مجرد رأي

أزلو محمد يكتب:السياسة بين المكر والتوازن: مشهد مغربي معقّد

في خضم المشهد السياسي المتلاطم، حيث تتصاعد حدة السجالات بين المعارضة والأغلبية، يبرز سؤال جوهري: هل يمكن للسياسة أن تكون لعبة متوازنة بين المصالح العامة والمصالح الحزبية، أم أنها حقل دائم للمكر والمناورات؟ لعلّ هذا السؤال يتجلى بوضوح في المواجهة الراهنة بين الأطراف السياسية في المغرب، على خلفية الجدل حول الدعم الموجه لمستوردي الماشية.

بدأت شرارة الجدل عندما اقترحت الأغلبية تشكيل لجنة استطلاعية بدل لجنة تقصي الحقائق التي طالبت بها المعارضة، في قضية الدعم المخصص لمستوردي الماشية. جاء هذا الاقتراح ليشعل فتيل الاتهامات المتبادلة، حيث اعتبرت المعارضة أن الأغلبية تمارس “المكر السياسي”، بينما دافعت الحكومة عن موقفها باعتباره جزءًا من احترام الدستور وآلياته الرقابية التي منحها للبرلمان.

 

في أول تعليق رسمي على هذا السجال، حرص مصطفى بايتاس، الوزير المنتدب المكلف بالعلاقات مع البرلمان والناطق الرسمي باسم الحكومة، على تقديم موقف حكومته بنبرة هادئة ومتزنة. أكد بايتاس أن البرلمان المغربي، بمجلسيه، يمتلك صلاحيات رقابية متعددة، وأن ترجيح أي آلية على الأخرى هو قرار سيادي للبرلمان نفسه. وقال:

“لا يمكنني أن أرجح اختيارًا رقابيًا دون آخر. علاقتنا بالبرلمان تندرج في إطار مؤسساتي يحتكم لما أقره الدستور، ونحن نحرص على ضمان التنسيق والتوازن في هذا الإطار.”

ما قاله بايتاس يعكس فهمًا للدستور كوثيقة ليست فقط لتحديد الصلاحيات، بل لتنظيم التوازن بين المؤسسات. ومع ذلك، فإن تطبيق النصوص الدستورية يظل مرهونًا بممارسات الفاعلين السياسيين. هنا تبرز إشكالية التوازن بين السلطة التشريعية والتنفيذية، خصوصًا عندما تتحول الآليات الدستورية إلى أدوات للصراع بدل التعاون.

بيد أن المعارضة، ممثلة في تصريحات نبيل بنعبد الله، الأمين العام لحزب التقدم والاشتراكية، ترى في هذا الموقف الحكومي نوعًا من التهرب من المسؤولية. جاء في مقاله الأخير أن الأغلبية تواجه “مأزقًا سياسيًا وأخلاقيًا وقانونيًا”، متهمًا إياها بإهدار المال العام عبر دعم مستوردي الماشية دون أن ينعكس ذلك إيجابًا على المواطنين. وواصل بنعبد الله تصعيده بالقول إن:

“اقتراح لجنة استطلاعية بدل لجنة تقصي الحقائق هو محاولة للتملص من المحاسبة الحقيقية أمام الرأي العام.”

المعارضة تصف موقف الأغلبية بـ”المكر السياسي”، وهو وصف يحمل في طياته دلالات عميقة عن طبيعة المشهد الحزبي المغربي. فالمكر، في السياق السياسي، ليس مجرد اتهام بخرق الأخلاق السياسية، بل هو إشارة إلى استخدام الأدوات الدستورية والقانونية لتحقيق مكاسب حزبية على حساب المصلحة العامة. لكن، هل يمكن اعتبار ما تفعله الأغلبية مكرًا أم أنه مجرد ممارسة مشروعة لحقها السياسي؟

إذا نظرنا إلى التاريخ السياسي المغربي، نجد أن الساحة لطالما شهدت سجالات مشابهة، حيث تميل الأغلبية إلى تكييف الآليات الرقابية بما يخدم استقرارها، بينما تسعى المعارضة إلى فضح ما تعتبره اختلالات في تدبير الشأن العام. في هذا السياق، يصبح المكر السياسي سلاحًا ذا حدين: فهو من جهة يضعف الثقة بين الأطراف السياسية، ومن جهة أخرى يعكس حيوية الديمقراطية المغربية، التي لا تزال في طور البناء.

لكن، أين الجمهور من كل هذا؟ المواطن البسيط، الذي يعاني من تبعات ارتفاع الأسعار وتراجع القدرة الشرائية، يجد نفسه في مواجهة مشهد سياسي يبدو أحيانًا بعيدًا عن أولوياته. فبينما تتصارع الأطراف حول تشكيل لجنة استطلاعية أو تقصي حقائق، يظل السؤال الحقيقي عالقًا في أذهان الناس: كيف يمكن للدعم الموجه لمستوردي الماشية أن ينعكس إيجابًا على حياتهم اليومية؟

هنا، تبرز إشكالية أخرى، وهي غياب الوضوح في التواصل مع الجمهور. فالأغلبية تتحدث عن احترام الدستور وآلياته الرقابية، بينما المعارضة تتحدث عن “المكر” و”إهدار المال العام”. وبين هذا وذاك، يظل المواطن في حالة من الترقب، يبحث عن إجابات حقيقية لمشاكله المعيشية.

لعلّ هذا السجال يعكس الحاجة إلى إعادة التفكير في طبيعة العلاقة بين الأحزاب السياسية والمؤسسات الدستورية من جهة، وبين هذه المؤسسات والمواطنين من جهة أخرى. فالممارسة الديمقراطية لا تقتصر على احترام النصوص، بل على بناء جسور الثقة بين الأطراف كافة.

ربما يكون الحل في إرساء ثقافة سياسية جديدة، تقوم على الحوار البناء بدل الصدام، وعلى تقديم المصلحة العامة على المصالح الحزبية. في نهاية المطاف، السياسة ليست مجرد لعبة للمناورات، بل هي مسؤولية تجاه الوطن والمواطنين.

ما يجري اليوم في الساحة السياسية المغربية ليس مجرد خلاف حول آلية رقابية، بل هو انعكاس لصراع أعمق حول طبيعة الممارسة السياسية في البلاد. وبينما يواصل الفاعلون السياسيون سجالاتهم، يبقى الأمل معقودًا على وعي الجمهور وقدرته على دفع السياسيين نحو التركيز على القضايا الحقيقية التي تهم الوطن والمواطن. فالديمقراطية، في جوهرها، ليست مجرد نصوص تُكتب، بل هي حياة تُعاش بكل تناقضاتها وآمالها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى