عبد الكريم الماحي… الزجّال المجذوب الذي كتب الحياة على حافة الألم

في زاوية مظلّلة من تاريخ الزجل المغربي، حيث تتقاطع الطرق بين الجنون والحكمة، وبين الشعر والنبوة، وقف رجل بملامح الدرويش ونبرة المتمرد، يحمل على كتفيه عبء الكلام ومعناه، ويمشي على أرض لا ترحم، شاهقا بصوته وإن خذلته الدنيا. ذلك هو عبد الكريم الماحي، شاعر الزجل الذي لم يطلب مجدا ولا تصفيقا، بل عاش القصيدة كما تعاش المحنة: في صمت الهامش، وعلى إيقاع العراء.
● من بطيوة إلى شوارع الزجل
ولد عبد الكريم الماحي سنة 1972 في منطقة “بطيوة” القابعة على هامش خريطة إقليم الجديدة. من هناك، من تربة فلاحية يانعة، سيتفتح وعيه الأول على عبق الأرض وصوت المواويل. لم يكن الطريق معبّدا أمامه، بل سار مبكرا في دهاليز الحرف الشعبي، منبهرا بسحر الكلمة الدارجة التي تفك طلاسم القلوب دون تكلف ولا زيف.
في أوائل التسعينات، سيلتقي بالفنانين محمد وحميد باطما، في تلك المرحلة التي كانت فيها ملامح الزجل الغيواني تشق طريقها داخل النسق الشعبي المغربي. كان اللقاء مصيريا. إذ سيفتح أمامه بوابة الشعر الميداني، حيث تمتحن الأصوات لا في القاعات، بل وسط الأحياء والأسواق ومقاهي “الكرسي المهترئ”.
● شاعر مجذوب… أم حامل لواء الزجل الجديد؟
لم يكن عبد الكريم الماحي شاعرا تقليديا. كان مجذوبا يكتب كما يتنفس. لغته كانت تنضح بالحكمة، مشحونة بالحزن، لكنها تبتسم وسط الظلام كما تبتسم شمعة في زقاق مغلق. شبه بـ سيدي عبد الرحمان المجذوب، ليس فقط في نبرته أو في تجواله اللامنتمي، بل في عمق رؤاه الاجتماعية التي قالها بلسان الدراويش، لا الوعاظ.
قال في إحدى قصائده:
“اللّي باع هويّتو
ماشي عيب يبيع لُغتو
واللي نسى نفسو
ما يستاهل غير الموت اللّي بلا كفن.”
بهذا النفس المتأجج، كتب عبد الكريم الماحي عن الوطن، عن الغربة، عن الإنسان، عن الحب المنبوذ، عن القهر الاجتماعي، عن الأحلام التي لا تجد وسادة تستريح عليها.
● بين الزجل والمسرح والغيوان
لم يكتف الماحي بالكتابة فقط، بل خاض تجربة المسرح الشعبي، وأسس فرقة غنائية ذات طابع غيواني في بداية مشواره. مزج الكلمة بالنغمة، والجملة بالصرخة، كما لو كان يعيد إنتاج ملحمة الحكي الشعبي في قالب حداثي صارخ، لا يعرف الرتابة.
كانت حركاته على الركح تعبر عن فيض داخلي لا يحتمل، عن طاقة فنية كانت تبحث عن منصة تليق بها، لكنها كثيرا ما صدمت بجدار الإهمال، ووجوه المسؤولين المتجهمة.
● مؤلفات على هامش الضوء
نشر عبد الكريم الماحي عدة دواوين، من أبرزها:
-
“لحماق تسطى” (2005): ديوان الصرخة الأولى، حيث الجنون ليس مرضا بل أسلوب مقاومة.
-
“اتحتحيت السؤال” (2015): تأملات وجودية في جسد دارجي.
-
“شكون جرح الدم؟” (2019): قصائد تنزف صدقا وتذبح السكون.
-
“دموع الما(ء)” (2022): آخر زفرات شاعر يتقن الانسكاب على الورق.
كل ديوان كان بمثابة جرح مفتوح. لم يكن الماحي يكتب من برج عاجي، بل من زقاق، من سرير مهترئ، من قلب الحياة.
● المنفى الداخلي والخذلان الثقافي
رغم غزارة إنتاجه وفرادته الأسلوبية، عاش عبد الكريم الماحي مهمّشا، بعيدا عن الأضواء، نادرا ما دعي إلى مهرجانات الزجل أو محافل التكريم. ظل وفيا لمكانه: هناك، حيث الشعب ينطق بلهجة ساخرة، حيث القصيدة تلقى أمام كأس شاي مر، وليس خلف الميكروفونات المزركشة.
اشتغل لسنوات في السكك الحديدية، ثم ترك الوظيفة طوعا ليعيش الحلم الذي يقتل أصحابه غالبا. حرم من التغطية الصحية، ومن الدعم الثقافي، ومن أدنى شروط الكرامة، لكنه لم يفرط في كرامة قصيدته يوما.
● الرحيل في صمت… والبقاء في الذاكرة
في 16 غشت 2024، غادر عبد الكريم الماحي الحياة، بصمت يليق بشاعر لم يطلب من العالم شيئا. مات كما عاش: بعيدا عن صخب الاحتفالات، قريبا من أوجاع الناس. خبر وفاته خلّف صدمة في أوساط الزجالين، الذين وصفوه بـ”المدرسة”، و”الظاهرة”، و”ابن الشعب”.
في مرثية رثاه فيها أحد أصدقائه قال:
مات عبد الكريم، لكن ماحي ما ماتش.
بقى فكل قافية خارجة من الوجع
● ما بعد الماحي… مسؤولية ذاكرة
اليوم، وبعد رحيله، يفرض سؤال: لماذا لم يحتضن المغرب هذا الصوت البديع في حياته؟
هل لأن الزجل لا يزال حبيس النظرة الفلكلورية؟ أم لأن المبدعين الحقيقيين مزعجون في صراحتهم؟
ربما نحتاج إلى إعادة قراءة هذا الرجل، لا فقط من خلال دواوينه، بل من خلال موقفه الوجودي: أن تكون شاعرا، وتقول “لا” في وجه مجتمع يقول لك “اصمت”.
ختاما، كان عبد الكريم الماحي، شاعرا زجالا لا يشبه أحدا، لأنه لم يجامل، ولم يساوم، ولم يهادن. عاش كبيرا في ظل تواضعه، ورحل صامتا كما يرحل أولياء الله الخفيين.
وإن كان قد مات جسدا، فإن كلماته ستبقى تمشي بيننا، على ألسنة الدراويش، وفي أسواق الكلام، وفي ليالي الزجل الذي يقال من القلب… إلى القلب.