بقلم شاكر جرّار / دعاء علي
الرئيس باراك أوباما أثناء خدمة الصلاة الافتتاحية الرئاسية في كاتدرائية واشنطن الوطنية مع السيدة الأولى ميشيل أوباما، ونائب الرئيس جو بايدن وزوجته، في 22 كانون 2013، اليوم التالي لتنصيب أوباما رئيسًا للمرة الثانية.
في ثمانينيات القرن الماضي، تعرّضت نظرية العلمنة لصفعة كبرى. فقد قامت هذه النظرية على مقولتين رئيسيتين: مقولة تأسيسية ادعت أن تمايز النطاقات «الدينية» و«الدنيوية» سيؤدي بالضرورة إلى اضمحلال الدين واندثاره. ومقولة أخرى لاحقة، تفيد بأن هذا التمايز سيؤدي إلى فقدان الدين لوظائفه الاجتماعية وتراجعه من المجال العام وحصره في نطاق خاص ومحدد. لكن ما كانت العلمنة تبشّر به من «أفول الدين» كنتيجة حتمية للتحديث اصطدم بواقع «عودة الدين» كفاعل يقاوم ويرفض البقاء على الهامش الذي رسمته له نظريات الحداثة.
لم تتمثل مؤشرات «عودة الدين» في مظاهر التدين والصلوات الجماعية واللباس وغيره، فهذه العلامات كانت حاضرة باستمرار في مجتمعات متعددة. ما استجد هو أن «الدين» رفض أن ينحصر دوره في تنظيم أمور الأفراد الروحانية، أو أن يتحول إلى حالة ايمانية صرفة تحكمها علاقة الفرد بالله، أي رفضَ أن يبقى ضمن إطار الحيز الخاص كما افترضت وفرضت نظريات العلمنة عليه. استدعى ذلك العديد من المنظرين لإعادة التفكير في الظاهرة الدينية من جانب، ومساءلة نظرية العلمنة من جانب آخر، باعتبارها تنظر إلى التاريخ كمسار خطي ينتقل بحتمية حداثية «من التطير إلى العقل، ومن الإيمان إلى الإلحاد، ومن الدين إلى العلم»1.
في هذا الإطار، طُرحت مقاربات جديدة «للدين» في العالم الحديث، تحاول تتبع كيفية تشكّله بالصورة التي بات يعّرف بها اليوم، وهوية واضعي هذا التعريف، و«المعايير» التي صُمم التعريف على أساسها، والنموذج الذي تنتمي له. كما تحاول الكشف عمّا تشي به الثنائية الحديثة التي تمت صناعتها من «الدين» و«العلمانية».
مقولات العلمنة
على مدى أكثر من قرنين، ترسخت نظرية العلمنة كنظرية «نموذجية» أجمع عليها تقريبًا كل الآباء المؤسسين للعلوم الاجتماعية الحديثة، بحسب عالم الاجتماع خوسيه كازانوفا2، تتمثل مقولتها الأساسية في أن عملية التحديث المجتمعي تترافق بالضرورة مع عمليات فصل وتباعد للنطاقات «الدينية» عن النطاقات «الدنيوية»، وخاصة الدولة والاقتصاد والعلم. لا يعني ذلك فصل المؤسسات الدينية عن الدنيوية داخل الحكومة فحسب، فهذا الفصل يمكن إيجاد عدة أمثلة عليه في عالم ما قبل الحداثة. إلا أن ما يميز العلمانية هو، بحسب الأنثروبولوجي طلال أسد، أنها تستلزم تقديم مفاهيم جديدة «للدين» و«الأخلاق» و«السياسة»3.
افترضت العلمنة أن الدين سينحسر مع التحديث، وأن سيرورتها ستؤدي إلى خصخصة الدين أو تهميشه4. وبالتالي، بأدوات الحداثة من علوم واقتصاد ودُول، يملأ الإنسان الفراغ الذي تركه الله، ويصبح الدين مجرد فكرة لا أثر عملي لها في الحياة اليومية في المجتمع، إلا في عقول من يؤمنون بها وفي حياتهم الخاصة5.
تكمن المغالطة الأساسية في هذه النظرية، بحسب كازانوفا، في الخلط بين «السيرورات التاريخية للعلمنة نفسها» وبين «النتائج المسبقة» التي يفترض أن تمارسها على الدين، أي بين ما سبق العلمنة ورافقها وقاد إليها من جهة، وبين ما يفترض أن تقود إليه من جهة أخرى. ورغم، ما يسميه، «الأفول المتواصل للدين في معظم أوروبا الغربية»، إلا أن ذلك ليس كافيًا لحمل النظرية وتعميمها بالشكل الذي ما تزال تطرح فيه، بعد «عودة» الدين في المجال السياسي حول العالم في العقود الأربعة الأخيرة.
لكن قبل تفسير أسباب «عودة» الدين، لا بد من مساءلة «غيابه» أيضًا. فهذا التصور يفترض أن الدين بجوهره -الواحد- كان حاضرًا قبل الحداثة ثم غاب مع تقدمها، وعاد في العقود الأخيرة. لكن بحسب كازانوفا، فإن الحالة التي يشار إليها اليوم بأنها كانت ذروة سطوة الدين -أي أوروبا في القرون الوسطى- لا «تخبرنا بشيء عن التدين الفردي». فالجميع كان مسيحيًا طالما عاش في ظل الكنيسة، أي طالما وضعت الكنيسة المبادئ الأساسية لتنظيم حياته، وما من معطيات كافية حول توزيع المعتقدات والممارسات والتجارب الدينية في تلك الحقبة تدفع للاعتقاد بأن تلك المجتمعات كانت أشد تدينًا من مجتمعات أوروبا اليوم. بكلمات أخرى، فإن «البنية نفسها [كانت] دينية، أي مسيحية، وليس بالضرورة الحياة الشخصية للأفراد الذين عاشوا ضمن إطارها». بالتالي ، فما من سبب لاعتبار الحياة الحديثة «أقل تدينًا» مما سبقها6، و«إذا كان دخول الدين [اليوم] إلى الحياة العامة مشكلةً [من وجهة نظر العلمانية]، فذلك يعني أننا نفترض مسبقا إطارا ظل فيه الدين خارج الحياة العامة»7، كما تقول جوديث بتلر.
كيف يصبح الدين «مقبولًا»
يسرد أسد ما يصفه بأنه استجابة المدافعين عن العلمانية لانفجار الدين في المجتمعات الآخذة في التحول نحو الحداثة، قائلًا إن هؤلاء المدافعين جنّبوا أطروحة العلمنة الإجابة على الأسئلة التي يطرحها هذا الانفجار بجعلها أطروحة معيارية، «فلكي يكون المجتمع حديثًا، ينبغي أن يكون مجتمعًا علمانيًا، وكي يغدو مجتمعًا علمانيًا، عليه أن يعدّل الدين وفقًا للفضاءات غير السياسية»، أي أن ما يعيق تحديث هذه المجتمعات التي شهدت «عودة» الدين، خاصة في السياسة، هو لا-علمانيتها، ومن أجل بلوغ العلمانية، وبالتالي الحداثة، يجب حصر الدين في فضاءات «خاصة». بذلك، لم تضطر نظرية العلمنة لتقديم إجابات على اهتزاز مقولة أفول الدين، بل قدمت ما يمكن أن يعد استطرادًا فحسب.
كذلك، فيما يتعلق بخصخصة الدين، أي تحوّله إلى مسألة تقع في «الضمير الفردي» لا حضور مجتمعي بارز لها، يوضح كازانوفا أن إشكالية هذه المقولة تكمن في تحوّلها من إطار لدراسة النزعات التاريخية السائدة إلى نظرية معيارية توجيهية للمؤسسات الدينية في المجتمع الحديث، أي تملي ما «يجب» أن يكون الدين عليه والحيز الذي «ينبغي» له أن يشغله. من وجهة نظر كازانوفا، على نظرية العلمنة أن تجيب على احتمالات وجود «أشكال مشروعة للدين «العام» في العالم الحديث، تضطلع بدور سياسي ..[و]تسمح بخصخصة الدين وتعدد المعتقدات الدينية الذاتية». فالحداثة تقدم الدين على أنه «شأن خاص بين العبد وربه»، مساويةً بين الدين والإيمان، إلا أنه يمكن «قبول» الدين في الحيز العام إذا وُضعت أمامه شروط لدخول هذا الحيز8.
لا يمكن تجاهل العلاقة بين حركة الإصلاح الديني ونشوء الرأسمالية والدول القومية من جهة، وبين العلمانية من جهة أخرى.
لكن هذه الشروط، بحسب أسد، ليست مجرد محددات يمكن لأي محتوى عقائدي توفيرها ليصبح «معتمدًا» أو «شرعيًا» في المجتمع الحديث، فليست كل الأديان أو أشكال الدين مرحبًا بها في المجال العام لهذا المجتمع. هناك «دين» محدد يُسمح بحضوره في المجال العام المعلْمن. وهذا الدين -الذي قد يختلف في محتواه- تم تعريفه بما يتناسب مع نموذج ديني معين هو النموذج البروتستانتي، بارتباط تاريخه بتاريخ العلمنة وتاريخ الرأسمالية ارتباطًا عضويًا. لقد لعب الإصلاح البروتستانتي دورًا محوريًا في خلق «دين مخصخص» يعيد صياغة العلاقة بين الإنسان والله، بحيث أصبح الإيمان ليس فقط علاقة شخصية مباشرة بين «ذات فردية وإله فردي»، بل أيضًا علاقة تقع في الحيز الخاص، ذاتية أو داخلية، كما يشير كل من أرفيند – بال مانداير وماركوس درسلر، في مقالهما المعنون بـ«الحداثة وصناعة الدين وما بعد العلمانية»9.
لقد ساهم الإصلاح البروتستانتي والعلاقات الرأسمالية في خلق هذه الذات الفردانية وتشكيل علاقتها مع الله. يقتبس الكاتبان في المقال المذكور مقولة مارتن لوثر الشهيرة: «إنه لشرٌّ سافر القول إن محبة الله، حتى وإن كانت قوية، هي نفسها محبة المخلوقات». هذه المقولة توضح هذا التحول بالذات، فما يؤكده لوثر هنا هو نفي العلاقة بين محبة الله ومحبة الآخرين، وبالتالي تكريس الأنا الفردانية التي تسير على منطق الإصلاح القائم على إخراج المجتمع أو الجماعة من معادلة العلاقة مع الله، لصالح «الإيمان الفردي» الذي عليه أن يتحرك في الحيز الخاص، و يتم التعامل معه والنظر إليه باعتباره شأنًا فرديًا خاصًا.
بالتالي، لا يمكن تجاهل العلاقة بين حركة الإصلاح الديني ونشوء الرأسمالية والدول القومية من جهة، وبين العلمانية من جهة أخرى. وخصخصة الدين أكبر دليل على أن ما بات يعرّف بوصفه «الدين»، أي هذا الشكل البروتستانتي من الدين الذي تمت كَونَنَته -أي جعله كونيًا- وإضفاء طابع جوهري عليه، كان وما زال حاضرًا في العلمانية، على الرغم من محاولة العلمانيين -أيديولوجيًا- نفي أي أصول دينية لها. فالعلمانية متصالحة مع شكل واحد من الدين، وهو الدين الفردي المخصخص، وتحاول باستمرار فرض كونه «الدين» الوحيد المشروع الحديث عنه ومناقشته، والذي يوجه إليه النقد كما يكال له المديح. ومن أجل أن يسود هذا النموذج من الدين الفردي المخصخص، يجب أن تُقمع أشكال الدين الجماعية على اختلافها. وبتعبير أسد: «وحدها الأديان التي وافقت على فرضيات الخطاب الليبرالي هي التي تمتدح ويوصى بها، وهذه الأديان هي التي تدعو للتسامح وتسعى إليه على أساس العلاقة المميزة بين القانون والأخلاق»10.
هذا ما تدعونا جوديث بتلر إلى التأمل فيه، حين تقول: «علينا أن نسأل أولًا كيف أصبح الدين خاصًا وهل نجحت المحاولة لجعل الدين خاصًا على الإطلاق؟ وأي دين دُفع به إلى المجال الخاص، وأي دين (..) يتم تداوله من دون سؤال في المجال العام (..). إن كان المجال العام إنجازًا بروتستانتيًا كما جادل العديد من الأكاديميين، إذن فإن الحياة العامة تفترض مسبقًا تقليدًا دينيًا مهيمنًا وتعيد تأكيده بوصفه يمثل العلماني»11.
عنف الحجب والإبراز
وحتى تتحقق خصخصة الدين بالشكل المطروح أعلاه، لا بد من تكريس الفصل بين الدين والسياسة، حتى على المستوى الفردي للسياسيين كأشخاص، لكن العلاقة بينهما متداخلة بشكل أعقد بكثير مما تصوّره هذه الأطروحة. فممارسة الدين و«تجربته» في الفضاءات الخاصة تعد حاسمة في تشكيل الأشخاص الذين سيعيشون في فضاء عام يمارسون فيه السياسة، بحسب أسد، بالتالي لا يمكن منع «تسرب» هذه التجربة «الخاصة» إلى الفضاء العام. كما أن «دائرة التأثير العامة ليست فضاء فارغًا تجرى المناظرات الجدلية في ساحته، بل إنها تتشكل من مشاعر المستمعين والمتحدثين»12، فكما لا يحضر السياسي إلى ساحة النقاش بمعزل عن تجربته الخاصة، لا يحضر المستمعون دونها كذلك، ولا توجد أي مساحة في هذا الفضاء العام يمكن اعتبارها «نقية» من الدين وغيره من التجارب والخلفيات التي تُحصر في المجال الخاص، ويُرفض وجودها في العلن، وتحديدًا في السياسة، كالعواطف والحميمية والروحانية.
حين تدخل الدولة على الدين من أجل تحديد مجاله، فلا مهرب من إعادة تعريف الدين، أو تحوله بالحد الأدنى
من أجل تكريس هذا الفصل، تحاول الدولة الليبرالية-العلمانية أن تلجم ظهور الدين في المجال العام، باعتباره انحرافًا عن «الدين المقبول»، المحصور في مجاله «الصحيح»، أي المجال الخاص. وفي الوقت الذي تستخدم فيه هذه الدولة العنف للحد من العواقب «العنيفة» لظهور الدين في المجال العام (انطلاقًا من افتراض أنه منتج للعنف بالضرورة)، فإنها تمارس كذلك عنفًا «مشروعًا» حين تفرض تعريفًا لدين كوني مخصخص، تنتج من خلاله «دينًا مقبولًا».
حين تدخل الدولة على الدين من أجل تحديد مجاله، فلا مهرب من إعادة تعريف الدين، أو تحوله بالحد الأدنى، أي أن الأمر ليس مجرد خيار سياسي. فالدولة الحديثة، بحسب الباحثة صبا محمود، أصبحت «رغم ادعائها بحيادية دينية، متورطة في ضبط الحياة الدينية وإدارتها لدرجة لا نظير لها، مما يؤدي إلى توريط الدولة في إشكالات ضخمة للممارسة والاعتقاد الدينيين»13. العلمانية بحسب محمود لم تكفل التعايش السلمي لهويات وعقائد متعددة، بل قامت بإنتاج «فرد متدين من نوع خاص متوافق مع عقلانية القاعدة السياسية الليبرالية وممارستها».
حين تتم مساءلة العلمانية من حيث كونها -كما هو الدين أيضًا- ظاهرة تاريخية تشكّلت وتتشكل في سياقات تؤثّر حكمًا على فحواها، لا بوصفها ظاهرة كونية قابلة للتعميم والنمذجة، فإن ذلك كثيرًا ما يثير ردود فعل متوجسة بوصفه أمرًا «متطرفًا» بشكل أو بآخر، وما يجعله يبدو كذلك هو بالتحديد كونه يخالف قواعد اللعبة المنصوص عليها في الأنظمة الليبرالية الحديثة. فالتعامل مع «الدين» باعتباره ظاهرة كونية لا تاريخية هو فعل حداثي مرتبط عضويًا بتكوين العلمانية. ومن أجل تكريس هذا الفعل، كانت هناك حاجة إلى فرض هيمنة نظام معرفي محدد، لذا، فإن العدة المعرفية لهذا النظام من مفاهيم وأفكار علمانية -كفصل «الديني» عن «السياسي»، و«العام» عن «الخاص»- باتت تبدو للكثيرين مسلّمات لا داعي لمساءلتها. لكن كشط سطح هذه المنظومة يكشف عن عمليات الإقصاء والإشهار، والتكريس والتهميش، التي جعلت هذه الأفكار «مسلمات»، ومنحتها السلطة التي تكتنفها حين يجري الحديث عنها اليوم.
__________
الهوامش:
1)خوسيه كازانوفا، «الأديان العامة في العالم الحديث»، ترجمة قسم اللغات الحية والترجمة في جامعة البلمند، مراجعة بولس وهبة. المنظمة العربية للترجمة، بيروت
2) كازانوفا، مصدر سابق، ٣٢.
3) طلال أسد، «تشكلات العلمانية في المسيحية والإسلام والحداثة»، ترجمة دينا حسن فرختو. دار جسور للترجمة والنشر، بيروت، ٢٠١٦. ص ١٢.
4) كازانوفا، مصدر سابق، ص ٣٤-٣٥.
5) كازانوفا، مصدر سابق، ص ٤٦.
6) كازانوفا، مصدر سابق، ص ٣٠-٣١.
7) جوديث بتلر وآخرون، «قوة الدي في المجال العام»، ترجمة فلاح رحيم. دار التنوير، بيروت، ٢٠١٣. ص ١١٤.
8) كازانوفا، مصدر سابق، ص ٥٢.
9) ماركوس درسلر وأرفيند – بال س. مانداير (تحرير)، «العلمانية وصناعة الدين»، ترجمة حسن احجيج. الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت، ٢٠١٧، ص15.
10) أسد، مصدر سابق، ص ٢٧٤.
11) بتلر، مصدر سابق، ص ١١٤.
12) أسد، مصدر سابق، ص ٧٧.
13) صبا محمود، «الاختلاف الديني في زمن علماني، تقرير حول الأقليات»، ترجمة كريم محمد. مركز نماء للبحوث والدراسات، بيروت، ٢٠١٧. ص ٢٧.