الإستقالات الحزبية : ممارسة مبدئية ، حلول فردية أم مسلكية انتهازية
بقلم: امحمد الهلالي
باتت بعض الموضوعات شبه قارة على جدول النقاش العمومي بمناسبة حلول بعض الاجندات السياسية من قبيل التحضير للاستتقاقات السياسية او بعد انطلاق الاعداد للحملات الانتخابية .
ومن هذه الموضوعات التي تكتسي اهمية خاصة في مثل هذه المناسبات، هنالك موضوع الاستقالات والمغادرات والالتحاقات بالاحزاب السياسية.
وبوصفي واحدا ممن راودته وتراوده مشاعر الاستقالة عن نفسه باستمرار، لكن في صمت، اريد ان اسهم في نقاش هذا الموضوع ليس في بعده الشخصي الذي يظل حرية فردية وحقا من حقوق الانسان، ولكن في بعده العمومي بوصفه شأنا سياسيا له صلة بالارساء الديموقراطي وبالتخليق السياسي وبتحصين الممارسة الديموقراطية من بعض آفاتها.
فمن الناحية المبدئية لا ممدوحة من التأكيد على أن الاستقالة من حزب او الالتحاق بآخر، لا يعدو ان يكون سوى تعبيرا عن حرية الارادة ويعد من صميم الممارسة الديمقراطية النابعة من قناعات وضمير ووجدان الانسان بوصفه انسانا، وان ممارستها
يدخل في المجال السياسي القائم في اصله على الاجتهاد المصلحي المبني على تعاقدات قابلة للمراجعة سواء بالاتفاق او بالارادة المنفردة لكل طرف من أطرافها.
فالقناعة تبقى في جوهرها دينامية وغير جامدة او محنطة وتتشكل باستمرار في ضوء التلاقح الحي والتفاعل المنتج والبحث المتواصل عن الصواب والنافع.
وفي هذا المستوى المبدئي والديموقراطي، يتفق جميع العقلاء على ان الاستقالة من اي حزب او الالتحاق باخر هي ممارسة نضالية مشروعة لكل مواطن، يمكن له ان يقوم بها متى شاء ومن اي حزب شاء، وقد تكون بحق اسلم طريقة وانجع حل بالنسبة للمناضل ولحزبه، خاصة عندما يصبح البقاء متعذرا أو عندما تمسي شروط التعاقد السياسي او الحزبي غير مواتية للطرفين او لاحدهما .
وفي هذا المستوى تحضر المرجعية الاخلاقية التي تؤكد على ان اخلاقيات الاجتماع الانساني وليس الاسري فقط، يتعين ان تؤطر بقيم اخلاقية وفكرية سامية من قبيل قيم المعروف والاحسان والصلح والفضل، سواء حين البقاء والاستمرار او في لحظة الفراق او حتى بعد هذا الافتراق.
فالإمساك بمعروف لتحسين شروط الاستمرار معا، او التسريح باحسان اذا تعذر اصلاح ذات البين، هو الفيصل في العمل المشترك. قال تعالى : “فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ” البقرة 229. اما اذا تعذر هذا الاستمرار او كان فيه عنت، فأن الافتراق هو الافضل وفيه لا ينبغي نسيان الفضل بين الطرفين قال تعالى “ولا تنسوا الفضل بينكم ان الله سميع بصير ” البقرة 237 .
لكن نفس هذه الممارسة الحرة ونفس هذا الحق الديموقراطي قد يتحول في الظروف التي تحيط به الى ما يناقضه ويسقطه في عكسه، من خلال الملابسات التي تتلبس به والسياقات التي تحيط به، فتكون الممارسة هي المحك للتمييز بين المبدئي والانتهازي في القيام بنفس الحق .
ومن هنا قد تكون الاستقالة ممارسة لحق طبيعي بغرض الاصلاح والتقويم ودق ناقوس الخطر اتجاه افة او للتخذير من بداية انخراف معين، وقد تتحول الى ممارسة مشينة وانتهازية بغرض الفساد والافساد او الاعانة عليهما.
وفي هذا الصدد تم النظر دائما الى هذه الممارسة على انها فعل نضالي بغاية الاصلاح الحزبي واعتبرت اخرى ترحالا سياسيا تستهدف ممانعة الاحزاب وحرية ارادتها واستقلال قرارها وعقابا لها على موقف معينة.
وقد تكون استقالات اخرى مجرد “تحياح سياسي” لممارسة التشويش الاعلامي والتثبيط النفسي الهادف الى صناعة مناخ العزوف النضالي المفضي الى العزوف السياسي وتبخيس السياسة .
ولهذا فقد درجت الادبيات السياسية الى وقت غير بعيد على تسمية الاستقالة او المغادرة من حزب بغاية الانضمام الى اخر، خاصة اذا اكتست طابعا جماعيا او اتخذت أشكالا منظمة وممنهجة، او حظيت بحفاوات خاصة، بالترحال السياسي.
هذه الممارسة ظلت ملازمة للحقل السياسي وبقيت تشكل الاداة الفضلى للتاديب الحزبي الى غاية الحسم فيها قانونيا، بعد نضال مستميت للاحزاب المعتبرة.
لقد تم التضيق على ممارسة الترحال السياسي الى ادنى مستوى لها، بمقتضى القانون التنظيمي للاحزاب السياسية في مادته 20 التي تجرد المستقيل من الانتداب في جماعة ترابية او غرفة مهنية في حال تغيبر الانتماء السياسي والمادة 90 من القانون التنظيمي لمجلس النواب التي تجرد المتخلي عن انتمائه الحزبي او عن فريقه او مجموعته النيابية .
وهي المقتضيات التي تم تقنينها على اثر عملية الترحال السياسي غير المسبوقة التي شهدها المغرب بتكوين اكبر فريق نيابي لحزب لم يشارك في انتخابات 2007 .
كما ظلت الاستقالات التي تمارس في مواعيد الاستحقاقات السياسية وبمناسبة التحضير للانتخابات او في موسم توزيع التزكيات، تنعت بالعمل الانتهازي وتصنف ضمن عمليات التخريب الممنهج للعمل الحزبي وتعد من الممارسات التي تحول دون عقلنة وتحديث ودمقرطة العمل السياسي والانتخابي، وكذا من ابرز عوامل الافساد السياسي والانتخابي ومن ادوات التبخيس السياسي .
ولهذه العوامل مجتمعة، ظلت الاحزاب التي تسمح بهذه الممارسة او تدخل في صفقاتها توسم بالدكاكين السياسية وبالمقاولات الانتخابية لا غير، كما ظل من يمارسها مقرونة باخراج معين وبالتزامن مع مواسم الانتقال الحزبي، ينعت بالسمسار السياس وبالانتماء الى اعيان الانتخابات.
وفي هذا الصدد يكون كل استدعاء للاعتبارات المبدئية او كل سعى للتأطيرا السياسي لها، مجرد عمل تبريري لممارستها او تمهيد للقيام بها عند الاقتضاء .
ومن هذا المنطلق فإن الاستقالات والمغادرات التي ظهرت في المراحل المتاخرة والتي حظيت باهتمام اعلامي مخدوم وباخراج احتفائي واحتفالي مصحوب ببراباكوندا اعلامية مدروسة، هي ممارسات وان انطوت على ابعاد شخصية واعتبارات لها صلة بتغيبر مشروع للقناعات والمواقف، فانها لا تخلو من ابعاد تسيسية ومرامي غير نزيهة على الاقل بالنسبة للمتاجرين بها .
لذلك، فأنه للتمييز بين المسيس والمبدئي في هذه استقالات يمكن الوقوف على السمات والخصائص التالية :
– مدى توفر المجاهرة في اعلان الاستقالة ونوع الاجواء التي ترافقها حيث كلما كان الاحتجاج والتحسر والم الفراق نكون امام المدئي، وكلما حضرت ابعداد الاحتفال والاحتفاء والفجور في القول والفحش في الخطاب والتبرؤ من الماضي والسعي الى المفاصلة مع رفاق الدرب والتنكر لهم ومحاولة الانتقام منهم، الا ونكون امام استقالة ابعد عن المبدئية ؛
– وكلما كانت الاستقالة في شكل اعلانها مسبوقة بتسريبات من المصادر المقربة تتلوها تأكيدات متدرجة، تفضي الى تبريرات المعنيبن، وتحظى بحفاوة خاصة من الجهات المستقبلة والمنابر الاعلامية الموضوعة رهن اشارتها، مع ختما بتقارير اخبارية “مهنية جدا” في عز الحملات الانتخابية من القنوات والاذاعات “المحايدة جدا” نكون امام استقالات لخدمة اجندات معينة او للتغطية عن ممارسات محددة.
– وكلما كانت مواعيد اشهار هذه الاستقالات او المغادرات قريبة من استحقاقات انتخابية او مواعيد تدبير التزكيات والترشيحات في ظل وجود مساطر وتقنينات واضحة كلما كانت هذه الاستقالات ذات اهداف خاصة وابعد من الممارسات المبدئية.
– وكلما كانت الاحزاب المستهدفة بها مستقلة في قرارها حرة في ارادتها متماسكة ومنظمة في صفوفها، معروفة بنضالها وحاملة لمشاريع مجتمعية جادة، وذات نفس اصلاحي ومرجعية اديلوجية مؤطرة، ومشهود لها بالديموقراطبة الداخلية في تقنين فرص التداول على تحمل المسؤولية التنظيمية والانتدابية وفي اشراك القواعد في ادارة شؤونها كلما كانت الدواعي والتبريرات شخصية وانتفاعية.
– وتعرف مبدئية ومصداقية الاستقالات ايضا من الحيثيات والدواعي المعلنة، فعندما تتصل بالمخاض الديموقراطي الطبيعي للاحزاب في بعض مراحل تطورها او بتصارع وتدافع الافكار والرؤى والاختيارات وتباين التقديرات والقراءات لبعض المراحل او المواقف بين قياداتها وتياراتها واجيالها، فان هذا النوع من الاستقالات يكون له دور حيوي ونافع حتى لهذه الاحزاب نفسها بحسبانها ادوات للضغط من اجل المراجعات الضرورية والتجديدات والابداعات المطلوبة للمواقف والرؤى والتصورات.
أما عندما تكون مرتبطة بالمواقع والتموقعات او بالموقف من الاشخاص أو عندما تخوض في النيات وترتبط بالمماسب والغنائم والتعويضات فهي من علامات الابتعاد عن المبدئية.
لهذا يتعين اعمال ادوات التحليل المعرفي والعلمي لدراسة الاستقالات في دواعيها وملابساتها وفي اغراضها من اجل فهمها وايجاد التوصيف المناسب لها وللرهانات المعقودة عليها وكذا للفرز بين مختلف انواعها تبعا للغرض منها.
فهناك استقالات نابعة عن قناعات سياسية او ناتجة عن مواقف نضالية يتعين احترامها، كما هنالك استقالات تمثل حلولا فردية او تعبر عن انسحابات تنظيمية صامتة لاسباب ذاتية او شخصية تبقى مشروعة ومحترمة .
كما توجد استقالات اخرى تمثل خروجا من ضيق الانتماءات الفرعية الى ساحات الانتماء الجامعة للفكرة او الوطن او للامة، او بغرض القيام بالشأن العام من ارض الله الواسعة، في تحرر من بعض الاكراهات او من غير انيحازات خاصة، وهي محمودة وتعبر عن اختيارات نضالية وفكرية سليمة واحيانا مرغوبة.
لكن هناك استقالات اخرى بمقاصد واغراض مشبوهة لا تستحق سوى الادانة والرفض كما رفض الترحال السياسي المفسد للحياة السياسية .
والسؤال الهام هو ما هو التوصيف الصحيح والمعيار الدقيق في التصنيف والتميبز بين هذه الاستقالات .
إن الادبيات السياسية المعاصرة ما زالت في مسيس الحاجة الى الى مزيد اهتمام بهذه الاستقالات والمغادرات لاسيما اذا كانت تهدف الى الالتحاق باحزاب معهود عليها الاعتماد على تدوير بعض النخب او السرقة الموصوفة للمرشحين والاطر سواء بالاغراء او الابتزاز والضغط، لاسيما اذا كانت هاته الاحزاب من الصنف الذي تراهن عليه السلطوية للقيام بادوار معينة سواء قبيل الانتخابات او بعد الاعلان عن نتائجها .
فقد تكون الاستقالة او المغادرة ممارسة للحرية وتجسيدا لقناعة ذاتية، بل وترقى الى أن تمثل حلا مناسبا وتطليقا او تسريحا باحسان اذا تعذرت المعاشرة التنظيمية والسياسية بمعروف.
وفي هذه الحالة فغالبا ما تكون المؤشرات عليها، مرتبطة بالاسباب المؤدية اليها من اختلاف حول موقف مبدئي او تباين في اختيار استراتيجي، او فقط ناتجة عن انتفاء ظروف العمل الجماعي الصحي والمنتج، وانعدام مناخ البذل والتضحية وانتقاص لفرصه. مما يجعلها في الغالب متزامنة من حيث توقيتها مع الظروف والاسباب التي ادت اليها؛ اذ يتم الاقدام عليها والافصاح عنها عقب وقوع المواقف او الوقائع المنتجة لها، مما يجعلها ممارسة تتم بشكل فردي وفي توقيتات مختلفة لا ترتبط سوى بتوقيت وسبب وقوعها وغير متصادفة بالضرورة مع مرحلة الاعداد للاستحقاقات السياسية او التنظيمية .
وفي مثل هذه الحلات يغلب على هذه الاستقالات طابع الصمت في ممارستها وعند الاقتضاء لا يزيد الافصاح عنها عن خبر مقتضب يعبر عن تحمل المسؤولية وعن الوضوح دونما ضجيج ولا حملات ولا اشهار ولا تبرير ولا فجور في المخاصمة ولا بحث عن مشجب لتعليقها عليه.
لكن الاستقالات عندما تكون متزامنة مع المواسم الانتخابية وترتبط بحملات اشهارية مدروسة، وعندما يتم اللجوء فيها الى استعمال ادوات تنتمي الى التخاصم والتفاجر، فهي لا تخلوا من مرامي خاصة وابعاد مسيسة سواء كانت مقصودة من المعني بالامر او ناتجة عن انجرار واستدراج اليها او السقوط غير الواعي ضحية للمخططات التي تقف وراء مراميها .
كل هذا دون قفز او اغفال عن الحالات التي يكون فيها المعني بالامر واقع تحت ضغط فوق طاقته أو فوق تحمله، اذ في هذه الحال لا يكلف الله نفسا الا وسعها مصداقا لقوله تعالى : “لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ۚ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ۗ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ۚ رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا ۚ رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ ۖ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا ۚ أَنتَ مَوْلَانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ” البقرة الاية 286.
غير ان استقالة المناضل من حزب معروف بنفسه النضالي وبانبعاثه من رحم الشعب، من أجل الالتحاق بحزب اداري أو سلطوي او حزب ضالع في البلوكاج او الانقلاب على الارادة الشعبية فهي استقالة تطرح اكثر من علامة استفهام ليس بالنسبة الى صلتها بما هو مبدئي او بالقناعات او بالعمل السياسي او الممارسة الديموقراطية وحسب، ولكن في ارتباطها بالممارسات الانتهازية للتسلق السياسي السريع وبدون جهد ذاتي او لحقيق المصالح الخاصة او للتربح من العمل السياسي او بهدف التغطية على وضعيات محددة وممارسات خاطئة.
ولذلك من الصعب ان يتفهم الناس ان يستقيل من كان يراهن على الاختيار النضالي وينطلق من القناعات المبدئية وينتمي الى مدرسة سياسية معروفة ذات مرجعية حقوقية او اديلوجية او او قيمية محددة، ليس رفضا لانحراف عن هذه الاختيارات أو المبادئ او التوجهات او المرجعيات او لزيغ عن حسن تمثل نماذجها او لاتساع الفجوة بين النظري والتطبيقي او بين القول والفعل في ممارساتها، ولكن فقط، من اجل الالتحاق بحزب اخر قد يشكل نقيضا لهذه القناعات التي ظل يحملها الى غاية توقيع هذه الاستقالة، دون ان يسبق ذلك بمراجعات فكرية ومن غير ان يمهد لذلك بالاعلان عن مراجعات او عن فك الارتهان مع هذه القناعات والافكار، او عن القيام بنقد ذاتي في اتجاه معين.
كما يستعصي على الفهم ان يعمد اصحاب هذه الاستقالات الى تسبيب استقالاتهم بحيثيات معينة او تدبيجها بمؤاخذات خاصة لكن في المقابل يعلنون الالتحاق الى وجهات حزبية منتقدة ومؤاخذة باضعاف مؤاخذات المستقيل عن حزبه السابق.
ولذلك فالاستقالة قد تكون احتجاجية او غاضبة او ناتجة عن تحول فكري او ايديلوجي
أو تغيير في منهج العمل وتبقى مبدئية ومحترمة، وقد تكون هذه الممارسات مجرد فقدان للامل في التغيير السياسي والاصلاح الديموقراطي او تعبا نضاليا او لضعف شخصي او انشغال اسري او مهني، حيث تتخذ كحلول فردية وتظل ممكنة ومتفهمة.
وفي المقابل قد تكون الاستقالة ممارسة انتهازية لتبييض افعال خاطئة او لتحقيق اغراض مشبوهة وهي في ذلك مرفوضة ومدانة .
والله اعلم