أخبارلحظة تأمل

ذ. توفيق بوعشرين يحكي : هكذا كنتُ أقضي العيد في السجن

طَعم العيد في السجن مُرّ.
هذه خلاصة مقتضبة للذين لا وقت لديهم للقراءة أو الشرح أو الاسترسال.

لماذا؟
لأن العيد صُنع للأحرار، لا للمعتقلين.
فالأعياد تدخل كل البيوت، إلا بيت الإكراه البدني؛ ذلك البيت الذي فوق سمائه لا تحلّق الملائكة، من كثرة الآلام الصاعدة منه إلى ربّ العباد.

العيد في قبر الحياة، في السجن، يوقظ الذكريات في نفس المعتقل، ويُهيّج الشوق إلى الحرية، إلى العائلة، إلى البحر، إلى الشجر، إلى جلسةٍ وسط الأحباب، إلى التمدد تحت شمس الربيع الخجولة، إلى اللعب مع طفلٍ أو قطةٍ أو حتى لمجرد مشاهدة فيلم في السينما.

العيد في السجن يُشبه الجنازة: يترحم فيه الجميع على أيام الحرية، ويعدّدون مناقبها، ويرفعون أكفّ الدعاء إلى الله بالفرج، بذهاب الكرب، وزوال الحقد والشرّ من نفوس البشر .

عندما تعلن التلفزة الرسمية عن ثبوت رؤية الهلال، ويُذاع أن رمضان قد توقّف عند يومه التاسع والعشرين، تسمع في كل أرجاء السجن صرخاتٍ وهتافاتٍ وتهليلاتٍ لا تدري، أهي من السعادة بالعيد، أم من التعاسة لكونهم ما زالوا وراء الشمس؟

أهو فرح بنهاية الصيام، ونهاية “حريرة” باردة مليئة بالطحين والشعرية وطَعمٍ يعجز أمهر الذوّاقة عن وصفه؟ أم هو احتجاج على عيدٍ بلا فرح، بلا صلاة، بلا أمل، بلا عائلة؟

بعد الإعلان عن العيد، يشرع كل المعتقلين في ترقّب لائحة العفو الملكي، التي تنزل عادةً في الساعة الثامنة مساءً.

تبدأ التكهّنات قبل أسابيع من كل عيد، وخصوصًا وسط كبار “محللي” السجن من قدماء المعتقلين.
فالبعض يقول إن لوائح العفو هذه السنة ستكون موسّعة لأن الجالس على العرش يُكمل عشرين سنة من الحكم، وإنّ عطفه سيزيد مع زيادة سنواته في السلطة.

والبعض الآخر يرى أن أعداد المستفيدين من العفو ستكون أكبر هذه السنة لأن السجون مكتظة عن آخرها، والعفو هو الطريقة الوحيدة لتخفيف هذا الاكتظاظ، مادام قانون الإفراج المقيد معطّلاً منذ سنوات.

أما الأكثر واقعية من سكان السجن فيقول:
“لا توهموا أنفسكم بمغادرة السجن قبل انتهاء العقوبة. لا أحد يتذكّركم وراء الأسوار… اطرحوا عنكم كل أمل ”.

الصيام عن الطعام ينتهي، لكن الصيام عن البهجة والفرح مازال مستمرا ..

بعد الثامنة مساءً، وبعد ساعات من الانتظار، يبدأ الأمل يكبر عند أولئك الذين تُفتح بوابات غرفهم، ويبدأ يتبدّد عند مَن لا يقترب المفتاح النحاسي من عنابرهم.

ومع ذلك، يستمر صراخ المفرج عنهم، يودّعون رفاق السجن من المحظوظين ، فيما يبدأ اليائسون من عبور بوابة الأسر بالصراخ طلبًا لحاجيات وأغطية وأوانٍ ولباس، ممّا سيتركه المفرج عنهم من الذين سيبيتون في “منازلهم” تلك الليلة.

هذا، طبعًا، إن ترك الحراس للمفرج عنهم مجالًا للتبرّع بما في حوزتهم من ممتلكات بئيسة.

في صباح العيد، لا يرى المعتقلون جلابيب بيضاء سوى واحدة، تلك التي يرتديها مدير السجن، وهو يمرّ على الزنازين ليبارك للمعتقلين العيد بنصف ابتسامة، مردّدًا الدعاء الشهير ما بين الأسوار: “الله يفرج عليكم”.

يردّد هذا الدعاء تلقائيًا، بلا خشوع ولا تضرّع، حتى إنّي، من كثرة ما سمعته لسنوات ، ما عدتُ أُردّد خلفه “آمين”.

كنتُ أجزِم أنها جملة تقال فقط للمناسبة للمجاملة ، لا دعاءً صادقًا صاعدًا من القلب، تمامًا مثل كل عبارات المجاملة التي نقولها عندما نلتقي بأحد معارفنا في الشارع.

فطور صباح العيد؟ (شكلٌ ثاني) طعامك انت ..

إضافةً إلى “حليب الغبرة”، يُضاف كأس عصير ليمون، ثلاثة أرباعه سُكّر، وقطعة كعك مما يجوز أكله بلا كثير تدقيق.
أما “سفرة الغداء”، فحسب اليوم الذي يصادف العيد، يحدّد برنامجها (menu): عدس، أو لوبيا، أو كسكس، أو دجاج، أو “بيبي مخشّب”.

في السجن، الروتين أحد ثوابت مؤسسة العقاب وبفضل هذا الروتين يستقر الخضوع ويؤدي السجن احدى اهم وظائفه الردع ….
العشاء ترفٌ لا يلتفت إليه أحد، وجلّ الساكنة السجنية تكتفي بوجبتين فقط في اليوم.

الحدث الأهم؟ مكالمة هاتفية تحت المراقبة لا تتجاوز دقائق معدودات، يسأل فيها المعتقل عن أهله وذويه، ومن ما زال يذكر اسمه وصورته في العالم الآخر.

بعد أن تُغلَق الأبواب باكرًا على خلق الله البؤساء – لأن الموظفين لهم عائلات تنتظر عودتهم – يبدأ العيد الحقيقي للمعتقل،
عيدٌ من عذاب الذكريات، وآلام الفقد، ووخز الخسارات.
وإذا لم يكن المعتقل من أصحاب “الحق العام”، وكانت السياسة أو الصحافة أو الرأي هي التي قادته إلى بيت العذاب هذا، فإنه يبدأ يوم العيد بالحقيقة التي قالها الفيلسوف الفرنسي فولتير:
“من السهل فهم الشر، لكن من الصعب فهم الشرير!”

هذا أول عيد أقضيه في بيتي، بعد سبعة أعياد بلا حرية، بلا فرح، بلا أمل.رجاء اقرؤوا كلماتي هذه بعيونكم ولا تنقشوها فوق قلوبكم .

لكن، لا أخفيكم… أنا لا أتذكر أيام السجن.
أنا ما زلت أعيشها.

أعيشها لأن سجناء رأي آخرين ما زالوا هناك:
النقيب الشيخ محمد زيان،
ناصر الزفزافي وقادة حراك الريف،
المناهضون للتطبيع،
المطالبون بحقوق بسيطة…

هل يليق بنا العيد، وإخوانٌ لنا في الدين والإنسانية يُبادون منذ 16شهرا في غزّة،
ولا مَن يمدّ لهم يدَ العون،
ولا مَن ينصرهم أو ينتصر لهم،
ولا مَن يدعو لهم من على منابر المساجد،
التي جفّت قلوب خطبائها من الرحمة والإنسانية والعطف.

وقانا الله شرّ ذلك.
له الحمد في ما قضى وله التسليم فيما أراد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى