ثقافة وفنون ومؤلفات

مسرح بلا عيدية ولا احتفالية ليس مسرحا

بقلم: عبد الكريم برشيد
هذا الأسبوع، بالنسبة إلي، كان اسبوعا احتفاليا بامتياز، اكثر مما كانت كل الأسابيع السابقة، ولقد كان حافلا لحد التخمة او لحد الفيض، وكان غنيا بالتلاقي المسرحي، وبالتفكير المكتوب والمسموع معا، وبالنقاش الموضوعي الرصين، ولم اكن في هذا الحراك الفكري وحيدا، ومتى كان من حق الاحتفالي ان يكون وحيدا؟
لقد لبيت دعوة اخي وصديقي المخرج المثقف الدكتور عبد المجيد شكير، والذي اعطانا فرصة لأن نطل على الزمان المسرحي المغربي وهو يمشي، باكثر من سرعة واحدة، وفي اكثر من طريق واحد،
ولقد كنت في تلك ( العشوية) البيضاوية الجميلة بصحبة اخي الكاتب والمسرحي والشاعر الزجال الأستاذ المسكيني الصغير، وذلك في ضيافة ندوة فكرية باذخة في المركب الثقافي كمال الزبدي بمدينة الدار البيضاء، والتي أدارها باقتدار الممثل المسرحي في مسرح ابعاد احمد لحبابي، ولقد كانت الندوة بعنوان (نوستالجيا المسرح المغربي) وقد حضرها جمهور من المثقفين ومن المسرحيين ومن الاعلاميين، والذين ساهموا في إثارة اسئلة مهمة كثيرة بخصوص ماضي و حاضر ومستقبل المسرح المغربي، وذلك في ظل المتغيرات التي يعرفها هذا المسرح اليوم، والتي تميزها الموسمية والاتكالية على دعم الدولة، وأيضا غياب الجمهور المسرحي العاشق للمسرح والشعب المسرحي، وقد خص المسرحي والفنان التشكيلي حسن عين الحياة هذه الندوة بتغطية صحفية في جريدة (المنعطف) كما أضاف إليها حوارا مسرحيا اجرته معي عن بعد، وقد تضمن اسئلة ذكية عن معنى وعن مفهوم هذه النوستالجيا، والتي حاولت الندوة قراءتها، بهدوء نفسي وفكري، وبدون اللجوء الى الشكوى وألى البكاء على الأطلال
كما تضمن هذا الأسبوع حوار اجراه معي الإعلامي والكاتب والسيناريست الأستاذ احمد ابو عدوة، وقد اختزله الكاتب الصحفي في خمسة اسئلة تتعلق كلها بموضوع واحد هو العلاقة بين مفهومين اثنين هما الجديد والتجديد، ويعرف الجميع ان الاحتفالية لا تدعي انها جديدة في تاريخ المسرح وفي مسار الفكر المسرحي، وهذا ما يجعلها تضيف إلى اسمها كلمة المتجددة، مما يشير إلى انها احتفالية متجددة بشكل دائم ومتواصل، وانها تحاول انت تساير الزمان في فعل التجدد
وفي تقديمه لهذا الحوار يقول ذ احمد ابو عروة ما يلي:
( في هذا العدد من ركن ” حوارات بلا أقنعة’ نلتقي باحد العمدة المسرح المغربي والعربي، المفكر والمسرحي عبد الكريم برشيد الذي استطاع من خلال “المسرح الاحتفالي” ان يربط بين الماضي بالحاضر، ويعيد تعريف التجديد عبر رؤية تتجاوز الزمان والمكان
ويؤمن بان المسرح ليس مجرد فن يعكس الواقع، بل هو قوة دافعة للتغيير المستمر، وفعل مقاومة ضد الجمود والتكرار ، كما يوضح كيف ان الاحتفالية ليست مجرد تقنية، بل هي فلسفة حياة تتجدد كما تتجدد الطبيعة، وتستمر قوتها من الذاكرة الجماعية، ومن نبض الثقافة المغربية بكل غناها وتنوعها)
وفعل هذا التجدد، في التفكير وفي الإبداع وفي السلوك اليومي للاختفاليين، هو الذي قاربه الباحث والمؤرخ المسرحي د. نذير عبد اللطيف وهو يقدم كتاب (الاحتفالية مواقف ومواقف مضادة ـ الكتاب الثاني) ومما جاء في هذا التقديم بخصوص فعل التجديد والتجدد نجده يقول:
( تتجدد قوة الاحتفالية بتجدد الأزمنة، وتتطور بتطور الأحداث والظروف والملابسات، ذلك انها بعمق فكرها،استطات ان تبني اطارها النظري والتنظيري من رؤيتها التي تتجاوز الوقوف عند كل ما هو كائن إلى تصور ما هو ممكن ومحتمل، إختلفت بذلك عن بعض التجارب المسرحية العالمية في ابعادها وتصوراتها وتجلياتها المعرفية والمفاهيمية والتواصلية
وبعد هذا المدخل الذي كان لابد منه، نعبر جميعا الى متن ومضمون هذا هو الحوار الجاد والجديد
في البدء كان القديم ثم جاء التجديد
1. كيف يفرق عبد الكريم برشيد بين “الجديد” و”التجديد” في الإبداع المسرحي؟
1 . ما قد نسميه الجديد، ونقتنع بانه جدبد، هو بالتاكيد فعل قديم قدم الوجود وقدم التاريخ، وأن كل ما نفعله نحن في حياتنا اليومية هو اننا نعيد رؤيته، ونعيد قراءته، ونعپد كتابته، ونعيد صياغته بشكل مختلف، ولعل هذا هو ما يجعل الناس يقولون بان التاريخ يعيد نفسه، وان كل الأيام هي يوم سيزيفي يكرر نفسه، وبان هذا الذي نسميه الماضي لا يمكن ان يمضي، إلا من اجل ان يعود من جديد، ومن ان اجل ان يفاجئنا بما نعرف، والذي هو يوم قديم، ولكنه كمثل ممثل مسرحي، موجود بشكل متججد، دور مسرحي جديد وذلك في مسرحية هذا الوجود، وموجود في حفله التاريخبة، وموجود في فصوله الطببعية وموجود في احداثه ووقائعه، وفي مشاهده وحالاته المتججدة عبر الأيام والليالي
وفي مجال الانسان، فإن فعل هذا (الجديد)؛ يتم الآن هنا بنا ومعنا، وهو فعل محدود في الزمان، ومحدود ومحدد في المكان الجغرافي، اما التجديد فهو فعل حيوي دائم مثل تجدد الطاقة الشمسية ومثل تجدد الطاقة الربحية، ومثل تجدد الدماء التي تجري في العروق، ومثل تجدد الفصول في الطبيعة، ومثل تجدد الشروق والغروب، يوما بعد يوم وڜهرا بعد شهر وعاما بعد عام إلى ما لانهاية، وفي المسرح, كما في كل الآداب والفنون، قد يعتقد البعض انه قد اكتشف العجلة، او انه اعاد اكتشاف النار, في حين ان الجميع لا يكتب الا ما كتب من قبل, ولا يبدع إلا ما تم ابداعه من قبل، ولهذا فقد قلت دائما بان الكاتب لا يكتب الكتابة، وبان الصحيح هو ان نقول بان هذه الكتابة تنكتب به، لأن الكاتب الحقيقي هو الحياة والحيوية، وهو الوجود والوجودية، وهو التاريخ والتاريخانية ، وما نحن إلا ادوات هذه الكتابة، نحن اللوح ونحن المداد ونحن القلم، ومن يكتب لنا داخلنا، له بالتاكيد وجود خارجنا، والذي هو السياق التاريخي، وهو السياق الفكري، وهو الشروط الموضوعية قبل الذاتية، وهذا هو ما جعلني اميز بين اسم الجديد، وبين فعل التجديد، ولهذا فإنني اقول لنفسي دائما، بان هذه الاحتفالية من حتميات الحياة ومن حتميات التاريخ ومن حتميات الجغرايا، وانه او لم اكن انا من اتى لها، لجاءت بالتاكيد باب احد غيري.
2. ما دور الماضي في نظرية الاحتفالية، وكيف يُعاد قراءته في سياق التجديد؟
2 ـ الماضي لا يمضي، إلا من اجل ان يعود الينا وهو في شكل اجمل واكمل، او هو في شكل اسوا واقبح، وهو خلفية حاضرة في الذاكرة وفي التاريخ، وفقدان الذاكرة هو أسوأ ما يمكن ان يلحق الأفراد والجماعات والمجتمعات، ولقد اخطا كل الذين اعتقدوا، اويعتقدون بان الماضي يمكن ان يموت موتا نهائيا، وانه من الممكن ان ندفه في المقابر المنسية، وعادة او دائما يختبئ هذا الماضي الذي لا يموت في اللغة، ويختبئ في الأمثال وفي الحكم وفي العادات وفي التقاليد وفي الاحتفالات وفي التقاليد، ونتساءل بخصوص هذه اللغات التي نتكلم بها، ونفكر بها، اليست من الماضي، او هي الماضي، كل الماضي؟ أليست هي نفس لغة الشاعر الجاهلي عنترة، ونفس لغة ابن الرومي العباسي؟ وماذا يمكن ان نقول عن المسرح اليوناني القديم مثلا، والذي يعكس كله التراث اليوناني، في المعتقدات وفي الفكر الفلسفي، وفي الرواية الملحمية وفي الشعر الغناةي؟
والاحتفالي الذي يسكنني واسكنها لا يشوه الماضي، ولا يلوي عنقه، ولا ينطقه لما لم يقله، ونحن في هذه الاحتفالية الواقعية نؤمن بان كل ما يقع في الواقع هو فعل واقعي، وبان كل ما يحدث في التاريخي هو فعل تاريخي، واعترف، انا الاحتفالي، بان كل ما فعلته في تنظيراتي الفكرية وفي ابداعاتي المسرحية، هو انني قد اعدت قراءة التاريخ، من وجهة نظر مواطن مغربي عاش جزءدمن حياته في القرن العشرين، ويعيش البوم الجزء الثاني من عمره في القرن الحادي والعشرين من الألفية الثالثة
3. كيف تعبر الاحتفالية عن فعل المقاومة والنضال ضد القيود الاجتماعية والفكرية؟
3 ــ الأصل في الحياة هو انها فعل مقاومة، والأصل في الانسان الحي، هو انه كائن مقاوم، بالضرورة، وانه حين لا يقاوم، ولا يدافع عن حياته، وعن حقه في الحياة بموت، ووجود شجرة في غير تربتها وخارخ بيئتها وخارج مناخها، ولا تقاوم العطش والرياح، ولا تقاوم الزوابع والحشرات والطفيليات لابد ان تموت، وقدر هذا الإنسان، مثل كل الكائنات الحية في الوجود، هو ان يقاوم، وان يحارب الأمراض البيولوجية ليعيش، وان يقاوم الأمراض النفسية ليحيا حياة سوية، وان يقاوم الأمراض الاجتماعية ليكون له موقع قدم في المجتمع، وان يكون في وطنه مواطنا كامل المواطنة، وان يقاوم الأمراض والأوبئة المعنوية والرمزية، والتي تاتي بها الأفكار المجنونة والحمقاء، والتي ياتي بها الأنبياء المزيفون، ويبشر بها الكذابون والدجالون، والتي قد تعد بالحياة ظاهريا، ولكنها في جوهرها تحمل الموت معها.
4. ما معنى التجدد الدائم في فلسفة برشيد، وكيف ينعكس على رؤيته للمسرح؟
4 ــ هو ان أعيش هذا اليوم بغير ما عشته بالأمس، وان انظر امامي اكثر مما أنظر خلفي، وان أؤمن بان الخير امام، وبان الآتي هو الأجمل وهو الأكمل وهو الأنبل دائما، وان كل ما عشناه من قبل هو مجرد تداريب وبروفات من اجل ان نصل الى ما حق وحقيقي في الحياة، والذي هو المدينة الفاضلة، وان نصل في حياتنا البومية الى درجة الإنسانية الحقيقية، وان ننتصر على الوحش الذي يقيم ويختبئ في اعماقنا الداخلية
إنني مقتنع بما يسمى دراجة نيوتن، والتي تعني ان الدرجة الهوائية تعافظ على توازنها عندما تمشي، ولكنها لابد ان تسقط عندما لا تتحرك، وكل هذه الاجرام السماوية لا تسقط، لانها تدور في مكانها الخاصة، وانا لي مدار فكري وفلسفي اعطيته اسم فلسفة التعييد الاحتفالي
5. كيف أثرت الاحتفالية على الأجيال الجديدة من المسرحيين في العالم العربي؟
5 ــ اقول لك كيف .. هذه الاحتفالية لم تات بشيء من عندها، وكل أفكارها وصورها واحداثها وحالاتها اقتبستها من هذه الأرض، اي من ارض المغرب تحديدا، ومن ثقافات هذه الأرض، ونحن في دعوتنا الاحتفالية لم نفعل شيئا سوى اننا انصتنا لنبض الأرض ولنبض اهل الأرض، واننا فقط كنا احتفاليين في مجتمع مغربي احتفالي، ولهذا فقد تساءلنا دائما، هل نحن الذين أوجدنا السوق الأسبوعي المغربي، والذي يؤثقه الاحتفال؟ وهل نحن الذين اخترعنا الموسم الفلاحي بكل عيديته واحتفاليته؟ وهل نحن الذين أوجدنا جامع الفنا؟ وهل نحن الذين أوجدنا عبيدات الرمى وسلطان الطلبة والبساط وهرمة وكناوة ووو ؟
وهذا المغرب، باحتفاليته الفكرية والجمالية والأخلاقية، كان دائما هو الأقرب الى المسرح، وإلى روح المسرح، ووجودنا في دولة ملكية عريق، بتاريخ ملكي غني، وبطقوس احتفالية ملكية، وبمناخ ليبرالي قائم على الحرية وعلى الحوار، فقد كان لابد ان يزدهر في ارواحنا المسرح، وان يكون لهذا المسرح عنوان كبير وخطير والذي هو المسرح الاحتفالي
والمسرح اساسا احتفال شعبي، وهذا المغرب، مغربنا، له بالتاكيد ماض احتفالي حقيقي، ويؤكد لي بعض بعض اصدقائي المسرحيين العرب، انهم لم يفهموا المعنى الحقيقي الاحتفالية إلا بعد ان جاءوا المغرب، وعاشوا التجواء الاحتفالية الشعبية في الأعراس وفي حياة الناس اليومية
وتاريخ المغرب، ومعايشات ومشاهدات الحجاج المغاربة قديما، والتي خلدها الرحالة المغاربة، وحلقات الفرجة الشعبية الاحتفالية المغربية، ماذا يمكن ان نقول عنها سوى انها نظام حياة احتفالية، وان هذا النظام يقوم على التساكن والتعايش وعلى الغنى الحضاري وذلك من خلال تتعدد الإثنيات وتعدد اللغات وتععد الجهات وتعد الاختبارات
هذا النظام الوجودي، هو الذي حاولنا ترجمته إلى منظومة فكرية وجمالية متكاملة، والتي اعطيناها اسم الاحتفالية المتجددة
تعقيبا على الحوار :
وتعقيبا على هذا الحوار، يقول الأستاذ احمد ابو عروة على صفحته في الفيس بوك ما يلي:
( هذا الحوار المنشور في الأحداث المغربية شهادة حية على تاثير الاحتفالية في المسرح العربي، وكيف انها نجحت في ان تكون امتدادات الهوية المغربية، وفي الوقت نفسه فضاء مفتوحا على افاق إنسانية حية،حوار ممتع وعميق يضع المسرح المغربي في قلب النقاش حول الإبداع والتجديد، ويؤكد ان المسرح سيظل دائما مجالا للحياة، لا للموت)
اما الأستاذ عبد الرحيم شراد، والذي عايش الاحتفالية، ابتداء من زمن التاسيس إلى ما زمن التجدد الفكري والجمالي، والذي كان شاهدا على مخاصها ومولدها، وكان شاهدا على كل حروبها الحقيقية والوهمية، فقد خص الأستاذ احمد ابو عروة بالشهادة التالية
(أسئلتك صديقي أحمد بوعروة رزينة و أجوبة صديقنا الدكتور عبدالكريم برشيد كلها حكمة. حوار ممتع وشيق ، يختزل الكثير من المعاني في عبارات قليلة. لقد كنت أصيلا في طرح الأسئلة و لهذا وصفتها بالرزانة . تركيزك على الجديد و التجديد كشفت لنا مرة أخرى عن الفيلسوف المتخفي في ثياب المسرحي. إن روح الإحتفالية كامنة في فلسفة التعييد . في العيد نحتفل وتكون الفرصة سانحة للقاء وللخروج من دائرة المألوف والمعتاد ، في العيد نرتدي الملابس التي تليق بالمناسبة ونحضر الوجبات على غير ما هو مألوف في حياتنا اليومية في العيد نستحضر وجوه الأحباب حتى وإن غابوا أو رحلوا في العيد نسترجع الذكريات بحلوها و مرها . شكرا لكما الحاج أحمد بوعروة والدكتور عبدالكريم برشيد . لقد فتحتما شهيتنا للكلام الجميل ولفيض الخاطر )
وبخصوص علاقة العيد بالجديد وبالتجديد، لا نجد احسن من البيت الشعري الذي يقول فيه سلطان الشعراء ابو الطيب المتنبي
عيد بأية حال عدت يا عيد بما مضى ام لأمر فيك تجديد؟
وكل عيد بلا جديد وبلا تحديد ليس عيدا، وقد يكون كل شيء إلا أن يكون عيدا احتفاليا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى