أخبار إقليم الجديدةالتاريخالواجهة

ماجوريت الجديدة.. احتفال العين والأذن (2) Les Majorettes d’El Jadida, fête pour l’œil et l’ouïe

نورس البريجة: خالد الخضري
***************
(الجزء 2 والأخير)
****************

3– جديدية حتى النخاع

    حول هذا الاحتفال المبهج الذي كان يوشّي قلب مدينة الجديدة بواسطة فرقة الماجوريت في المناسبة والزمن المذكورين، وحول قضايا أخرى تهم المدينة، جالست مايسترو الفرقة مدام كوليت زهاء الساعتين رغم أنها اشترطت ألا تتجاوز مدة الحوار نصف ساعة .. حيث عبقت الجلسة بنسمات حنينية لذلك الزمن الجميل بذكرياته وصوره التي لم تبخل ضيفتي في تمكيني من ألبومها الشخصي بكامله، والذي ضم باقة أثيرة من الصور لازال كثير منها في حالة جيدة، بالألوان كما بالأبيض والأسود نظرا لجودة الورق المستعمل آنذاك.. صور تحمل في ظهرها طابع أشهر فوتوغراف جديدي من ذلك العصر الزاهي حيث نقرأ بوضوح وباللغتين العربية والفرنسية: “استوديو الشماع – 48 – شارع الحسن الثاني الجديدة .. الهاتف …..” .


    ولن أكون مبالغا متى أقررت أنني حاورت “بنت السبعة وسبعين” سنة فقط!! وكأني أجالسها أيام كانت تقود بجعات سربها الجميل.. فالمرأة لازالت تفيض نشاطا فيزيولوجيا وتوقدا ذهنيا، كما بقدر هائل من حبها للجديدة وللحياة ككل.. ولها في ذلك أسرار لعل من أهمها ممارستها المنتظمة للرياضة رسميا، حين كانت أستاذة لهذه المادة بثانوية أبي شعيب الدكالي (للّا مريم حاليا) ثم فعليا لما تقطعه يوميا ولحد الآن من مسافات طويلة مشيا على القدمين.. وأيضا بفضل عدم اقترابها وطوال حياتها، من التدخين ولا الكحول رغم أنها تتاجر بهذه المادة الأخيرة وبها تكسب قوتها بشكل قانوني، بحكم استمرار إدارتها لحانة زوجها حيث قالت بالحرف وبدارجة مغربية تتقنها :  “أنا نبغي فلوس الشراب، لكن ما نبغيش نشربو” .

    وطئت قدما الطفلة كوليت موري أديم عاصمة دكالة دون أن يتجاوز عمرها آنذاك 10 سنوات عام 1952، رفقة والدها الفرنسي ميسيو رايمون موري Raymond Moré ووالدتها الإسبانية نيكول سانشيز Nicole Sanchez فشقيقها جان موري Jean Moré قادمين من إفران حيث ولدت سنة 1942. عن هذا الحلول بالجديدة قالت مدام كوليت : جئت لمازگان سنة 1952 وبالضبط في العام الذي هُدِّم فيه “الكازينو” الذي كان مشيدا بالشاطئ فوق البحر.. والذي بحجارته تم تشييد قاعة الرياضة المغطاة المسماة باسم حارس الدفاع الحسني الجديدي الراحل نجيب النعامي.

    أقامت الأسرة في بداية الأمر في حي القلعة قرب “الصيدلية الجديدة” la nouvelle pharmacie لصاحبها الفرنسي ميسيو مانييتي Mr Magnétti.. وكان العمل الذي يمارسه والد كوليت إدارة المركز الطاقة الكهربائية لمدينة الجديدة Directeur de l’Energie Electrique .

    ومنذ أن حلت الصغيرة كوليت بهذه المدينة تعلقت بها بشكل خرافي ولا تزال.. فأصرت أن تعيش وتمضي بقية عمرها كما أوصت بدفنها فيها، رغم وفاة زوجها بباريس في 31 يناير 1980 وتوسلات ولديها نيكول وإيريك Nicole et Éric بالانتقال معهما إلى مدينة نيس الفرنسية حيث لازالا يقيمان حاليا.

4 – رشاقة.. جمال وقوام رياضي :

    عن ظروف ودواعي إنشاء فرقة الماجوريت، وعدد أفرادها وكيفية تطويرها ومعظم ما يتعلق بها من أزياء وأكسسوارات وتمارين وغيرها… سألت السيدة كوليت موري أو مدام بيگليزي فطفقت تجيب : سنة 1969 تم استدعائي من طرف باشا مدينة الجديدة آنذاك السيد محمد لعلج ليقترح علي إنشاء هذه الفرقة تبعا لمشاهدته لنماذج منها في بعض الأفلام الوثائقية، حيث كانت أسراب هؤلاء الفتيات تتقدم عادة الاحتفالات الوطنية والمباريات الرياضية في الملاعب والساحات العمومية في عدد من الدول الغربية وضمنها فرنسا.

    وفعلا انتقيت 20 طالبة من الثانوية التي كنت أُدَرِّس بها مادة الرياضة وهي ثانوية “أبي شعيب الدكالي” (للّا مريم حاليا) التي كانت تديرها الفرنسية الآنسة بورناون Mlle Bourgnon التي سيحل بعدها مسيو بولي MR Poli وهناك في هذه المؤسسة شرعت في تعلم اللغة العربية على يد الأستاذ هنّيوي الذي سيصبح بدوره مديرا بعد أن كان مدرسا لهذه المادة.

    وقد حرصت على أن يتمتع سائر فتيات الفرقة بالرشاقة والقوام الرياضي زائد جمال المحيا بطبيعة الحال.. وبدأنا نتدرب في الملعب التابع لثانوية ابن خلدون قبل أن ننتقل إلى قاعة الرياضة نجيب النعامي المغطاة. وفعلا في التاسع من يوليوز بمناسبة عيد الشباب سنة 1969، تم استعراض أول فرقة ماجوريت ليس في الجديدة فحسب، بل في المغرب كله.. بزي موحد يجمع بين اللونين الأبيض والأحمر وعلى هدي مارش عسكري انتقيته بنفسي.

    فنالت الفرقة إعجاب السيد الباشا وسائر من شاهدها من رجال السلطة ومنتخبين وكافة الجمهور.. مما جعل السيد الباشا يدعو إلى تطويرها عدديا وكيفيا.. فنودي على زميلي المغربي في مادة الرياضة بثانوية “امحمد الرافعي” الأستاذ نعيم الذي انتقى بدوره 20 شابا يافعا من الثانوية التي كان يشتغل فيها ثم من ثانوية “ابن خلدون” تمت تسميتهم تلقائيا ب “الماجور” لأنهم ذكور.. لكن اسم “الماجوريت” كان واستمر يطلق على الفرقة بكاملها ذكورا وإناثا. وكان هؤلاء الفتية يتمتعون بدورهم برشاقة وبنيات رياضية متكاملة.. فأصبحت فرقة الماجوريت تضم 40 فردا: 20 إناثا و20 ذكورا.. وكانوا يرتدون بدورهم زيا موحدا شبيها بلباس الفتيات من حيث الألوان، سراويل وقبعات بيضاء وسترات حمراء تزينها نياشين، لكن دون حمل تلك العصيات الشبيهة بالصولجانات، فهذه بقيت حكرا على الفتيات.. في حين اقتصر دور الذكور على القيام بحركات وخطوات مضبوطة بتنسيق محكم بينهم وبين زميلاتهم.. فكان أفراد السرب بكامله يتداخل ويتقاطع في حركات منمقة ومنتظمة عبر إيقاع موحد بشكل هارموني بديع.

    كنا أنا والسيد نعيم – تضيف مدام كوليت – كما بقية أفراد فرقة الماجوريت، نستيقظ في الخامسة صباحا لنشرع في التمارين بيومين أو ثلاثة قبل يوم الاستعراض في التاسع من يوليوز في حفلات عيد الشباب التي كانت تصل أحيانا أسبوعا بكامله.. وكنا نتمرن بغير موسيقى ولا إيقاع إلى أن وفرت لنا البلدية سيارة “رونو أربعة” R4 غدت تتبعنا يوم الاستعراض حاملة مكبرات صوت لبث الموسيقى.. وكان يتم تنميق هذه السيارة مثلها مثل بقية السيارات والعربات وضمنها عربات الكوتشي les calèches بالورود الاصطناعية الملونة.

    كنا جميعا أنا والسيد نعيم كما بقية أعضاء فرقة الماجوريت، نقوم بهذا العمل طوعيا وبحب دون مقابل مادي.. وأذكر أنه تم استدعاؤنا مرة من طرف بلدية مدينة الدار البيضاء لنقوم بعرض لفائدتها، فانتقلنا إلى هناك ثم عدنا عبر حافلة نقل وفرتها لنا البلدية دون تعويض مادي اللهم التغذية.. كان إنجاز ملابس الفرقة برمتها يتم من طرف معمل “السيم” وبغير مقابل بالنسبة له أيضا.

    بعد كل من مدام بيگليزي والأستاذ نعيم الذي توفي إثر حادث سير مروع رحمه الله، حل محلهما لتدريب فرقة الماجوريت كل من المرحوم الأستاذ التباري بلقيفة ثم بطلة ألعاب القوى في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي الجديدية، شريفة المسكاوي.. لكن العصر الذهبي لفرقة الماجوريت الكل يشهد بتألقه في عهد مؤسستها مدام كوليت بيگليزي الشهيرة بمدام روبير.54 – حنين وذكريات .

    وهكذا حتى وإن غادرت مدام كوليت بيگليزي فرقة الماجوريت في أواسط السبعينيات فإنها لم تغادر عملها وهوايتها الأولى كمدرسة الرياضة حيث انتقلت لتدريس هذه المادة بمدرسة “شاركو” Ecole Charcot لكنها بعد وفاة زوجها في فرنسا سنة 1980، اضطرت لمغادرة عملها بدون تقاعد لتشرف على إدارة حانته لحد الآن بمساعدة مدير هذه الحانة السيد موسى، الذي تدين له بالشيء الكثير والذي لازال يساعدها على الإدارة رغم بلوغه سن التقاعد.. كما يساعدها في أعمال البيت من طبخ وتنظيف وترميم وإصلاح متى تطلب الأمر ذلك.. وهي تشهد له بجودة طبخه حيث غدت تحب المطبخ المغربي بسائر أصنافه لاسيما الشاي، إذِ اعترفت أن ولديْها حين أوبتهما إلى الديار الفرنسية بعد زيارتهما السنوية لها بالجديدة، فأول مادة غذائية يحملانها معهما هي: “النعناع”.. بل إن ابنها إيريك أنشأ حديقة نعناع صغيرة ببيته الفرنسي.. كما أقرت بحبها لجميع أنواع الموسيقى المغربية لاسيما الشعبي منها.

    وطبعا فطوال هذه المدة التي قضتها بمدينة الجديدة والتي تشرئب على 70 سنة، كان بديهيا أن تقيم خلالها علاقات صداقة مع كثير من الشخصيات والعائلات الجديدية المنتمية إلى الديانات الثلاثة.. ففي متم المرحلة الاستعمارية وفجر الاستقلال كانت لها علاقات وطيدة مع المسيحية مدام ديفور Mme Dufour صاحبة قاعة “سينما باريز” والتي كنا نسميها سينما ديفور، كما بأختها وأبنائها.. وأيضا بالفرنسية مدام “كلينيك” عازفة البيانو في باحة فندق مرحبا …

    كما كانت لها علاقات مع عدد من الشخصيات اليهودية ومنهم مدام سيليي Mme Silier التي لا تزال حتى الآن تقيم بجانب الفندق الملكي Hôtel Royal وكذلك بعائلة السيد فيليكس MR Felix الذي كان لديه محل لبيع قطع الغيار الخاصة بالسيارات في “الهرية” بطريق مراكش. كما ارتبطت بعلاقة صداقة أيضا مع الدكتور “بوغانيم” Dr Voguanim الطبيب اليهودي الشهير وأسرته .. وعلى إثر ذكرها لليهود، صرحت أن معظم الصائغين الذين كانوا يتاجرون في الذهب والفضة، يهود.. لكن أغلبيتهم هاجرت إلى إسرائيل سنة 1967.

    أما من أشهر الشخصيات المسلمة والعائلات الجديدية التي لا تزال مرتبطة بعلاقات صداقة متينة معها حتى الآن، تذكر مدام روبير شخص الدكتور المرحوم عبد الكريم الخطيب.. كما تشيد بعلاقتها مع عائلة الدكتور جواد حصار التي وصفته بالرياضي المتمرس، والتي لم تنقطع سبل التواصل والزيارات بينهما وتربطها بزوجته علاقة صداقة وطيدة.

    في نهاية هذه الجلسة الحميمية أو “التارخية” إن شئنا التعبير، والتي عادت بي شخصيا إلى “الأمس القريب” في الزمن الجميل، سألت مدام كوليت بيگليزي إن كان بإمكانها أن تقوم بمقارنة بين الزمنين الماضي والراهن في رحاب الجديدة أو “مازگان” كما يحلو لها تسميتها، وهي التي عاصرت أشخاصا وعايشت أحداثا كما عاينت بنايات دالت وأخرى نبتت… قالت وهي تحاول أن تضفي على شعورها وجوابها نوعا من الحياد: “إنه لا داعي لهذه المقارنة فلكل زمن خصوصياته وعماراته وشخصياته، فالعقليات تغيرت بتغير الظروف الاجتماعية، السياسية والاقتصادية.. وهذا شيء طبيعي”.

    ذكرت هذا قائدة الماجوريت.. ثم رشفت جرعة من كوب شايها المنعنع بتلذذ وشراهة وكأنها تتذوقه لأول مرة.. وصعّدت زفرة خفيفة مشفوعة بابتسامة طافحة شطفت بها وبسرعة، مسحة أسى رانت على زمن جميل ولّي.. فاتحة في نفس الوقت شهية الإقبال على الحياة واحتساء كأسها حتى الثمالة…
**********
– المرجع: كتاب”الجديدة بين الأمس واليوم” لكاتب المقال على امتداد عشر صفحات من: 87 إلى 97

Abdeslam Hakkar

عبد السلام حكار مدير الموقع وصحفي منذ 1998 عضو مؤسس بالتنسيقية الوطنية للصحافة والإعلام الإلكتروني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى