بين قوسين : الفعل الجمعوي بين سندان البيروقراطية ومطرقة التبخيس

لم يعد الفاعل الجمعوي اليوم مجرد عنصر مكمل للمشهد المدني، بل أصبح ضرورة حتمية لأي حراك مجتمعي جاد ومسؤول. إن العمل الجمعوي الحقيقي لا يقوم على المناسبات ولا على الشعارات، بل على وعي عميق بأهمية الأدوار التي يضطلع بها الفاعل الجمعوي، من تعبئة للطاقات، وتأطير للفئات، وخلق جسور التواصل بين المؤسسات والمجتمع.
الفاعل الجمعوي هو من ينقل روح المبادرة من السكون إلى الحركة، ومن الخطابات الإنشائية إلى الفعل الميداني. فإذا كان المجتمع يزخر بإمكانات وطاقات، فإن الفاعل الجمعوي هو من يُعيد توجيه هذه الطاقات نحو التنمية المحلية، ويُحوّل الأفكار إلى مشاريع، والتحديات إلى فرص.
لكن، يظل السؤال الجوهري: ما الدور الحقيقي للفاعل الجمعوي في ظل هذا التراجع الملحوظ في مستوى الوعي المدني والمشاركة المجتمعية، خاصة في مدينة مثل الجديدة؟ وهل ما زال قادرا على قيادة التغيير الاجتماعي، أم أنه أصبح رهينة لواقع بيروقراطي، ومناخ ثقافي غير محفّز؟
الواقع يكشف أن الفاعل الجمعوي الجاد يواجه عراقيل كثيرة: من غياب الدعم المؤسساتي، إلى النظرة التبخيسية لدوره، مرورًا بشح الموارد، وصعوبة التفرغ، ومحدودية فرص التأطير والتكوين. غالبية الفاعلين الجمعويين اليوم موظفون يحاصرهم ضغط المعيشة من جهة، وبيروقراطية الإدارة من جهة أخرى، فكيف يُطلب منهم الإبداع والمبادرة والاستمرارية؟
ثم إن ما نلاحظه في مدينتنا أن أغلب المشاريع الجمعوية تُقام بجهود فردية وبـ”البركة”، دون رؤية استراتيجية، أو دعم منظم، أو تراكم معرفي. في المجتمعات المتقدمة، الفاعل الجمعوي يُمكَّن ويُحفَّز ويُحتضن، لأنه شريك حقيقي في التنمية. أما عندنا، فغالبا ما يُترك ليواجه مصيره وحده، يُصارع من أجل تمويل مبادرة، أو إيجاد مقر، أو حتى انتزاع الاعتراف بوجوده.
ومن المؤسف أن بعض الفاعلين الجمعويين أنفسهم لا يُطورون أدواتهم ولا يراجعون أداءهم، فيركنون إلى العشوائية، أو يتحولون إلى أدوات مناسباتية لا أكثر. ومنهم من يظل حبيس خطاب إيديولوجي جامد، لا يواكب المتغيرات، ولا يتفاعل مع حاجات مجتمعه المتجددة.
في المقابل، يبرز نموذج آخر لا يقل خطورة: فاعل جمعوي يتلوّن مع كل رياح، يتحالف ويتخاصم حسب المصلحة، بلا مبدأ ثابت، ولا رؤية واضحة. وهذا النوع، وإن بدا نشيطا في الظاهر، فإنه يُضعف ثقة الناس في الفعل الجمعوي، ويفرّغ العمل المدني من مضمونه النبيل.
لكن، رغم كل هذه التحديات، لا تزال هناك إمكانية لاستعادة الدور الجوهري للفاعل الجمعوي، بشرط أن نؤمن بأنه شريك لا تابع، وبأنه ليس فقط من ينفذ مشاريع، بل من يخلقها، ويقترح السياسات، ويواكب تطبيقها. مدينتنا في حاجة إلى جمعيات قوية، منظمة، تشتغل بتخطيط استراتيجي، وتحمل همّ المجتمع، وتملك القدرة على التأثير الإيجابي فيه.
ولذلك، وجب على مؤسسات المدينة أن تُعيد النظر في علاقتها بالجمعيات، وأن تُوفر لها فضاءات الاشتغال، وآليات الدعم، وفرص التكوين، لكي يكون الفاعل الجمعوي في مستوى التحديات، وقادرا على لعب دوره الكامل في التنمية المحلية.
نحن لا نحتاج فقط إلى تظاهرات موسمية ولا مشاريع عابرة، بل إلى رؤية تشاركية تجعل من الفاعل الجمعوي عنصرا محوريا في صياغة مستقبل المدينة. وهذا لن يتحقق إلا إذا اعترفنا له بحقه في التأطير، والتمكين، والاستقلالية.
ويبقى السؤال المطروح:
هل باستطاعتنا أن ننقل العمل الجمعوي من الحضور الرمزي إلى الفعل المؤثر؟
وما الذي نحتاجه حتى يتحول الفاعل الجمعوي إلى صوت مجتمعي حقيقي لا يتجاهله أحد؟
الجواب، كما نراه، يبدأ من الاعتراف الحقيقي بقيمة العمل الجمعوي، وتطوير قدرات الفاعلين فيه، وفتح المجال أمامهم للإبداع والمبادرة، بعيدًا عن الحسابات الضيقة أو المظاهر الزائفة.