الاحتفالية ..من الاحتفال الوحشي الى الاحتفال الإنساني

بقلم: عبد الكريم برشيد.
فاتحة الكلام
لن اقول لكم جديدا اذا قلت، بان من احتفل في الماضي يمكنه ان يحتفل اليوم ايضا، وأنه لا احد من حقه ان يمنعه من هذا الاحتفال، او ان يقول له احتفل بهذا الشكل ولا تحتفل بغيره، او احتفل معنا ولا تحتفل مع الآخرين وقديما قالوا( لا تقل للمغني غن) ويمكن ان نضيف، ولا تقل له متى يغني، ولا اين يمكن ان يغني، ولا كيف يغني، ولا لمن يغني، لأن الاحتفال حرية واستقلالبة وتحرر
ونعرف ان من يحتفل هذا اليوم يمكن ان يحتفل غدا أيضا، وبعد غد كذلك، وأن يحتفل في أي يوم من الأيام وفي اي عام من الأعوام، وعليه، فقد امكن إن نقول بان تاريخ الاحتفال هو نفس تاريخ الإنسان الحر، وهو نفس تاريخ الانسانية، من النشأة الأولى إلى ما لا نهاية، وهو نفس تاريخ الطبيعة أيضا، اي هذه الطبيعة المحتفلة بشكل دائم ومتجدد، ففصل الخريف احتفال، وفصل الشتاء احتفال، وفصل الربيع احتفال، وفصل الصيف احتفال، وكل من يدركه حال الاحتفال، سواء كان في الارض او في السماء، فمن واجبه ان يحتفل، وان يبعث للناس في احتفاليته كل الرسائل الكائنة والممكنة، وان يقول لهم بلسان الحال ما يلي:
ــ انا احتفل، اذن فانا موجود وحي وفاعل ومنفعل ومتفاعل مع الأيام ومع الأعوام ومع كل الناس
ــ وانا احتفل، إذن فانا سعيد، او انا حزينط او انا افكر، او أتذكر، و انا عاشق
وكما نجدد نحن ازياءنا الخارجية، ونغير شكلها والوانها، لنعبر بذلك عن احوالنا الظاخلية، فكذلك هي هذه الطبيعة أيضا، إنها ترتدي لكل فصل رداءه الخاص، وتضع له الوانه واصباغه الخاصة، فالقمم العالية، بثلجها الأبيض، ترتدي ما لا ترتديه السهول المتعددة الأشكال والألوان، وإذا كان من حق هذه الأرض ان تحتفل، افلا يكون من حقنا ومن واجبنا نحن ابناءها، ان نحتفل معها ومثلها؟
ويمكن لبعض (انبياء) العلم، ولبعض سدنة الفكر، ولبعض فقهاء الفن تاحديث، ولبعض زعماء السياسة والأيديولوجيا، ان (يبشرونا) بموت التاريخ او بموت الإنسان او بموت المؤلف او بموت الطبيعة او بموت الحياة او بموت الفرح او بقتل الأب في الآداب والفنون، ولكن، هل يجرؤ واحد، من بني الإنسان، او من بني الجن، أو حتى من بني الشياطين ان يقنعناةبانه سوف ياتي، في زمن من الأزمان، يوم لا احتفالية فيه، ولا عيدية فيه، ولا فرح فيه، ولا حلم فيه، ولا جمال فيه، ولا شعرية فيه، ولا إبداع فيه، ولا إنسانية فيه، ولا حياة فيه، ولا حيوية فيه ولا حرية فيه، ولا عبقرية فيه؟
الاحتفال الظاهر انعكاس لاحتفالية الداخل:
ونحن الأحياء، في هذه الطبيعة الحية، وفي هذه الأيام والليالي الحية، يمكن ان نلاحظ ان تجدد مظاهر الاحتفال وتنوعها هو مجرد عنوان فقط، وهو بالتأكيد عنوان صادق على حياتنا الداخلية، ونحن في حياتنا لا نفعل شيئا سوى نترجم احوالنا النفسية ترجمة صادقة وأمينة، وذلك بحسب تغير ظرف الزمان وظرف المكان، ويمكن ان تتغير الأزمان، وأن تتغير الأمكنة، وأن تتغير خارطة المحتفلين والمعيدين معنا، كما يمكن ان تتغير دواعي الاحتفال، وان تتغير مناسباته وطقوسه وآدابه وازياؤه، ولكن فعل هذا الاحتفال الإنساني سيظل عبر التاريخ هو نفس الفعل الحيوي المطلق، في الزمان المطلق، وفي الوجود المطلق
وانا الاحتفالي لا اقول بنهاية التاريخ، ولو انني قلتها، ما كنت لحد اليوم على قيد الحياة المسرحية، كما أنني لا اقول بموت الماضي، وهل هذه اللغة التي اكتب بها لكم ومعكم إلا من الماضي؟
وهل جاء هذا الكاتب المفكر الذي اسكنه ويسكنني إلا من الماضي؟ كما أنني لا اساير الموجة العالية في الكتابة، ولا اقول بموت المؤلف، كما انني لا أقيم صرح حياتي على حساب موت الآخرين، ولايغريني ذلك الشعار الحداثي، والمتعلق بما يسمى قتل الأب، وإنني، في ملتي الاحتفالية اعتبر فعل القتل جريمة لا تغتفر، سواء أكان هذا القتل فعليا او كان رمزيا فقط، او كان مجرد لعب بالكلام
وفعل هذا الاحتفال، ليس كتلة واحدة جامدة، وليس خطا مستقيما، وهو اساسا درجات اساسية وحيوية في دفتر التعبير الصادق، وهو درجات بعضنا اعلى من بعض، واسمى من غيرها، ابتداء من الاحتفال الوحشي، وانتهاء بالاحتفال الإنساني والمدني، وابتداء من الاحتفال الحسي الى الاحتفال العقلي، ومن الاحتفال الفطري الى الاحتفال المركب تركيبا فكريا وجماليا واخلاقيا، وابتداء ايضا من الاحتفال البسيط الى الاحتفال المركب والمكعب
وهذا الاحتفال له محطات يعبرها ولا ينتهي عندها، وله اصباغ وتلوينات تستجيب للألوان السيكولوجية الداخلية، وله حالات، وله مقامات وله لغات، وله معجماته الخاصة، وله آداب وسلوكيات متعددة ومختلفة، وذلك بحسب (مقتضى الحال)
وفي أدنى درجات الاحتفال يوجد أسوأ أنواع الاحتفالات والتي پمثلها الوحشي، والذي يتجلى في (لعبة)؛مصارعة الثيران الإسبانية او في احتفالية الاقتتال في الحلبة امام جمهور ( يستمتع) بمشهد القتل، تماما كما كان يحدث بين عبيد روما، والذين قاد ثورتهم سبارتاكوس، وذلك في تمردهم ضد هذا الاحتفال الهمجي والوحشي واللاإنساني
وتراهن الاحتفالية على الانتقال بالاحتفال الحسي البسيط الى الاحتفال العقلي والفكري المركب، والذي يمكن ان يتجلى في المناظرة الفكرية وفي الندوات الفكرية وفي لعبة الشطرنج مثلا
وفي مقالة له بعنوان ( المظاهر الاحتفالية في مسرحيات عبد الكريم برشيد) يقول د. مصطفى رمضاني ( فالخطاب المسرحي عند برشيد اصبح دعوة إلى الاحتفال العقلي، لأنه يدعو المتلقي إلى استخدام فكره حتى يساهم في كل المعادلات المركبة والعربية التي يطرحها النص) كتب هذا في العدد التكريمي الاحتفالي والاحتفالي في مجلة ( طنجة الأدبية)
في الاحتفال نرتدي الأزياء لنتعرى نفسيا:
وفي سؤال صحفي يقول لي هشام فرحان ما يلي:
(أنت من مبدعي ما يسمى بفلسفة «التعييد الاحتفالي» في المسرح، هل مازلنا بحاجة لهذه الرؤية الاحتفالية في مقابل ما يعيشه العالم العربي من مآس؟
وبالنسبة للاحتفالي، فإن فعل الاحتفالي لا يشترط ابدا أن تكون انت المحتفل سعيدا وفرحا بالضرورة، حتى تحتفل؟
هذا الحوار يرجع إلى اليوم السابع والعشرين من شهر سبتمبر من سنة 2009 وتحدبدا في جريدة ” القدس العربي ” التي تصدر من لندن، ولقد حاورني الصحفي هشام فرحان، واعطى للحوار العنوان التالي ( الفنان المسرحي المغربي عبد الكريم برشيد: لو أحسست يوما بوجود خطوط حمر لتوقفت عن الكتابة)
وفي زمن من الأزمان، كان بعض النقد العربي يعتبر مقاربة التراث، في السعر والفضة والمسرح، هروبا إلى الخلف، ويعتبره تقية سياسية، ولقد اعتبر كل الشخصيات التاريخية والتراثية مجرد أقنعة يختفي خلفها الكاتب او الشاعر او الفنان المسرحي
وفي كلمة التقديم، وفي تعريفه بالمسرحي الاحتفالي، يقول هشام فرحان ما يلي
( عبد الكريم برشيد رائد «المسرح الاحتفالي» في المغرب والعالم العربي، وهب حياته لخدمة أبي الفنون, تأليفا وإخراجا ونقدا وتنظيرا، هو أيضا صاحب موقف ثقافي واضح، إذ يرفع صوته منذ عقود مناديا بإصلاح القطاع الثقافي في المغرب. تُدرس نصوص برشيد المسرحية الكثيرة في العديد من المدارس والجامعات المغربية والعربية.
«شيخ الاحتفاليين» كما يلقّبه العارفون بفن المسرح يتحدث لـ»القدس العربي» عن مساره الطويل في خدمة هذا الفن وعن الحرية في العمل الإبداعي، وعن واقع التنظير المسرحي)
وفي اول سؤال له نجده يقول ما يلي
(كنت مسكونا دائما بهاجس تأسيس مسرح يشبه حياة الإنسان المغربي والعربي، هل نحن اليوم أمام مسرح يشبهنا فعلا؟
ولقد تعود الاحتفالي ان يقول دائما، ان من لا يشبهني ليس انا، وان من لا اسم له لا وجود له، ولعل هذا هو ما جعل الاحتفاليين ينطلقون، في مشروعهم الفكري والجمالي، من تسميته أولا، ولقد كان هذا الاسم هو عنوان هذه الاحتفالية في دنيا الفكر والجمال، وفي عالم التجربة والتجريب، كما كان منطلق فكرها وتفكيرها واجتهادها، من اجل اعطاء هذا المسرح بصمته الخاصة، حتى لا يمكن ان يشبه إلا نفسه وذاكرته وتاريخه ولغته وثقافته واعياده واحتفالاته
وفي الجواب عن السؤال السابق قلت( الكثير من مسرحيينا كانوا يدعون باستمرار إلى البحث عن مسرح مغربي وعربي أصيل، والحقيقة أن ما أضاعوا الوقت في البحث عنه، كان موجودا دائما، فنحن ننطلق في كتاباتنا المسرحية من قيمنا وتراثنا، ونعبّر عن همومنا وقضايانا، فالصيني مثلا لا يمكن إلا أن يبدع مسرحا صينيا، وبالتالي فنحن أمة لها تاريخ وثقافة، ومسرحنا كائن، وله جذور عميقة، ويكفي فقط أن نكون صادقين لنقدم مسرحا يشبهنا)
وفي السؤال الثاني، من هذا الحوار، قال القائل ما يلي:
ــ ( هل ما زال الحديث ممكنا عن الحرية في العمل المسرحي، وهل يتحمل الكاتب وحده بناء مسرح حر؟)
وما قلته في ذلك الحوار أعيده اليوم، وقد ازيده توضيحا وشرحا، ولكنني لا يمكن ان اضيف إليه اي شيء، لأن قيمة الحرية هي عنوان الإنسان الحي عبر كل العصور, وليس هناك ابداع حقيقي بدون حرية، ولهذا فقد قلت ( الإبداع إما أن يكون حرا أو لا يكون، والمسرح الذي لا يستطيع البوح بما ينبغي أن يقال لا يسمى مسرحا، وبالعودة إلى التاريخ سنجد أن المسرح وُلد في اليونان، وهي مهد الحرية والفلسفة والتمدن، وفي تراثنا سنجد على سبيل المثال شخصية عنترة، فرغم كونه عبدا إلا أنه كان شاعرا يحمل روح الإنسان الحر، وشخصيا لطالما عبرت دائما بكل حرية، لكن لا يكفي أن أبدع بمفردي كتابة مسرحية حرة، اذا لم أجد من يشاركني ومن يفهمني من الناس، وإذا لم تكن الدولة تؤمن بصناعة الإنسان كجزء من الصناعات الكبرى، فالمسرح جزء من مؤسسات الوطن العديدة كالأسرة والمدرسة والجامعة، ودوره الأساسي هو أن يربي ويعلم وينشر القيم الجميلة)
إن من ينشر قيم الحرية وقيم الجمال وقيم التسامح وقيم المواطنة، يفترض فيه ان يكون حرا، وان يكون جميلا، وان يكون متسامحا، وان يكون في وطنه مواطنا كامل المواطنة
وفي سؤال اخر قال الصحفي (برأيك، ما سبب غياب السؤال الفكري والسياسي في مسرح اليوم وطنيا وعربيا؟)
وفي الجواب يقول الاحتفالي (الحقيقة أننا دخلنا عصر التفاهة، فالجميع يحاول الهروب من الأسئلة والقضايا الكبرى، لأنها قد تسبب وجعا في الدماغ، أو مشاكل مع الدولة والمجتمع، في فترة السبعينيات كان المغرب ومعه العالم العربي، كما العالم يعيش في مناخ سياسي مبني على أساس تعدد التيارات الفكرية، أما اليوم، فقد وصلنا إلى ما سمّي بنهاية الأيديولوجيا، وأصبح الكل يبحث عن الأشياء السهلة، وبدأ التركيز على الشكل بدل المضمون، ومن هنا ظهر في العالم العربي ما يسمى بالمسرح التجريبي، فهو تجريب في الشكل على حساب المضمون الفكري والفلسفي)
وبخصوص الرؤية العيدية، في علاقتها بالواقع الماتمي العربي وبالهزيمة والانهزامبة، وبالعبث والعبثية وبالفوضى والفوضوي في جغرافيتنا العربية، يقول الاحتفالي جوابا على نفس السؤال الاسبق ما يلي
( بالفعل، لقد أسست ما سميته الرؤية العيدية أو الاحتفالية في المسرح، إيمانا مني بأن الإنسان خلق ليفرح، وأن الحزن عطب يصنعه السارقون والمارقون، فمن حق الفرد أن يحيا سعيدا، وأن يعيش ما أسميه أنا باليوم الثامن، فهناك أيام الأسبوع السبعة، وهناك يوم العيد، والمسرح هو يوم عيد واحتفال، ينبغي أن نرتدي فيه الزي الجديد، وأن ننطق فيه بلغة جديدة. ولقد انطلقت الاحتفالية من المغرب، لكنها موجودة الآن في كل العالم العربي، ومن واجبنا أن ندافع عنها، ليس لأنها مسرح شخص بعينه، ولكن لأنها المسرح الذي ينبغي ان نواجه به كل الصيغ الافتراضية التي تريد أن تبعدنا عن ممارسة حقنا في الاختلاف الذي لا يفسد للود قضية.
وفي هذه الاحتفالية يحضر التاريخ، باعتباره ضيفا، وليس باعتباره صاحب البيت الاحتفالي، وصاحب الفكر الاحتفالي، وفي سؤال اخر ، يرد هذا الموضوع الذي شغل النقد والنقاد المغارة والعرب، وذلك على امتداد عقود طويلة جدا، والذين اقاموا للتاريخ بيتا او حسنا او سجنا في الماضي، ومنعوه من يتعدى حدوده الوهمية، والتي لا وجود لها، ولخصوص هذا الموضوع ورد السؤال التالي:
(عملت في كتاباتك المسرحية دائما على استحضار الرموز التاريخية، ألم تكن تمارس نوعا من التقية السياسية بهذا الأسلوب؟)
ولقد كان الجواب هو ( إن التعبير من خلال الشخصية التراثية، أو من خلال الرمز هو جزء من اللغة المسرحية، فهو نوع من الابتعاد عن التقريرية وعن التعبير المباشر، في الأمثال الشعبية المغربية سنجد مثلا يقول «منديل صفية جيت نمسح فيه مسح في» والعرب يقولون «رجع بخفي حنين»، فهل هذا هروب من المواجهة أم هو التعبير من خلال الصورة؟ وهل مارس شكسبير التقية، أو كان خائفا عندما كتب عن عطيل؟ وما الذي يمكن أن يخفيه المسرحي وهو المرآة التي تفضح الواقع كما هو؟
وشخصيا ما أحسست يوما بأن هناك خطوطا حمراء ينبغي أن أقف عندها، ولو أحسست بذلك لتوقفت عن الكتابة).