها شاهدين على ذلك:
انتصار الأرادة الفيتنامية على القوة الأمريكية (1965-1975): فقد وصف جان بول سارتر حرب فيتنام بأنها “انتصار الإرادة على القوة”. رغم التفوق العسكري الأمريكي الساحق، نجح الفيتناميون عبر حروب العصابات والهجمات المستمرة في إنهاك الجيش الأمريكي، مما أجبره على الانسحاب عام 1975 في مشهد هزّ العالم. كما أشار ويليام دوكينز في كتابه “فيتنام: حرب الإرادة”، فقد حولت الإرادة الفيتنامية القوة العسكرية الأمريكية من أداة ردع إلى عبء استراتيجي أدى إلى هزيمتها. (ويليام دوكينز، فيتنام: حرب الإرادة، الصفحة 134)
الإرادة الأفغانية تسقط جدار برلين (1979-1989): على مدار عقد كامل، أرهقت المقاومة الأفغانية الجيش السوفييتي باستخدام تكتيكات استنزاف ذكية، مستفيدة من التضاريس الصعبة والموارد المحدودة. وكما كتب روبرت كابلان في “الاحتلال والسقوط”، فإن الاستنزاف كان عاملاً رئيسياً في انسحاب الجيش السوفييتي المذل وانهيار معنوياته. (روبرت كابلان، الاحتلال والسقوط، الصفحة 76)
يرى ماو تسي تونغ ان القوة العسكرية تتحطم أمام الإرادة الطويلة الأمد”. فليس الصمود مجرد موقف دفاعي عاطفي، بل استراتيجية هجومية تستهلك العدو تدريجياً، وتحوّل تفوقه العسكري إلى نقطة ضعف. كما ذكر في كتابه “فن الحرب الشعبي”، فإن الصمود على المدى الطويل هو مفتاح تحويل التفوق التكتيكي للمحتل إلى انهيار استراتيجي. (ماو تسي تونغ، فن الحرب الشعبي، الصفحة 54)
الصمود والاستنزاف في السياق الفلسطيني:
وفي مسار الصمود الفلسطيني، يمكن أن نستشهد بمحطتين اثنتين:
عصيان يستنزف المحتل في الانتفاضة الأولى (1987-1993): تحولت الانتفاضة الشعبية إلى نموذج في استنزاف الاحتلال من خلال العصيان المدني والمقاومة المنظمة. هذا النهج أجبر إسرائيل على إعادة النظر في استراتيجياتها وأدى إلى اعتراف دولي بمنظمة التحرير الفلسطينية.
مقاومة تقلب الصورة في الانتفاضة الثانية (2000-2005): رغم القمع الإسرائيلي الشديد، أثبت الفلسطينيون قدرتهم على استنزاف الاحتلال عبر العمليات الفدائية وصمود المدن. وكما أشار تقرير “معهد الدراسات الفلسطينية”، فإن هذه الانتفاضة كبدت إسرائيل خسائر عسكرية وسياسية ضخمة وأضعفت صورتها دولياً. (معهد الدراسات الفلسطينية، الانتفاضة في مواجهة الاحتلال، الصفحة 112)
معركة طوفان الأقصى: الاستنزاف كسلاح استراتيجي:
لقد أكدت هذه المعركة قدرة الاستنزاف على إفشال أهداف العدو، وإفقاده الكثير من عناصر القوة الاستاتيجية، وذلك على مستوى ثلاث مجالات على الأقل:
عسكرياً: اعتمدت المقاومة على تكتيكات مدروسة مثل إطلاق الصواريخ اليومية، العمليات عبر الأنفاق، واستخدام الطائرات المسيّرة. هذه العمليات أرهقت جيش الاحتلال وأفقدته القدرة على تحقيق أهدافه، لتتحول العمليات العسكرية المكثفة إلى نزيف مستمر لقدراته.
اقتصادياً: كلفت الحرب إسرائيل مليارات الدولارات بسبب الاستنفار العسكري الدائم، وتضرر البنية التحتية، وتراجع قطاعات حيوية مثل السياحة والزراعة. في المقابل، اعتمدت المقاومة على وسائل أقل تكلفة، مما زاد من فعالية استراتيجية الاستنزاف.
معنوياً: نجحت المقاومة في كسر صورة التفوق المطلق للجيش الإسرائيلي، مما أضعف معنويات الجنود وأثار احتجاجات داخلية ضد استمرار الحرب. ظهرت تصدعات داخل المجتمع الإسرائيلي، حيث أصبحت تكلفة الحرب عبئاً يُثقل كاهل الاحتلال.
وهكذا، أثبتت معركة طوفان الأقصى أن الاحتلال لا يُهزم بقوة السلاح وحدها، بل يُقهر بإرادة طويلة الأمد تُنهك خصمه على كافة المستويات. وكما حدث في فيتنام وأفغانستان، برهن الفلسطينيون أن الصمود يمكن أن يغير مسار التاريخ، وأن الشعوب التي تؤمن بحقها في الحرية قادرة على هزيمة أقوى الجيوش. وكما أشار إدوارد سعيد في كتابه “الهوية والمقاومة”، فإن الصمود ليس مجرد دفاع عن الوجود، بل هو القوة التي تصنع النصر وتصوغ مستقبل الشعوب. (إدوارد سعيد، الهوية والمقاومة، الصفحة 56)
القانون الثاني: هوية الشعب صمام أمان المقاومة:
“إذا أردت أن تهزم شعباً، فابدأ بضرب هويته.” لكن ماذا يحدث عندما تصبح الهوية درعاً وسيفاً في آن واحد؟ في معركة طوفان الأقصى، ظهر المسجد الأقصى ليس فقط كرمز ديني، بل كمنارة توحد الفلسطينيين وترسخ هويتهم الثقافية والدينية في مواجهة الاحتلال. فالهوية ليست مجرد عنصر ثابت، بل هي أداة مقاومة تُعيد تعريف الذات أمام محاولات الهيمنة والاحتلال. (إدوارد سعيد، الاستشراق، الصفحة 320). وذلك ما يتضح من خلال ثلاثة شواهد تاريخية وهي:
الروح الإفريقية الهايتية تهزم آلة الحرب الفرنسية (1791-1804): ففي قلب الكفاح ضد الاستعمار الفرنسي، أعاد العبيد في هايتي بناء هويتهم المفقودة مستلهمين ثقافتهم الأفريقية المشتركة كعامل موحد. أصبحت تعاليم الفودو، ذلك الرمز الروحي العميق، مصدر إلهام لمقاومة محاولات طمس الهوية، مما قادهم إلى النصر وتحقيق الاستقلال كأول ثورة ناجحة ضد الاستعمار في العالم الجديد. فالانتصار تحقق لأن الهوية الثقافية والروحية كانت أكثر من مجرد شعار، بل سلاحاً استراتيجياً. (سيلفان أديب، ثورة هايتي: دروس الهوية والانتماء، الصفحة 175)
الكاثوليكية الغالية جدار صد للهيمنة البريطانية (1916-1921): ففي مواجهة الاحتلال البريطاني، وجدت الثورة الإيرلندية في الهوية الكاثوليكية واللغة الغالية قوة دفع مركزية. أطلق المثقفون والفنانون حملة لإحياء التراث الإيرلندي، مما أشعل الروح الوطنية. إن الرموز الثقافية والدينية لم توحد الشعب فحسب، بل جذبت أيضاً أنظار العالم لقضيتهم. (تيم بات كوجان، الثورة الإيرلندية: قصة الصمود والتحدي، الصفحة 214).
الإسلام العربي الجزائري يفشل إلحاق الشعب بالاحتلال الفرنسي (1954-1962): فعلى مدار ثماني سنوات من النضال، تصدى الشعب الجزائري لمحاولات الاستعمار الفرنسي طمس هويته عبر فرض اللغة الفرنسية والثقافة الأوروبية. كان الإسلام واللغة العربية ركيزتين للمقاومة، قادت جهود جمعية العلماء المسلمين الجزائريين للحفاظ على الهوية الوطنية، مغذية الروح المعنوية للشعب وجاعلة التحرير هدفاً مشتركاً. إن الهوية الثقافية ليست فقط عنصراً دفاعياً، بل هي نقطة انطلاق لتحفيز الثورة. (فرانتز فانون، معذبو الأرض، الصفحة 102)
الهوية سلاح يصنع التحرير:
وهكذا، من الروح الأفريقية في هايتي، إلى الإسلام والعربية في الجزائر، وصولاً إلى الثقافة الإيرلندية، أظهرت الثورات أن الهوية ليست مجرد إرث ماضٍ، بل سلاح استراتيجي للمستقبل. يؤكد مالك بن نبي في كتابه “شروط النهضة“ أن الهزيمة الحقيقية تبدأ بفقدان الشعوب لهويتها، فهي جوهر وجود الأمة وقدرتها على مقاومة الاحتلال. (مالك بن نبي، شروط النهضة، الصفحة 67). الشعوب التي تتشبث برمزياتها الدينية والثقافية تستمد منها الطاقةالمعنوية والإرادة السياسية، مما يجعلها عصية على الهزيمة.
المسجد الأقصى: رمز الصمود ووحدة الهوية الفلسطينية:
في قلب القضية الفلسطينية، يتجلى المسجد الأقصى كأيقونة تجمع بين الروح الدينية والهوية الوطنية، ليصبح أكثر من مجرد مكان مقدس، بل قوة موحدة تُجسد صمود الشعب الفلسطيني أمام الاحتلال. على مدار العقود، لم يكن الأقصى رمزاً عابراً، بل كان الحافز الذي يعيد شحذ الإرادة الجماعية، جامعاً بين الفلسطينيين في الداخل والخارج، ومُضفياً على القضية بعداً يتجاوز السياسة ليصل إلى عمق الانتماء الثقافي والديني. فالهوية ليست مجرد عنصر ثقافي بل هي العامل الأساسي الذي يجعل الأمة قادرة على الصمود أمام محاولات الطمس والاستلاب. (مالك بن نبي، شروط النهضة، الصفحة 45)
الأقصى في الانتفاضة الأولى: عنوان للتحدي:
في خضم الانتفاضة الفلسطينية الأولى (1987-1993)، كان المسجد الأقصى العنوان الأبرز للمقاومة الشعبية، وأصبح الدفاع عنه صرخة جماعية تُجسد رفض الاحتلال. في ظل القمع الإسرائيلي، كانت دعوات الصلاة في الأقصى إعلاناً واضحاً للتحدي، ورسالة مفادها أن الفلسطينيين، رغم اختلاف انتماءاتهم السياسية والاجتماعية، يجتمعون تحت راية واحدة حين يتعلق الأمر بحماية رمزهم المقدس. فالرموز الثقافية والدينية قادرة على تحويل المقاومة من فعل فردي إلى نضال جماعي يستمد قوته من الوعي الجمعي. (إدوارد سعيد، السياسة والثقافة، الصفحة 212)
لقد تحول الأقصى في تلك السنوات إلى نقطة ارتكاز نفسية وروحية واجتماعية، زادت من قوة الانتفاضة واستمراريتها، وجعلت من الهوية الوطنية والدينية جسراً يوحد الشعب في مواجهة آلة الاحتلال.
معركة سيف القدس: الأقصى يشعل المواجهة:
في معركة “سيف القدس” (2021)، عاد الأقصى ليصبح محور المشهد ودافعاً رئيسياً للتصعيد. فقد أشعلت الاعتداءات الإسرائيلية على المصلين شرارة الغضب الشعبي، ليتحول الدفاع عن الأقصى إلى مواجهة شاملة مع الاحتلال. إن الدفاع عن الرموز الثقافية والدينية يخلق حالة وعي ثوري تنقل النضال من الإطار المحلي إلى العالمي، مما يعزز الدعم الدولي ويضغط على القوى الاستعمارية. (فرانتز فانون، معذبو الأرض، الصفحة 68)
ولم يقتصر الأمر على الساحة الفلسطينية؛ فقد أعادت هذه المعركة المسجد الأقصى إلى صدارة الوعي العربي والإسلامي، ودفع الملايين إلى الخروج في مظاهرات تضامنية حول العالم. كانت هذه المعركة تأكيداً جديداً على مركزية الأقصى في الصراع، ليس فقط كرمز ديني، بل كعنصر يوحد الشعوب ويرسخ القضية الفلسطينية كقضية عادلة إنسانياً وسياسياً.
معركة طوفان الأقصى: الأرض والرمز يوحدان الشعب
في معركة طوفان الأقصى (2023-2025)، اكتسب الأقصى بُعداً إضافياً، إذ أصبح الرمز الذي يوحّد الفلسطينيين ويدفعهم للصمود في وجه آلة الحرب الإسرائيلية. رغم الانقسامات السياسية التي طالما أثقلت الساحة الفلسطينية، نجح المسجد الأقصى في تجاوز تلك الحواجز، ليجمع الفصائل والشعب الفلسطيني تحت شعار المقاومة.
إن الرموز الوطنية والدينية قادرة على خلق إجماع شعبي عابر للانقسامات، مما يجعلها أداة حاسمة في النضال ضد الاحتلال. (معهد الدراسات الفلسطينية، الرموز في مواجهة الاحتلال، الصفحة 95)
لذلك خرجت شعوب عربية وإسلامية في مظاهرات واسعة النطاق دعماً للأقصى، مما أعاد للقضية الفلسطينية زخمها الدولي، وفضح ممارسات الاحتلال في المحافل العالمية. في هذه المعركة، كان صمود الفلسطينيين تعبيراً مباشراً عن دفاعهم عن رمز مقدس يمثل جوهر هويتهم، وعن حقهم في الحياة بكرامة وحرية.
قوة الرمزية وفق قانون تماسك الهوية:
من الانتفاضة الأولى إلى معركة طوفان الأقصى، ظل المسجد الأقصى يمثل القوة التي تجمع الفلسطينيين، وتُجدد إرادتهم في مواجهة الاحتلال. إن الشعوب التي تتشبث برمزياتها الثقافية والدينية قادرة على مواجهة أعظم التحديات، لأن الهوية المشتركة تمنحها دافعاً للصمود لا يُقهر. (أرنولد توينبي، دراسة التاريخ، الصفحة 178)
كان الأقصى على الدوام تجسيداً للصمود، محفزاً للوحدة، ورمزاً عالمياً للعدالة. وفي صراع تتشابك فيه السياسة مع الهوية، يبقى الأقصى أكثر من مجرد رمز، إنه سلاح لا ينكسر، يُذكر العالم بأن الهوية الدينية والثقافية هي خط الدفاع الأول للشعوب المقهورة، وركيزة نصرها في نهاية المطاف.
القانون الثالث: الأرض تناصر أبناءها:
أُثر عن نابليون بونابرت أنه قال: “الأرض تُقاتل لصالح أصحابها.” وقد صدّقت معركة طوفان الأقصى على مقولته تلك: إذ لم تكن الجغرافيا مجرد ساحة للصراع، بل تحولت إلى حليف استراتيجي مكّن المقاومة الفلسطينية من صد العدوان الإسرائيلي. قطاع غزة، بمدنه المكتظة وأنفاقه السرية، جعل السيطرة عليه مستحيلة دون أن يدفع الاحتلال ثمناً باهظاً. إن الجغرافيا ليست عاملاً محايداً بل هي أداة يمكن استغلالها لتعزيز قوة المدافعين وتحويل موازين القوى. (كارل فون كلاوزفيتز، عن الحرب، الصفحة 153).
وقد أصبحت الجغرافيا حصناً منيعاً في العديد من حالات المقاومات تاريخيا، ومنها شاهدان اثنان، وهما:
قتال الحجارة في معركة ستالينغراد (1942-1943): فخلال الحرب العالمية الثانية، تحولت شوارع ستالينغراد إلى متاريس، حيث تصدى السوفييت للغزاة الألمان. وصفها ونستون تشرشل بأنها “قلعة لا تُهزم لأن كل حجر فيها كان يقاتل.” فالبنية الحضرية الكثيفة جعلت من كل شارع وزاوية ساحة معركة، مما استنزف القوات الألمانية وأطاح بخططها العسكرية. وكما أوضح المؤرخ أنتوني بيفور في كتابه “معركة ستالينغراد“، فإن الجغرافيا الحضرية أعطت السوفييت ميزة تكتيكية فريدة مكنتهم من تحويل المدينة إلى حصن منيع. (أنتوني بيفور، معركة ستالينغراد، الصفحة 98)
الجبال دروع المقاومة الأفغانية (1979-1989): ففي أفغانستان، لعبت التضاريس الجبلية دوراً حاسماً في مقاومة الغزاة، سواء ضد البريطانيين في القرن التاسع عشر أو السوفييت في القرن العشرين. وكما أشار روبرت كابلان في “أشباح البلقان“، فإن الطبيعة الوعرة لأفغانستان أبطأت تقدم القوات الغازية واستنزفت مواردها، مما حول الجغرافيا إلى حاجز استراتيجي يقف في وجه أقوى الجيوش. (روبرت كابلان، أشباح البلقان، الصفحة 114)
لقد كان نابليون بونابرت يدرك أن الأرض ليست مجرد مكان للصراع، بل هي عامل حاسم في تحديد نتيجته. وفقاً لنابليون، فإن الأرض تعرف أصحابها وتستجيب لإرادتهم، مما يجعلها حليفاً طبيعياً للمدافعين عن أوطانهم. وكما ذكر في كتابه “فن الحرب“، فإن الجغرافيا تُضعف الجيوش الغازية وتُحوّل تفوقها العسكري إلى عبء استراتيجي. (نابليون بونابرت، فن الحرب، الصفحة 72)
الجغرافيا في السياق الفلسطيني: درع المقاومة
في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي، لعبت جغرافيا قطاع غزة دوراً محورياً في تعزيز صمود المقاومة وإرباك خطط الاحتلال:
-البيئة الحضرية: شوارع غزة الضيقة وأحياؤها المكتظة جعلت أي عملية برية محفوفة بالمخاطر. وكما ذكر تقرير صادر عن معهد الدراسات الفلسطينية، فإن البنية الحضرية لغزة تُحكم السيطرة التكتيكية للمقاومة وتُصعّب على الاحتلال فرض سيطرته الميدانية. (معهد الدراسات الفلسطينية، الجغرافيا والمقاومة، الصفحة 45)
-شبكة الأنفاق: تحولت الأرض إلى حليف استراتيجي من خلال شبكة أنفاق محكمة، استُخدمت للتنقل، التخزين، وتنفيذ العمليات، مما منح المقاومة قدرة استثنائية على المناورة وإرباك العدو.
-التضاريس المحدودة: أجبرت الطبيعة الجغرافية المحدودة للقطاع إسرائيل على اعتماد استراتيجيات مكلفة مثل القصف الجوي المكثف، الذي لم ينجح في تحقيق أهدافه الاستراتيجية.
الجغرافيا في معركة طوفان الأقصى: سلاح استراتيجي بامتياز
وقد أثبتت معركة طوفان الأقصى اليوم أن الأرض سلاح تكتيكي واستراتيجي من الدرجة الأولي، وذلك من خلال ما يلي:
-البيئة الحضرية كخط دفاع طبيعي: واجهت العمليات البرية الإسرائيلية مقاومة شرسة في الأحياء السكنية، حيث أصبحت الأبنية والبنية التحتية غطاءً طبيعياً يحمي المقاومة ويزيد من صعوبة العمليات الإسرائيلية.
-الأنفاق: السلاح الخفي: مثّلت الأنفاق بعداً استراتيجياً، حيث تمكنت المقاومة من تنفيذ هجمات خلف خطوط العدو، وإعادة التمركز دون أن يتم كشفها، مما أفقد الاحتلال عنصر المفاجأة وأرهقه لوجستياً.
-الخسائر الإسرائيلية: تكبدت إسرائيل خسائر كبيرة بسبب عدم قدرتها على التكيف مع بيئة غزة الفريدة. وكما ذكر تقرير صادر عن مركز أبحاث الأمن القومي الإسرائيلي، فإن محدودية التقدم العسكري في غزة أثرت سلباً على معنويات الجيش الإسرائيلي وأجبرته على التراجع إلى مواقع أكثر أماناً.(مركز أبحاث الأمن القومي الإسرائيلي، تقرير غزة 2025، الصفحة 31)
وهكذا، فقد أثبتت معركة طوفان الأقصى أن الأرض ليست مجرد مساحة جغرافية، بل جندي خفي يقف إلى جانب أصحابها. كما قاتلت شوارع ستالينغراد مع السوفييت، وكما تحولت جبال أفغانستان إلى حصن للمقاومة، كانت شوارع غزة وأزقتها وأنفاقها سلاحاً استراتيجياً بيد الفلسطينيين. وكما أشار مالك بن نبي في “شروط النهضة“، فإن الشعوب التي تدرك قيمة أرضها تستطيع تحويلها إلى حصن منيع وسلاح لا يُهزم (مالك بن نبي، شروط النهضة، الصفحة 93). في النهاية، أكدت هذه المعركة أن الاحتلال، مهما بلغ تفوقه العسكري، يظل عاجزاً أمام قوة الأرض التي تقاتل بجانب من يعرف قيمتها.
القانون الرابع: المقاومة فكرة وتوريثها نصر:
إن القضايا التي تُنقل بين الأجيال تصبح شعلة خالدة، تستمد شرعيتها من تضحيات الماضي وقوة الأمل في المستقبل. عندما تُصبح المقاومة جزءاً من الوعي الجمعي لشعب ما، تتحول إلى قوة لا تُقهر، تُبقي القضية حية، وتتحدى الاحتلال عبر الزمن.
يتأكد مبدأ توريث فكرة المقاومة من خلال الشواهد التالية:
–فكرة التحرير الهندي تم توارثها قرنا من الزمان (1857-1945): استمرت حركة الاستقلال الهندية ضد الاستعمار البريطاني لأكثر من قرن، بدءاً من ثورة الهند الكبرى عام 1857 وصولاً إلى الاستقلال عام 1947. شهدت هذه المقاومة تحولات كبيرة، من الكفاح المسلح بقيادة شخصيات مثل راني لاكشميباي، إلى النضال السلمي الذي تبناه المهاتما غاندي في القرن العشرين. وكما أوضح غاندي: “القوة الحقيقية للأمة تأتي من تمسكها بقيمها وهويتها، وليس من السلاح وحده”. (غاندي، “حياتي رسالتي”، ص. 148). لقد أثبت الشعب الهندي، عبر أجيال متعاقبة، أن التمسك بالهوية الثقافية والروحية، بالإضافة إلى اعتماد استراتيجيات متنوعة، يمكن أن يُشكل أساساً لتحرر وطني ناجح، حتى أمام أعظم الإمبراطوريات.
– سبعة قرون فكرة التحرير الإيرلندي: على مدار أكثر من 700 عام، استمرت النضالات الإيرلندية ضد الاحتلال البريطاني، مدفوعة بنقل الروايات والذكريات من جيل إلى آخر. وكما أوضح المؤرخ يوجين أوكونور، فإن “نقل الوعي القومي بين الأجيال هو ما حافظ على شعلة النضال الأيرلندي حتى النصر”(يوجين أوكونور، “التاريخ القومي الأيرلندي“, الصفحة 79.). نجاح النضال الإيرلندي جاء نتيجة صمود الأجيال التي حملت القضية كواجبأخلاقي ووطني، وأثبتت أن القضايا العادلة لا تموت عندما تتوارثها الأجيال.
لقد رأى فرانتز فانون أن نقل الوعي الجمعي للأجيال المقبلة يجعل القضية جزءاً من الكيان النفسي للشعب، مما يجعل محوها مستحيلاً. (فرانتز فانون، “معذبو الأرض“, الصفحة 32.) . كما أكد إدوارد سعيد أن السرديات المتواصلة التي تُحييها الفنون والأدب والثقافة هي ما يجعل القضايا الوطنية حاضرة دائماً في وجدان الشعوب. (إدوارد سعيد، “الثقافة والإمبريالية“, الصفحات 89، 123.)
الحالة الفلسطينية: توارث القضية عبر الأجيال:
لقد أعطى الفلسطينيون النموذج على قدرتهم على توريث فكرة التحرير عبر أكثر من خسمة أجيال، وذلك من خلال ما يلي:
-نقل الرواية عبر العائلة والمجتمع: الأجيال الفلسطينية تحمل ذاكرة النكبة والنكسة وكأنها حدثت بالأمس. هذا النقل المستمر للرواية يُعزز ارتباطهم بالقضية على المستويين الشخصي والجماعي.
-الرموز الثقافية والوطنية: الأغاني، الأدب، والشعر الفلسطيني لعبت دوراً مهماً في ترسيخ الوعي بالقضية. وكما أوضح إدوارد سعيد، فإن “الثقافة تُعيد تعريف الهوية وتجعلها سلاحاً في معركة التحرر”. (إدوارد سعيد، “الثقافة والإمبريالية“, الصفحة 123.)
–دور اللاجئين: اللاجئون الفلسطينيون في الشتات نقلوا معاناتهم وحكاياتهم للأجيال القادمة، مما جعل حق العودة جزءاً أساسياً من المطالب الفلسطينية.
معركة طوفان الأقصى: الشباب يحملون الشعلة:
أما معركة الطوفان، فقد جذرت هذا المبدأ بصمود مقاوميها مدة خمسة عشر شهرا، بما خلفته من تضحيات وبطولات ورموزا وقصصا، ستظل مادة خصبة متوارثة بين الأجيال، وذل من خلال ما يلي:
-الشباب في طليعة المواجهة: في معركة طوفان الأقصى (2023-2025)، كان الشباب الفلسطيني، الذين لم يعيشوا النكبة أو النكسة مباشرة، في الصفوف الأمامية للمقاومة. هذا الجيل حمل القضية كإرث وطني، مؤمناً بدوره في الحفاظ على شعلة النضال.
-تعزيز الرواية عبر الأجيال: أعادت المعركة ربط الأجيال الشابة بتراث المقاومة، حيث جسد الدفاع عن المسجد الأقصى رمزاً لوحدة الفلسطينيين في مواجهة الاحتلال.
-الدور الإعلامي: وسائل الإعلام الفلسطينية، التقليدية والرقمية، نقلت أحداث المعركة إلى الأجيال المقبلة، لتُصبح طوفان الأقصى جزءاً من السردية الفلسطينية، تماماً كما كانت الانتفاضات السابقة.
يثبت هذا القانون، أن المقاومة ليست مجرد فعل أو حدث عابر، إنها فكرة متجددة تُغرس في عقول الأجيال وتُشعل شرارة النضال عبر الزمن. ومعركة طوفان الأقصى لم تكن استثناءً، بل محطة جديدة تُجسد استمرار القضية الفلسطينية كإرث خالد تنتقل روايته، وألم نكبته، وأمل انتصاره من جيل إلى آخر. من الهند إلى إيرلندا وصولاً إلى فلسطين، أثبتت الشعوب أن القضايا التي تحملها الأجيال لا تموت، بل تتحول إلى قوة لا تقهر، تُعيد تشكيل الوعي الجمعي، وتؤكد أن الصراع مع الاحتلال ليس معركة عابرة، بل رحلة أبدية نحو التحرر.
القانون الخامس: تحالف الضمائر إضعاف للمحتل:
لقد حظيت المقاومة الفلسطينية بدعم خارجي متنوع شمل مظاهرات شعبية عارمة، وحملات المقاطعة مثل حركة BDS، إضافة إلى الدعم السياسي والإعلامي، مما أسهم في عزل الاحتلال الإسرائيلي سياسياً وأخلاقياً على الساحة الدولية. وكما أشار مالكولم إكس في خطبه، فإن القضايا العادلة تُكسب قوتها من تضامن الشعوب حول العالم. (مالكولم إكس، “الدفاع عن حقوق الإنسان“، الصفحة 45.)
وقد ظهرت أهمية التحالفات كسلاح استراتيجي من خلال مجموعة من الشواهد، ومن ضمنها ما يلي:
بدلاً من المثال التقليدي عن الثورة الأمريكية، يمكن استخدام مثال آخر: الثورة الفيتنامية ضد الاحتلال الفرنسي ثم الأمريكي.
-الدعم الصيني والسوفييتي يحسم انتصار المقاومة الثورة الفيتنامية (1945-1975): كان الدعم الخارجي من الصين والاتحاد السوفييتي حاسماً في تغيير مسار الحرب. قدّمت الصين الدعم اللوجستي والتدريب العسكري، بينما قدّم الاتحاد السوفييتي أسلحة متقدمة ومساعدات تقنية. ساعد هذا الدعم في تعزيز قدرات المقاومة الفيتنامية، مما أتاح لهم تحقيق انتصارات عسكرية حاسمة، مثل معركة “ديان بيان فو” التي أجبرت فرنسا على الانسحاب عام 1954. كما أدّى الدعم السوفييتي إلى إطالة أمد الصراع مع الولايات المتحدة واستنزافها اقتصادياً وعسكرياً، وهو ما انتهى بانسحاب القوات الأمريكية عام 1973. وكما أشار الجنرال جياب، أحد قادة الثورة: “الدعم الخارجي ليس مجرد أداة، بل هو شريان حياة يعيد تشكيل ميزان القوى لصالح المقهورين”. (الجنرال فونغوين جياب، مذكرات الثورة الفيتنامية، ص. 212) هذا المثال يظهر كيف يُمكن للتحالفات الاستراتيجية أن تغيّر موازين القوى وتؤدي إلى هزيمة قوى عظمى.
-الثورة الجزائرية: الدعم العربي والدولي: خلال الثورة الجزائرية (1954-1962)، كان الدعم العربي والدولي، خاصة من مصر بقيادة جمال عبد الناصر، عاملاً حاسماً في تحقيق الاستقلال. قدمت مصر أسلحة وتدريباً ودعماً سياسياً، مما جعل القضية الجزائرية محوراً للنقاش العالمي وأضعف موقف فرنسا. وكما ذكر فرانز فانون في “معذبو الأرض“: “التحالفات الخارجية ليست فقط وسيلة دعم مباشر، بل أداة لتغيير الرأي العام العالمي والضغط على القوى الاستعمارية”. (فرانز فانون، “معذبو الأرض“، الصفحة 102.)
يرى إدوارد سعيد أن القضية الفلسطينية ليست مجرد صراع إقليمي، بل مقياس لضمير العالم. دعم الشعوب والدول للمقاومة الفلسطينية لا يقتصر على الاعتراف بحق وطني، بل يُمثل معركة أخلاقية ضد الظلم والاحتلال. وكما ذكر سعيد في كتابه “الثقافة والإمبريالية“: “تحالف الضمائر يُظهر كيف يمكن للدعم الخارجي أن يُغير ميزان القوى لصالح القضية العادلة”. (إدوارد سعيد، “الثقافة والإمبريالية“، الصفحات 57، 198.)
الدعم الخارجي في الحالة الفلسطينية:
وتؤكد الحالة الفلسطينية هذا القانون من خلال ما يلي:
-حركات المقاطعة (BDS): أصبحت حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات (BDS) من أهم الأدوات الدولية لدعم القضية الفلسطينية. وكما ذكر تقرير صادر عن معهد الدراسات السياسية الدولية، فقد حققت الحركة إنجازات كبيرة في عزل إسرائيل أكاديمياً وثقافياً، وتقويض شرعيتها على المستوى الدولي. (معهد الدراسات السياسية الدولية، “حركات المقاطعة وتأثيرها“، الصفحة 76.)
-الدعم الشعبي الدولي: شهد العالم مظاهرات ضخمة تضامناً مع فلسطين، كما حدث في محطات مثل معركة سيف القدس ومعركة طوفان الأقصى. تنامت حملات التضامن داخل الجامعات والمؤسسات المدنية الغربية، مما عزز الضغط الشعبي على الحكومات.
-الدعم الإقليمي: لعبت بعض الدول العربية دوراً محورياً في تعزيز صمود الفلسطينيين من خلال تقديم المساعدات الإنسانية واللوجستية.
معركة طوفان الأقصى: تحالف عالمي لدعم القضية:
كما أثبتت هذه المعركة ذات المبدأ من خلال:
-التحالفات الشعبية والدولية: شهدت معركة طوفان الأقصى مظاهرات حاشدة في عواصم كبرى مثل لندن، نيويورك، وباريس، مطالبة بوقف العدوان الإسرائيلي. وكما ذكر نعوم تشومسكي في مقالاته، فإن التضامن الشعبي العالمي يمثل أحد أهم العوامل المؤثرة في عزل الاحتلال. (نعوم تشومسكي، “مقالات عن الشرق الأوسط“، الصفحة 43.)
-الإعلام العالمي: لعبت وسائل الإعلام التقليدية والمنصات الاجتماعية دوراً مهماً في تسليط الضوء على جرائم الاحتلال، مما حفّز الرأي العام العالمي للضغط على الحكومات. وأعاد ناشطون مؤثرون تعريف القضية كمعركة إنسانية وأخلاقية تتجاوز البُعد السياسي.
-التأثير الدبلوماسي: الضغوط الدولية على إسرائيل من قبل بعض الدول أسهمت في تسريع مساعي وقف إطلاق النار، خصوصاً مع تصاعد التكاليف السياسية للحرب.
لقد أثبتت معركة طوفان الأقصى أن التحالفات الخارجية ليست دعماً رمزياً فقط، بل هي سلاح استراتيجي يمكنه تغيير مسار الأحداث. وكما دعمت فرنسا الثورة الأمريكية، وكما وقفت الدول العربية إلى جانب الجزائر، فإن الدعم الدولي للمقاومة الفلسطينية يُعيد تشكيل المشهد السياسي ويضع الاحتلال في مواجهة ضمير العالم. وكما قال إدوارد سعيد: “القضية الفلسطينية ستظل مقياساً للأخلاق العالمية، وتحالف الضمائر سيظل القوة الدافعة لنصرتها”. (نعوم تشومسكي، “مقالات عن الشرق الأوسط“، الصفحة 43.)
القانون السادس: مبتدأ اندحار المحتل من داخله:
أثبت فيلسوف التاريخي الألماني أن الحضارات “تسقط عندما تفقد وحدتها الداخلية.”. وفي معركة طوفان الأقصى، لم تكن إسرائيل تواجه اختباراً عسكرياً فحسب، بل كشفت المعركة عن عمق الانقسامات داخل المجتمع الإسرائيلي، سواء بين النخب السياسية أو في الشارع المدني. هذه الانقسامات، التي تفاقمت مع الاستنزاف الخارجي، أصبحت مؤشراً خطيراً على هشاشة الاحتلال وقابليته للانهيار من الداخل. إن “التآكل الداخلي أخطر على الأنظمة من الغزوات الخارجية”. (إدوارد جيبون، تاريخ سقوط الإمبراطورية الرومانية، الصفحات 56، 112.)
ومن شواهد ذلك الشاهدان التاريخيان التاليان:
-الاستنزاف الداخلي يفكك الاتحاد السوفييتي (26 دسمبر 1991): يشير فرانسيس فوكوياما في كتابه “نهاية التاريخ والإنسان الأخير“ إلى أن انهيار الاتحاد السوفييتي لم يكن بسبب الهجمات الخارجية فقط، بل نتيجة أزمات داخلية عميقة. الفساد الاقتصادي، فقدان الثقة بين القيادة والشعب، والانقسامات السياسية جعلت النظام عاجزاً عن التكيف مع التحديات الخارجية، خصوصاً في ظل حرب استنزاف طويلة في أفغانستان (فرانسيس فوكوياما، نهاية التاريخ والإنسان الأخير، الصفحة 78.). إن القوة العسكرية وحدها لم تحمِ الاتحاد السوفييتي؛ إذ أدى التفكك الداخلي إلى انهيار إحدى أعظم الإمبراطوريات في التاريخ.
-التآكل الداخلي يسقط الإمبراطورية الرومانية الغربية (476): في تحليله لسقوط روما، أشار إدوارد جيبون إلى أن ضعف المؤسسات والصراعات بين النخب، بالإضافة إلى انعدام الاستقرار الاقتصادي، جعل الإمبراطورية عاجزة عن الصمود أمام التحديات الخارجية. وكما كتب: “الغزاة لم يكونوا السبب المباشر لسقوط روما، بل تناقضاتها الداخلية جعلتها فريسة سهلة للانهيار”. (إدوارد جيبون، تاريخ سقوط الإمبراطورية الرومانية، الصفحة 112.)
يرى توينبي “ أن انهيار الحضارات أو الأنظمة السياسية يبدأ عندما تفقد وحدتها الداخلية”. فالانقسامات بين النخب، فقدان الثقة بين القيادة والشعب، والتدهور الاقتصادي والاجتماعي تخلق بيئة من الهشاشة تجعل النظام عرضة للسقوط أمام أي تحد خارجي. (أرنولد توينبي، دراسة التاريخ، الصفحة 134.)
التفكك الداخلي في الحالة الإسرائيلية:
في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي، لعب التفكك الداخلي دوراً محورياً في إضعاف قدرته على إدارة الأزمات، كما يتضح من:
-الانقسامات السياسية: تعدد الأحزاب واختلافاتها الأيديولوجية خلق حالة من الفوضى السياسية المتكررة. وكما أشار تقرير صادر عن معهد الأمن القومي الإسرائيلي، فإن فشل الحكومات المتعاقبة في تحقيق استقرار داخلي انعكس في ترددها باتخاذ قرارات حاسمة أثناء الأزمات. (معهد الأمن القوميالإسرائيلي، تقرير الفوضى السياسية، الصفحة 89.)
-الأزمات الاجتماعية: تصاعد الخلافات بين اليهود الأرثوذكس والعلمانيين، بالإضافة إلى التمييز ضد الأقليات داخل إسرائيل، خاصة الفلسطينيين في الداخل المحتل، زاد من هشاشة المجتمع الإسرائيلي، مما أضعف تماسكه.
-التداعيات الاقتصادية: تكاليف الاحتلال المستمرة أنهكت الاقتصاد الإسرائيلي، حيث ارتفعت أصوات داخلية تطالب بإعادة النظر في السياسات العدوانية، وفقاً لتقرير صادر عن مركز دراسات الاقتصاد الإسرائيلي. (مركز دراسات الاقتصاد الإسرائيلي، تكاليف الاحتلال على الاقتصاد، الصفحة 45.)
معركة طوفان الأقصى: حين كشف الداخل هشاشته
وفي حالة معركة طوفان الأقصى، فقد كشفت مدى هشاشة الداخل الإسرائيلي بشكل غير مسبوق، وذل من خلال ما يلي:
-أزمة النخب السياسية: كشفت الحرب عن تناقضات عميقة بين القيادات الإسرائيلية، حيث أثارت الانقسامات حول إدارة الصراع موجات من النقد داخل الحكومة وخارجها. وفشل القادة في تقديم استراتيجية موحدة أضاف مزيداً من الارتباك في إدارة العمليات العسكرية.
-الاحتجاجات الداخلية:شهد الشارع الإسرائيلي مظاهرات متزايدة تطالب بإنهاء الحرب، خصوصاً مع تصاعد الخسائر البشرية والاقتصادية. وكما ذكر تقرير صادر عن مركز دراسات المجتمع الإسرائيلي، فإن الانتقادات الموجهة من الجنود وعائلاتهم ضد القيادة العسكرية أثرت بشكل كبير على الروح المعنوية داخل الجيش. (مركز دراسات المجتمع الإسرائيلي، الاحتجاجات الداخلية في إسرائيل، الصفحة 72)
-فقدان الثقة: القصف العشوائي لمناطق مدنية في غزة أثار جدلاً أخلاقياً داخل إسرائيل، مما زاد من الشعور بالانعزال بين فئات المجتمع المختلفة. وتنامي الشكوك في قدرة الحكومة على إدارة الصراع بشكل فعّال عزز حالة عدم الاستقرار الداخلي.
لقد أثبتت معركة طوفان الأقصى أن الاحتلال لا يواجه تحديات خارجية فقط، بل يعاني من شرخ داخلي عميق يضعف بنيته وقدرته على الصمود. وكما سقط الاتحاد السوفييتي والإمبراطورية الرومانية الغربية بسبب أزماتهما الداخلية، فإن إسرائيل تُظهر علامات مشابهة: انقسامات سياسية متفاقمة، احتجاجات اجتماعية متصاعدة، وأزمات اقتصادية مستمرة. وكما أشار فرانتز فانون في كتابه “معذبو الأرض“، فإن الشعوب التي تعرف كيف تستغل تناقضات المحتل الداخلية تستطيع تحويل تفوقه إلى نقطة ضعفه. (فرانتز فانون، معذبو الأرض، الصفحة 119.)
رابعا. انتصار الإرادة في معركة طوفان الأقصى من منظور القوانين الثمانية:
إن طوفان الأقصى انتصار يتجاوز السلاح إلى معادلات التاريخ: فحين ننظر إلى معركة طوفان الأقصى من خلال عدسة القوانين الثمانية التي تحكم الصراعات التاريخية، نجد أن المقاومة الفلسطينية لم تكتفِ بالصمود، بل رسمت ملامح انتصار عميق يُجسد معاني الهوية، الإرادة، والتحدي. في كل قانون من هذه القوانين، تركت المعركة بصمتها، لتؤكد أن النصر ليس مجرد لحظة عسكرية، بل عملية استراتيجية ومعنوية طويلة الأمد.
قانون هوية الشعب صمام أمان المقاومة:
في قلب الصراع، برز المسجد الأقصى كرمز لا يختلف عليه أحد. أعاد هذا الرمز توحيد الفلسطينيين، رغم انقساماتهم السياسية والاجتماعية، ليصبح حاضناً للهوية الدينية والوطنية. وكما قال إدوارد سعيد، فإن الهوية الثقافية والروحية تُمثل القوة الدافعة للشعوب في مواجهة الظلم (إدوارد سعيد، “الثقافة والإمبريالية“, الصفحات 34، 84.). الأقصى في هذه المعركة لم يكن مكاناً مقدساً فقط، بل كان السلاح الذي وحّد الفلسطينيين وأعادهم إلى جوهرقضيتهم.
قانون إرادة الصمود تهزم قيد المحتل:
معركة طوفان الأقصى أثبتت أن الاحتلال لا يُهزم بالضربات المفاجئة فقط، بل من خلال إرادة لا تُكسر واستنزاف طويل يُنهك موارده ومعنوياته. استخدمت المقاومة الفلسطينية تكتيكات ذكية جمعت بين العمليات العسكرية والصمود الشعبي، لتُجبر الاحتلال على مراجعة حساباته، تماماً كما فعلت المقاومة الفيتنامية أمام الولايات المتحدة. (فرانسيس فوكوياما، “نهاية التاريخ والإنسان الأخير“, الصفحة 61.)
قانون الأرض تنصر ابناءها:
غزة، بمدنها المكتظة وأنفاقها السرية، كانت ساحة لا تعرف الاحتلال، بل حليفاً استراتيجياً للمقاومة. الأرض نفسها قاتلت بجانب الفلسطينيين، كما فعلت ستالينغراد في وجه النازيين (ونستون تشرشل، “ذكريات الحرب العالمية الثانية“, الصفحة 129.). أكدت هذه المعركة أن الجغرافيا ليست مجرد مساحةللصراع، بل عامل أساسي يُعزز من قوة الصمود.
قانون المقاومة فكرة وتوريثها نصر:
في هذه المعركة، أثبت الشباب الفلسطيني أن روح المقاومة تنتقل من جيل إلى آخر. هذا الجيل، الذي لم يعايش النكبة أو النكسة، حمل شعلة النضال وأعاد تعريف المقاومة كإرث وطني يتجدد باستمرار. وكما قال إدوارد سعيد، فإن “القضايا الوطنية لا تموت عندما تُحيا عبر الأجيال”. (إدوارد سعيد، “الثقافة والإمبريالية“, الصفحة 84.)
قانون التحالفات والدعم الخارجي: اختبار للضمير العالمي
معركة طوفان الأقصى كانت شاهداً على تحالف الضمائر مع الحق الفلسطيني. شهدت العواصم العالمية مظاهرات حاشدة وحملات مقاطعة أضعفت شرعية الاحتلال أخلاقياً وسياسياً. الدعم الإقليمي والدولي، وإن كان متفاوتاً، أظهر أن هناك قوة ضاغطة تسعى لتحقيق العدالة للفلسطينيين، على غرار ما حدث في حركات التحرر الأفريقية والآسيوية بعد الحرب العالمية الثانية. (مالكوم إكس، “التحرر الوطني في السياق العالمي“, الصفحة 210.)
قانون مبتدأ اندحار المحتل من داخله:
كشفت المعركة عن هشاشة داخلية في المجتمع الإسرائيلي. الانقسامات بين النخب السياسية، واحتجاجات الشارع، وتراجع الثقة في القيادة العسكرية، كلها كانت مظاهر تُظهر أن قوة الاحتلال ليست إلا واجهة تخفي أزمات عميقة. وكما أشار توينبي، فإن انهيار الحضارات يبدأ من الداخل عندما تفقد وحدتها. (أرنولد توينبي، “دراسة في التاريخ“, الصفحة 73.)
وهكذا، تُظهر معركة طوفان الأقصى، عبر هذه القوانين الستة، أنها لم تكن مجرد مواجهة عسكرية، بل لحظة فارقة أعادت تعريف النضال الفلسطيني على كل المستويات. على مستوى الهوية والصمود والجغرافيا والتحالفات، والأفكار.. كلها كانت أدوات في يد المقاومة، تُرسخ وجودها وتجعل من الاحتلال عبئاً يقترب من نهايته.
خامسا: توصيات لدعم انتصار المقاومة استناداً إلى قوانين التاريخ:
وأخيرا.. ما الفائدة من إثبات انتصار المقاومة أو انهزامها؟ أليس هو أن يأخذ كل منا موقعه لدعم انتصارها إن هي منتصرة، أو تجاوز هزيمتها عن هي انهزمت؟ وعليه، يبقى كل ما سبق دون قيمة إن لم يتحول ذلك الوعي التاريخي إلى فعل ومشاركة عضوية، أقترحها فيما يلي:
-توصيات للمقاومة الفلسطينية:
ترسيخ تماسك الهوية الوطنية والدينية: الاستمرار في تعزيز رمزية المسجد الأقصى كعنوان موحد للشعب الفلسطيني وكحاضن للهوية الوطنية والدينية. ودمج الروايات التاريخية والرموز الثقافية في الخطاب المقاوم لتعزيز الوحدة بين جميع الفصائل الفلسطينية.
تعزيز استراتيجية الصمود والاستنزاف: التركيز على التكتيكات التي تُرهق الاحتلال عسكرياً واقتصادياً ومعنوياً، مع الحفاظ على القدرة القتالية طويلة الأمد. وتنويع أدوات المقاومة لتشمل وسائل مبتكرة تُربك الاحتلال وتُعمق خسائره.
الاستفادة من الجغرافيا كحليف: توظيف البيئة المحلية، مثل الأنفاق والمناطق الحضرية المكتظة، كعنصر استراتيجي في مواجهة التفوق العسكري الإسرائيلي. وتعزيز الابتكار في استخدام التضاريس والبنية التحتية لتأمين خطوط الإمداد وتنفيذ العمليات.
إدارة الانقسامات الداخلية: العمل على تقليل الخلافات بين الفصائل السياسية وتعزيز وحدة القرار المقاوم. وتبني خطاب جامع يُركز على القواسم المشتركة ويُعلي مصلحة الشعب الفلسطيني.
-توصيات للبيئة الحاضنة للمقاومة
تعزيز الوعي الشعبي: تكثيف الأنشطة التثقيفية والإعلامية التي تُبرز أهمية القضية الفلسطينية وتُرسخ قيم المقاومة والصمود في الوعي الجمعي.وإشراك الأجيال الشابة في الفعاليات الوطنية والتاريخية لتعزيز شعور الانتماء واستمرارية القضية.
توفير الدعم المعنوي والمادي: تعزيز دور العائلات والمجتمعات المحلية في دعم المقاومة مادياً ومعنوياً. وإنشاء شبكات تضامن مجتمعية تسد احتياجات السكان المتضررين من الحرب وتعزز صمودهم.
إحياء الثقافة الوطنية: استخدام الفن والأدب والشعر لتعزيز الهوية الوطنية الفلسطينية وربط الأجيال بالقضية. ودعم المبادرات الثقافية التي تسهم في توثيق النضال الفلسطيني وتعزيز روايته التاريخية.
-توصيات لجهات إسناد المقاومة (الإقليمية والدولية)
تصعيد الدعم السياسي والدبلوماسي: الضغط على المؤسسات الدولية لتطبيق قرارات الشرعية الدولية المتعلقة بالقضية الفلسطينية. وتوجيه الجهودالدبلوماسية لتوسيع عزل الاحتلال الإسرائيلي سياسياً وأخلاقياً.
توسيع التحالفات الشعبية والدولية: تعزيز حركة المقاطعة (BDS) وتشجيع المبادرات الشعبية التي تُساند المقاومة الفلسطينية. وإنشاء شبكات دعم دولية تضم نشطاء، أكاديميين، ومنظمات حقوقية تُسلط الضوء على جرائم الاحتلال.
دعم الإعلام المقاوم: تقديم الدعم المادي والتقني لمنصات الإعلام الفلسطيني لزيادة تأثيرها في الساحة الدولية. وتكثيف الجهود لفضح جرائم الاحتلال باستخدام تقنيات إعلامية حديثة ومنصات التواصل الاجتماعي.
تقديم المساعدات الإنسانية والتنموية: توجيه الموارد لدعم البنية التحتية في غزة والضفة الغربية لتخفيف آثار العدوان. ودعم برامج التنمية الاقتصادية التي تعزز صمود السكان وتقلل اعتمادهم على الاحتلال.
وأخيرا…..
وفي ضوء معركة “طوفان الأقصى”، يتبين أن النضال الفلسطيني ليس مجرد مواجهة عابرة، بل هو جزء من صراع ممتد تعكسه قوانين التاريخ العميقة. المقاومة، بما تحمله من إرادة صلبة وقدرة على استثمار الهوية والأرض والتحالفات، أثبتت أنها ليست فعلاً ظرفياً، بل مشروعاً طويل الأمد، يُعيد تشكيل ملامح الصراع على المستويات المادية والتكتيكية والاستراتيجية. فالمعركة لم تقتصر على ميدان القتال، بل تجاوزت إلى إعادة صياغة الرواية الوطنية، وتعميق التضامن العالمي مع القضية الفلسطينية. هذه اللحظة التاريخية ليست نهاية، بل هي محطة، تؤكد أن التحرير ليس حلمًا مستحيلًا، بل مشروعًا قابلاً للتحقيق حين يتضافر الوعي والإرادة والالتزام بالتاريخ، وهو ما تجسد على مدى 15 شهرا من هذه الملحمة.
======================
ماهر الملاخ
ماهر الملاخ- باحث أكاديمي وإعلامي- متخصص في سيميائيات الصورة- تحضير دكتوراة في مجال السيميائيات- له عدة بحوث في مجال الدين والتراث والفلسفة والتاريخ والسياسة والتربية- أخرج وأنتج عدة أفلام وثائقية- منتج منفذ برامج تلفزيونية.