ثقافة وفنون ومؤلفات

“ما تبقى لكم”

“ما تبقى لكم”
مسرح “افروديت”
إخراج عبد المجيد الهواس
بقلم: رشيد بلفقيه.
عندما شاهدت عرض “ما تبقى لكم” المقتبس عن عمل بالاسم نفسه لغسان كنفاني، للمرة الأولى بالدورة 18 من “مهرجان طنجة للفنون المشهدية”، شدّني مكون الزمن في العرض بوصفه بطلا خفيا أسقط أقنعة الشخصيات، وتلاعب بمصائرها، وكشف أوراقها الواحدة تلو الأخرى، فبتّ ليلتي أطارد صوت “التيك تك، التيك تك، التيك تك” الرتيب الذي تردد كثيرا في الأحداث، مستمتعا بالتمادي في تأويلاتي المفرطة لوظائفه.
وعندما شاهت العرض للمرة الثانية هذه الأمسية بـ”مسرح عفيفي” بمدينة الجديدة، عزمت على تجاوز هذا المكون-وفي نفسي شيء منه- إلى مكونات أخرى للعرض، مستعينا بزادي البلاغي في تلقي فضاءاته، والوجه المجازي لشخصياته (حميد-مريم-زكرياء-حنظلة-الصحراء).
استوقفني بداية تداخل مسارات شخصيات العرض، وارتباطهم ارتباطا وثيقا بمصير شخصية “حميد”، الشاب الغزّي الذي انقلبت حياته رأسا على عقب بعد سقوط أخته “مريم” في الخطيئة مع “زكرياء”، وتتداعى ببطء مدروس آمالهم وصولا إلى النهاية المأساوية التي تعيد تصحيح الانحرافات لكن بطريقة قاسية، بموت بعض الشخصيات وتحطم أحلام البقية.
تؤكد لنا مآلات الشخصيات أنه لا يصح إلا الصحيح، وأن بريق الوعود يخفت تحت وطأة الواقع، وأن لا حلول سوى الصمود والمواجهة، أي الصمود في وجه الرغبات، والنزوات، والخيبات، وحتى النكسة. كما يؤشر الترابط المتين بينها على وحدة المصير واستحالة الاستمرار دون تكتلات صلبة، مستندة على قيم نبيلة، تحمي الفرد وتدعمه، دون أن تطغى هذه الواقعية وحدها على بنائها بوجود نفس تخييلي دقيق اقترض شخصية “حنظلة” من رسومات ناجي العلي لتكون حاضرة في أحداث العرض بالسلبية ذاتها التي توظف بها غي لوحات العلي.
يغامر “حميد” بالهجرة بحثا عن “التطهر” من العار، في سفر محفوف بالمخاطر يقوده من غزة إلى الأردن عبر الصحراء، بوصفها فضاء موحشا وعدائيا يستحيل اجتيازه في ظروف الحرب حتى على الجماعة ذات البأس والقوة، وهناك تُفرد الصحراء له جسدها بعد أن تلقفته في البداية، ثم تجعله يعيش تقلب أحوالها بين الوحشة والألفة، أي بين الإشفاق عليه وبين القسوة عليه وفقا لطبيعتها، فتظل تراقبه منذ خطواته الأولى على رمالها مستكشفة أعماقه التي ملأتها المشاعر المتناقضة، فهو يقف معجبا بجمال مناظرها وكأنه صدى لصوت محمود درويش حين قائل:
“لا أعرف الصحراء،
لكني نبت على جوانبها كلاما (…)
لا اعرف الصحراء،
مهما زرت هاجسها”
فتجيبه بكل ما فيها من صرامة على لسانها: “فجأة جاءت الصحراء، رآها مخلوقا يتنفس على امتداد البصر، غامضا، مريبا، وأليفا في آن واحد، صحراء غامضة وواسعة، لكنها أكبر من أن يحبها أو يكرهها، لم تكن هادئة تماما فقد أحسها جسدا هادئا يتنفس بصوت مسموع”. وقد شكلت لوحة الصحراء وهي تطبق على “حميد”، حتى ضاقت في وجهه السبل، وصورته وهو يهرب من دمار علاقته بأخته، ومن دمار مدن فلسطين وهي ترزح تحت القصف المعروض على الشاشة خلفه، تمثيلا بليغا لحالة الفرد الفلسطيني وهو يعيش الحصار الأبدي والدمار المستمر وضيق الأفق المزمن …
ختاما
ينتهي العرض، ولا يتبقى منه إلا ما تبقى لنا من تجربة حسية، وجمالية دقيقة، تؤكد لنا أن المسرح تفكير مختلف، بطرق مبتكرة، في واقعنا المرير، لكنه تفكير يتجاوز العرض الجامد التقريري والبارد إلى عرض يستفز المتلقي ويرغمه على التفكير والانخراط والتفاعل.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى