أمطار الرباط تغسل بعضاً من آلام غزة

بقلم: توفيق بوعشرين
أتمنى أن تغسل أمطار الرباط الغزيرة، هذا الصباح، بعضاً من آلام غزة في نفوس المغاربة الذين حجّوا من كل فج عميق للتعبير عن غضبهم من المجازر الوحشية التي ترتكبها دولة الإجرام الإسرائيلي في حق أطفال غزة وناسها، وشباب الضفة ومواطنيها…
رغم غزارة الأمطار وبرودة الجو، وقف أطفال وشباب ونساء وشيوخ ورجال، حاملين أعلام فلسطين، وهم يرددون: “فلسطين عربية والصحراء مغربية”.
إنه شعار سياسي ذكي، يفك الارتباط بين التطبيع مع إسرائيل—الذي صار مكلفاً جداً للمجتمع والدولة—وبين مسار الدفاع عن الصحراء المغربية في واشنطن وباريس ومدريد…
وعلى الدبلوماسية المغربية أن تلتقط هذه الإشارة… بلا تأخير.
أحزاب، ونقابات، وتنسيقيات، وجمعيات، وروابط، ومنظمات حقوقية وأهلية… من كل الطيف المغربي، ومن كل جهات المملكة، نزلوا هذا الأحد إلى شارع محمد الخامس بالرباط ليرفعوا الصوت عالياً:
الوفاء الوفاء لدماء الشهداء…
إنه غضب شعبي مزدوج:
غضب، وشجب، وإدانة للإبادة الجماعية الجارية صوتاً وصورة، منذ قرابة سنتين، على يد مجرم الحرب n تنياهو
وغضب وإدانة شعبيين للأنظمة العربية التي تقف عاجزة ومتفرجة على الدم المُراق في 360 كيلومتراً مربعاً، لم يعد فيها ماء ولا خبز ولا أرز ولا دواء،
ولا مستشفى، ولا مكان آمن يتحرك فيه الأطفال، ولا قانون إنساني يُؤطّر الحرب…
نعم، حتى الحرب لها قانون، وضعه الضمير البشري، للتخفيف من غريزة القتل من أجل القتل
قد تكون إبادة غزة اليوم الأخطر في تاريخ البشرية الحديث، ليس فقط بسبب عدد الضحايا أو شراسة القصف، بل لأن هذه الإبادة تجري في عصرٍ يُفترض أنه أكثر تحضّراً وإنسانية.
في أربعينيات القرن الماضي، كانت النازية والفاشية والعنصرية في أوجها، وكانت فظائع الإبادة تُرتكب في مراكز اعتقال مغلقة، بعيداً عن الإعلام وعدسات الكاميرات. لم تكن هناك أمم متحدة، ولا محكمة جنائية دولية، ولا منظومة لحقوق الإنسان كما نعرفها اليوم. أما اليوم، فالوضع مختلف تماماً…
نعيش في عالم يملك قانوناً دولياً، ومنظمات أممية، ومحاكم عدل دولية وجنائية ومنظومة لحماية حقوق الإنسان ، وشبكات إعلام وسوشال ميديا تنقل بالبث المباشر وقائع الإبادة، صورة وصوتاً، ومع ذلك يتفرج العالم، كما لو كان يتابع موسماً جديداً من مسلسلات “نتفليكس”.
أمس، تحدثتُ مع فلسطينية من غزة، كانت الغصّة تخنق صوتها، وقالت لي:
“لم نعد نترك الأطفال يلعبون في ما بقي من ساحات الخراب فوق أنقاض غزة، لأن هؤلاء الملائكة أصبحوا صيداً مفضلاً للدرونات الإسرائيلية. إن شهية آلة القتل الصهيونية لا تقاوم النظر إلى طفل أو طفلة يلعبان خارج الخيام البلاستيكية ومدارس الأونروا…”
سألتها، ربما بسذاجة: “ولماذا تستهدف إسرائيل الأطفال بهذه الوحشية؟”
فأجابت:
“إسرائيل، وبضوء أخضر من أمريكا، تريد طرد كل سكان غزة من أرضهم. ولكي تضغط على الفلسطيني، الذي جذوره ضاربة في الأرض، تضربه في أضعف نقطة في قلبه: أطفاله. إنها تقتل الأطفال لتقول للأهالي: اختاروا بين الأرض والطفل. وهذه، لعمري، أبشع إبادة يتعرض لها البشر.”
ثم أضافت السيدة التي تشتغل في جمعية أهلية تُعنى بأيتام الحرب في غزة :
“كاذب ومنافق من يقول إن حماس فقط هي المستهدفة في هذه الحرب. أبداً. كل الشعب الفلسطيني مستهدف، في غزة كما في الضفة. انظروا إلى ما يحدث في مخيم جنين، حيث لا وجود لحماس، بل سلطة عباس العاجزة التي تتفرج على إبادة شعبها عبر شاشات التلفاز.”
نحن نعيش اليوم أسوأ مرحلة في التاريخ العربي، أو لنقل في الشتات العربي الذي اصبح مثل دكة غسل الموتى حسب تعبير مظفر النواب…
إسرائيل تضرب بطائرات أمريكية وصمت عالمي في غزة والضفة الغربية ولبنان وسوريا واليمن، وتحرّض على إيران، وتشل قوة مصر، وتهين الأردن، وتطبّع مع الإمارات والمغرب والسودان والسعودية.
أما نتانياهو، فيتفاخر علناً، وعلى مسمع العالم، بأنه:
“يغيّر وجه الشرق الأوسط مرة واحدة وللأبد…”
فلسطين اليوم اختبار حقيقي لما تبقى من ضمير في هذا العالم.
فلسطين جرح نازف في خارطة عربية فقدت وزنها وبوصلتها واعتبارها.
وإذا لم تستطع أن توقف الدم النازف، فعلى الأقل لا تضع يدك في الأيادي الملطخة بهذه الدماء.
صباح اليوم، التقيت وجوهاً طيبة لم أرها منذ سبع سنوات،
لكنني – في كل مرة – أعجز عن ردّ السلام بسلام، في زمن اغتيل فيه السلام…
وعاجز عن الجواب حين يُسألني أحدهم: “هل أنت بخير؟”
أنا لست بخير.
ولو كنت بخير، لما خرجت هذا الصباح تحت المطر إلى الشارع…
———————————-