ثقافة وفنون ومؤلفات

“وحده الحب” لا فرق بين مغربي وجزائري إلا بالتقوى

“وحده الحب” لا فرق بين مغربي وجزائري إلا بالتقوى

كوميديا موسيقية

نورس البريجة: خالد الخضري 

1 – حب شاهق مثل” جبل عصفور”

خلال مناقشة فيلم “وحده الحب” الذي عرض ضمن مسابقة الأفلام الروائية الطويلة في الدورة 24 للمهرجان الوطني للفيلم بطنجة، صرح مخرجه كمال كمال أنه استقى فكرته من حادث واقعي عاينه بنفسه في زيارة له لمدينة السعيدية  وخاصة منطقة بين الجراف فأثر فيه، ويتجسد في شابة جزائرية في الجهة المغربية تحمل رضيعها عاليا لتراه أمها في الجهة الأخرى من الحدود، فقرر كتابة سيناريو الفيلم عن جرح الحدود، ونزوات رجال السياسة هنا وهناك، وحب المغاربة للجزائريين، وحب الجزائريين للمغاربة، بكثير من الصدق الفني والعمق الإنساني.

إلا أن كمال لم يقارب إشكالية موضوع غلق الحدود بين بلدين شقيقين يجمع شعبيهما حب عميق وما نتج عن هذا الغلق من تشتيت أحبة وتفريق عائلات بشكل مباشر، بل تناول الموضوع  عبر قصة حب غزيرة بين زوجين يعيشان بمدينة وجدة التي يعمل فيها الزوج حميد (الممثل الجزائري أحمد مفتاح) عازفا على آلة ترومبيت ضمن جوق موسيقي متخصص بالدرجة الأولي في أغاني المنطقة “الراي”. ففي حوار شاعري بينهما إثر سهرة على الحدود تجمع بن مغاربة  وحراس الحدودين في تناغم وانسجام تام حيث لا فرق بين المغربي والجزائي إلا بالتقوى، تسأل الزوجة نورة (فاطمة بلدي) حميد عن كمية الحب الذي يحمله لها، يرُد أن قلبه الذي يكتنف حبها  كبير، شاهق وجميل مثل” جبل عصفور” فتطلب منه في الحين أن يأويها في قلبه / جبله هذا حية أو ميتة، وبرأيي لو أحل كمال اسم “جبل عصفور” هذا كعنوان للفيلم لكان أقوى، أجمل وأشد تعبيرا من العنوان التقريري المباشر المومأ إليه أعلاه.

وبالفعل حين تصاب نورة بمرض تعرف أنها لا محالة قاضية نحبها بسببه، تطلب من حميد أن يدفنها في قلبه ليفهم أنها تقصد “جبل عصفور” وهذا الجبل يقع في أعالي بني بوسعيد  بمنطقة تلمسان في الجزائر ويتميز بتضاريسه الوعرة، مساحاته الخضراء الخلابة ومنابعه العذبة على بعد 25 كلم من مدينة وجدة، حيث يمكن لمن يعتليه أن يشاهد هذه المدينة، كما يمكن لسكانها  بدورهم مشاهدة صخوره.

فيصاب بحالة هلع يردد معها وهو يبكي بمرارة:

” وكيف نعمل حتى ندفنها في ذاك الجبل وبيني وبينو السّلك والعسكر؟ عمرني ما غادي نقدر نوصل لو”

فلا يجد غير الترومبيت يفرغ فيها شجنه ويبثها كمده. لكن حكايتهما  تنتشر عبر مواقع التواصل الاجتماعي انتشار النار في الهشيم الجاف دون أن نعرف من رمى بالفتيل الأول أومن أولع الحكاية عبر تدوينة شاردة، إذ يتعاطف معهما آلاف المتتبعين الذين سيصبحون مريدين يتبعون الزوجين  وجدانيا عبر المواقع  المذكورة في حياة الزوجة، ثم فعليا جسديا بعد وفاتها عبر مرافقة آلاف المشيعين لنعشها من الجهة المغربية لا يرددون شعارات ولا يحملون لافتات بل شموعا ومشاعل تضيء ظلام الحدود لتجعل من الديكور ككل لوحة جمالية تؤثثها موسيقى جنائزية بطريقة أوركيسترالية  تبتدئ بتصفيق فردي لشابة – هي التي استهل بها الفيلم في أحد شوارع وجدة –  لا يلبث أن تنتشر عدواه إلى باقي الجموع المشيعة من الجانب المغربي كما من نظيره الجزائري حيث يستقبلهم نفس العدد تقريبا وبنفس الشكل والجميع يردد جملة واحدة:

“سوف نعمل على تحقيق حلم الأميرة”

وبالفعل يتم ذلك رغم تحركات العسكر ومناورات الباشا وباقي السلطات بمختلف درجاتها، حيث يدوخ كل أصحاب النفوذ والقرارات السياسية فلا يعرفون هل دفنت نورة في أرض المغرب أم الجزائر؟ وأين اختفى الرجل الكسيح الذي يقطن بالجزائر وكان كل أمله هو زيارة قبر زوجته للترحم عليها بمدينة وجدة ؟ وتلك المرأة  (سحر الصديقي) التي حملت ابنتها لتريها لوالدتها وهي تصرخ باسمها مع ما يحمله هذا الاسم من دلالات:

– ماما.. هذه ابنتي واسمها أحلام.

فيحار المسؤولون هل التحقــت الجدة بابنتها وحفيدتها ؟ هذه الطفلة البريئة التي يتوقف الفيلم على فمها الصغير مشرعا  في لقطة ثابته وكأنها هي صاحبة ذلك الصوت الأوبرالي “سوبرانو” ترافقها التصفيقات والزغاريد والترديدات الجماعية في تناغم سمفوني ضخم ومؤثر، منادية برفع الحـدود بين أحبة ومواطنين عزل من هذه الضفة وتلك، لا ذنب لهم ولا شنآن أو حرب بينهم بل “وحده الحـب” يجمع بينهم. حتى العسكري الصلف القاسي على زوجته والمقاطع لها (ربيع القاطي الذي أتقن اللهجة الجزائرية) يؤثر فيه الموقف الذي لا يعبر إلا على شيء واحد موحّد هو “الحب” فيبعث بخطاب لزوجته كاتبا:

– “كل واحد عندو في قلبو أميرة ديالو وانا عندي زوج أميرات”.

وينتهي الفيلم على فم الصغيرة ما زال مفتوحا صارخا وكأنها تنوب عما ذكره أحدهم بالفيلم: “دعهم يتكلمون أو يصرخون، فقد ظلوا صامتين لأزيد من 30 سنة” تُكتب على إثره  في النهاية هذه الجملة: “لدينا فن كي لا تموت الحقيقة” فردريك نيتشه.

2– بناء سمفوني 

في “وحده الحب” حل دور كمال كمال كرجل موسيقى بالدرجة الأولى حيث  وظف قدرا هائلا من مواهبه وكفاءته كمؤلف موسيقي من مستهل الفيلم إلى متمِّه في تصاعد سمفوني بالشكل الذي تُشيَّد به  السمفونية التي تبتدئ بمقدمة رخيمة

Prélude douce تتلوها إيقاعات هادئة (تصفيق فردي في الشارع – معزوفات فردية على آلات متنوعة، أكورديون، ترومبيت، ناي غربي، قيثارة) لتتصاعد تدريجيا مع تصاعد الأحداث وتشابكها إلى أن تصل إلى الذروة عبر تكاثف تداخل جميع هذه الآلات وغيرها من كمنجات وفيولا نصيل انتهاء  بالكونترباص فصندوق الإيقاع الكبير Grande caisse المرفق بالصنجات النحاسية المدوية حيث تنفجر الموسيقى بشكل جارف إلى إن تصل أو تعود إلى منطقة الصفر الذي هو سكون تام – وليس صمتا – بل هو صمت هادر إن شئنا التعبير، أو كما ورد في أحد حوارات الفيلم: “هناك صمت لا ينبغي إزعاجه في الموسيقى” مما يدفعنا  لإطلاق نعث “كوميديا  موسيقية” Comédie musicale على هذا الفيلم حيث أثثت الموسيقى أكثر من ثلثي  مشاهده بشكل حِرفي مخدوم يتماشى وطرحه الموضوعي، الشيء الذي يخول له على الأقل وبامتياز، جائزة أحسن موسيقى تصويرية في الدورة 24 للمهرجان الوطني للفيلم بطنجة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى