مجرد رأي

بين قوسين : حين يصبح الواقع غريبًا عنّا

نمشي فوق الأرض التي ألفناها، ولا نعود نعرفها. نمرّ على الوجوه التي أحببناها، فنعجز عن تمييزها. نمدّ أيدينا إلى ذاكرة كانت لنا وطنًا، فنعود بخيبات لا نعرف لها اسمًا. شيء ما تغيّر… ليس في الخارج فقط، بل فينا أيضًا. وكلما حاولنا اللحاق بأنفسنا، وجدنا أننا تأخرنا كثيرًا… على غفلة من الزمن.

فجأة، ومن حيث لا ندري، انقلبت صفحة الزمن. لم يعد ذاك الزمان الذي حمل ملامحنا، ولا ذاك الذي نقشنا عليه ضحكاتنا الأولى، وبكينا على كتفيه أول خيباتنا. تغيرت الأيام، وتسربت من بين أيدينا كالماء، دون أن نشعر أننا نفقد معها تفاصيلنا. المكان الذي كان مأوى أرواحنا تهدم في صمت، لم يعد الدفء فيه كما عهدناه، ولم تعد جدرانه تحفظ صدى أحلامنا الصغيرة.

فقدنا أشياء كثيرة ونحن نغرق في التنازلات. أشياء كانت تمنح لحياتنا معنى، خسرناها على مهل، مقابل نجاتنا المؤقتة من واقع لا يشبهنا. صرنا نلعب أدوارًا غريبة، نلبس أقنعة ليست لنا، ونخضع بصمت لضرورات لا نؤمن بها. قطرات من الخضوع تسللت إلى أرواحنا، حتى تبلدت مشاعرنا ونسينا من نحن.

الوجوه تغيّرت، والقلوب تقلّبت. صرنا نُحاصر بأقنعة كثيرة، والصدق بات عملة نادرة، والنوايا باتت مشوشة، مسمومة أحيانًا. كل شيء بات هشًا، متآكلاً من الداخل. العلاقات التي كانت تضيء عتماتنا، صارت مستنقعات من الشكوك والتكلف، سالت في طرقاتنا كوحل، وتشبثت بأرواحنا كالوباء.

خسرنا أنفسنا، وخسرتنا أشياء كنا نحبها. تشوهت الأحلام، وانكسرت الرموز، وبهتت الأوطان في أعيننا، كأعلام نُكست دون وداع. اختفت شهيتنا للحياة، ذبل الشغف، وغادرنا الإصرار. وجدنا أنفسنا في الهامش، نراقب ما تبقى من الحياة من خلف سياج الذكرى، وكأننا لم نكن جزءًا منها يومًا.

العالم الذي بنيناه بألوان الطفولة تلاشى، الشموع التي كنا نضيئها كل مساء خبت واحدة تلو الأخرى. الحب الذي كان يسكن تفاصيلنا أضاع عنوانه، والورد الذي زرعناه في حدائق أرواحنا ذبل ولم ننتبه. الكتابة باتت عبئًا، الرسائل بلا دفء، والانتظار فقد مذاقه القديم. حتى الحنين صار غريبًا عنا، متعبًا، كأنه لم يكن يومًا بيتًا نأوي إليه.

حرائق الحنين التهمت مدنًا بأكملها في دواخلنا، ومدنًا حلمنا بها ولم تولد أبدًا. خفتت نار الاشتياق، سكنت الأطلال، وهجرتنا القصص التي كنا نرويها لأنفسنا كي لا نيأس. أسدل الزمن ستائره الأخيرة، وتركنا في قاعة خاوية نراجع فصولًا من شعور لم يكتمل.

استسلموا… واستسلمنا. غادروا… وغادرنا. ولم يبقَ من خلفهم سوى ركام من الذكرى والخذلان. هرب الأمان، وتبخر الحنين، وسقطنا أسرى داخل قفص حكاية انتهت قبل أن تبدأ. تسرب الخوف إلى عروقنا، وكبر الذلّ فينا، وسكن الحزن تفاصيلنا، وكأننا خُلقنا لنكون شهودًا على انهيار مدن بنيناها بالحب والأمل، مدن من عزة وكبرياء، شيّدناها طوبة طوبة، ثم هدمت فوق رؤوسنا.

مرّ الزمن، ونحن على غفلة منه. كبرنا، ولم ننتبه أننا نفقد ملامحنا مع كل عام. جفّت أعمارنا كما تجف الأشجار في صيف قاسٍ. نزفنا صحتنا وطاقتنا وأمانينا كما يُهدر الماء، وصرنا نحيا كذكرى، لا كحياة. صارت طقوسنا تفاصيل قديمة في كتاب منسي، وارتفع في الأفق صفير القطار الأخير، قطار لا ينتظر أحدًا.

رحلت أشياء كثيرة، دون ضجيج. وجاءت أشياء لم نرغب بها. تغيّرت معالم الطريق، وتبدّلت الحقائق، وسُرقت من بين أيدينا لحظات، وأُهينت مشاعر، واغتُصبت أحلام. كل ما كان لنا ذات يوم أصبح سؤالًا معلقًا لا جواب له… ومضينا، نحمل في صدورنا صمتًا كبيرًا، وذاكرة مثقوبة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى